ﺟﺪﻳﺪ اﻟﻤﻮﻗﻊ

تفسير سورة الهمزة

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: السبت 6 ربيع الأول 1436هـ | عدد الزيارات: 2688 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد

سورة الهمزة مكية وآياتها 9

بسم الله الرحمن الرحيم

وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا ۖ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ

قوله تعالى "ويل" مبتدأ خبره "لكل همزة لمزة" وصاغ الإبتداء به مع كونه نكرة لأنه دعاء عليهم بالهلكة .

وقيل إن هذه السورة نزلت في الأخنس بن شريق فإنه كان ضارياً بالغيبة والوقيعة وقيل في أمية بن خلف وقيل في الوليد بن المغيرة واغتيابه لرسول صلى الله عليه وسلم وغضه من جنابه الرفيع، ولا تعارض بين الأقوال في الأشخاص لأن السورة مكية وهؤلاء كلهم من كفار قريش وماتوا على الكفر .

و"ويل" أي وعيد ووبال وشدة عذاب، "لكل همزة لمزة" أي الذي يهمز الناس بفعله ويلمزهم بقوله فالهماز الذي يعيب الناس ويطعن عليهم بالإشارة بالفعل واللماز الذي يعيبهم بقوله ومن صفة هذا الهماز أنه لا هم له سوا جمع المال وتمديده والغبطة به وليس له رغبة في إنفاقه في طرق الخيرات وصلة الأرحام ونحو ذلك .

نعم تعكس هذه السورة من الصور الواقعية في حياة الدعوة في عهدها الأول. وهي في الوقت ذاته نموذج يتكرر في كل بيئة ، صورة اللئيم الصغير النفس، الذي يؤتى المال فتسيطر نفسه به، حتى ما يطيق نفسه ويروح يشعر أن المال هو القيمة العليا في الحياة ، القيمة التي تهون أمامها جميع القيم وجميع الأقدار: أقدار الناس وأقدار المعاني وأقدار الحقائق وأنه وقد ملك المال فقد ملك كرامات الناس وأقدارهم بلا حساب .
كما يروح يحسب أن هذا المال إله قادر على كل شيء؛ لا يعجز عن فعل شيء حتى دفع الموت وتخليد الحياة ودفع قضاء الله وحسابه وجزائه إن كان هناك في نظره حساب وجزاء .
ومن ثم ينطلق في هوس بهذا المال يعده ويستلذ بتعداده؛ وتنطلق في كيانه نفخة فاجرة، تدفعه إلى الاستهانة بأقدار الناس وكراماتهم ولمزهم وهمزهم ، يعيبهم بلسانه ويسخر منهم بحركاته سواء بحكاية حركاتهم وأصواتهم، أو بتحقير صفاتهم وسماتهم بالقول والإشارة بالغمز واللمز باللفتة الساخرة والحركة الهازئة .
وهي صورة لئيمة حقيرة من صور النفوس البشرية حين تخلو من المروءة وتعرى من الإيمان والإسلام يكره هذه الصورة الهابطة من صور النفوس بحكم ترفعه الأخلاقي وقد نهى عن السخرية واللمز والعيب في مواضع شتى إلا أن ذكرها هنا بهذا التشنيع والتقبيح مع الوعيد والتهديد، يوحي بأنه كان يواجه حالة واقعية من بعض المشركين تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجاه المؤمنين فجاء الرد عليها في صورة الردع الشديد، والتهديد الرعيب .
والتهديد يجيء في صورة مشهد من مشاهد القيامة يمثل صورة للعذاب مادية ونفسية، وصورة للنار حسية ومعنوية وقد لوحظ فيها التقابل بين الجرم وطريقة الجزاء وجو العقاب فصورة الهمزة اللمزة، الذي يدأب على الهزء بالناس وعلى لمزهم في أنفسهم وأعراضهم، وهو يجمع المال فيظنه كفيلاً بالخلود في قوله تعالى "يحسب" أي يعتقد "أن ماله أخلده" في الدنيا فلذلك كان كده وسعيه في تنمية ماله الذي يظن أنه ينمي عمره .

صورة هذا المتعالي الساخر المستقوي بالمال، تقابلها صورة المنبوذ المهمل المتردي في {الحطمة} قال تعالى "كلا لينبذن في الحطمة " أي ليطرحن في الحطمة التي تحطم كل ما يلقى فيها، فتحطم كيانه وكبرياءه. قوله تعالى "وما أدراك ما الحطمة" تعظيماً لها وتهويل لشأنها ثم فسرها بقوله {نار الله الموقدة} التي وقودها الناس والحجارة و "التي" من شدتها "تطلع على الأفئدة" أي تنفذ الأجسام إلى القلوب وإضافتها لله وتخصيصها هكذا يوحي بأنها نار فذة، غير معهودة، ويخلع عليها رهبة مفزعة رعيبة وهي {تطلع} على فؤاده الذي ينبعث منه الهمز واللمز، وتكمن فيه السخرية والكبرياء والغرور وتكملة لصورة المحطم المنبوذ المهمل ، هذه النار مغلقة عليه، لا ينقذه منها أحد، ولا يسأل عنه فيها أحد .

قال تعالى "إنها عليهم مؤصدة" أي مغلقة "في عمد" من خلف الأبواب "ممددة" لئلا يخرجوا منها

لقد كان القرآن يتابع أحداث الدعوة ويقودها في الوقت ذاته ، وكان هو السلاح البتار الصاعق الذي يدمر كيد الكائدين، ويزلزل قلوب الأعداء، ويثبت أرواح المؤمنين .
وإنا لنرى في عناية الله سبحانه بالرد على هذه الصورة معنيين كبيرين
الأول: تقبيح الهبوط الأخلاقي وتبشيع هذه الصورة الهابطة من النفوس
والثاني: المنافحة عن المؤمنين وحفظ نفوسهم من أن تتسرب إليها مهانة الإهانة، وإشعارهم بأن الله يرى ما يقع لهم، ويكرهه، ويعاقب عليه وفي هذا كفاية لرفع أرواحهم واستعلائها على الكيد اللئيم .

ونستفيد من هذه السورة أن يحترم بعضنا بعضاً ونتواضع لبعض بعيدين عن الهمز واللمز لإخواننا المسلمين .

اللهم حسِّن أخلاقَنا وأعذْنَا من النار.

تم تفسير سورة الهمزة ولله الحمد والمنة.

5 - 3 - 1436هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

4 + 5 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 118 الجزء الثالث ‌‌هل الرسول أوصى بالخلافة لعلي رضي الله عنه ؟ - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 116 الجزء الثالث حكم التوسل بالموتى وزيارة القبور - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 115 الجزء الثالث ‌‌حكم ما يسمى بعلم تحضير الأرواح  . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 114 الجزء الثالث ‌‌إيضاح الحق في دخول الجني في الإنسي والرد على من أنكر ذلك  . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 113 الجزء الثالث : تابع الدروس المهمة لعامة الأمة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر