ﺟﺪﻳﺪ اﻟﻤﻮﻗﻊ

تفسير سورة الفلق

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: السبت 18 ربيع الثاني 1436هـ | عدد الزيارات: 3476 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد

سورة الفلق مكية وآياتها 5

بسم الله الرحمن الرحيم

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ

هذه السورة والتي بعدها توجيه من الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، للعياذ بالله من كل مخوف: خاف وظاهر، مجهول ومعلوم، على وجه الإجمال

و تبدأ كل منهما بهذا التوجيه {قل: أعوذ برب الفلق} {قل: أعوذ برب الناس}

وعن فضلهما روى عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألم تر آيات أنزلت الليلة لم يُر مثلهن قط ؟ قل أعوذ برب الفلق ، و قل أعوذ برب الناس" رواه مسلم، وعن جابر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ يا جابر قلت : وماذا أقرأ بأبي أنت وأمي يا رسول الله ؟ قال: اقرأ قل أعوذ برب الفلق و قل أعوذ برب الناس» فقرأتهما فقال: «اقرأ بهما فلن تقرأ بمثلهما " رواه النسائي وصححه الألباني .

{قل أعوذ برب الفلق} أي قل متعوذاً "أعوذ" أي ألجأ وألوذ وأعتصم "برب الفلق" أي فالق الحب والنوى وفالق الإصباح والفلق من معانيه الصبح، {من شر ما خلق} وهذا يشمل جميع ما خلق الله من إنس وجن وحيوانات فيستعاذ بخالقها من الشر الذي فيها أي من شر خلقه إطلاقاً وإجمالاً وللخلائق شرور في حالات اتصال بعضها ببعض كما أن لها خيراً ونفعاً في حالات أخرى والاستعاذة بالله هنا من شرها ليبقى خيرها والله الذي خلقها قادر على توجيهها وتدبير الحالات التي يتضح فيها خيرها لا شرها {ومن شر غاسق إذا وقب} والغاسق في اللغة الدافق، والوقب النقرة في الجبل يسيل منها الماء والمقصود هنا غالباً هو الليل وما فيه الليل حين يتدفق فيغمر البسيطة والليل حينئذ مخوف بذاته فضلاً على ما يثيره من توقع للمجهول الخافي من كل شيء: من وحش مفترس يهجم ومتلصص فاتك يقتحم وعدو مخادع يتمكن وحشرة سامة تزحف ومن وساوس وهواجس وهموم وأشجان تتسرب في الليل، وتخنق المشاعر والوجدان، ومن شهوة تستيقظ في الوحدة والظلام ومن ظاهر وخاف يدب ويثب، في الغاسق إذا وقب، أي الليل إذا دخل {ومن شر النفاثات في العقد} أي من شر ما يكون في الليل حين يغشى النعاس وينتشر فيه كثير من الأرواح الشريرة والحيوانات المؤذية و النفاثات في العقد: أي ومن شر السواحر اللاتي يستعن على سحرهن بالنفث في العقد التي يعقدنها على السحر

والسحر لا يغير من طبيعة الأشياء؛ ولا ينشئ حقيقة جديدة لها ولكنه يخيل للحواس والمشاعر بما يريده الساحر وهذا هو السحر كما صوره القرآن الكريم في قصة موسى عليه السلام في سورة طه {قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى * قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى * فأوجس في نفسه خيفة موسى * قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى * وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى} طه 65 - 69 ، وهكذا لم تنقلب حبالهم وعصيهم حيات فعلاً، ولكن خيل إلى الناس وموسى معهم أنها تسعى إلى حد أن أوجس في نفسه خيفة، حتى جاءه التثبيت ثم انكشفت الحقيقة حين انقلبت عصا موسى بالفعل حية فلقفت الحبال والعصي المسحورة .

وهذه هي طبيعة السحر كما ينبغي لنا أن نسلم بها وهو بهذه الطبيعة يؤثر في الناس، وينشئ لهم مشاعر وفق إيحائه مشاعر تخيفهم وتؤذيهم وتوجههم الوجهة التي يريدها الساحر، وعند هذا الحد نقف في فهم طبيعة السحر والنفث في العقد وهي شر يستعاذ منه بالله، ويلجأ منه إلى حماه .

وقد ثبت أن لبيد بن الأعصم اليهودي سحر النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة ، لما روى البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت :"سَحَرَ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رَجُلٌ مِن بَنِي زُرَيْقٍ، يُقَالُ له لَبِيدُ بنُ الأعْصَمِ، حتَّى كانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُخَيَّلُ إلَيْهِ أنَّه كانَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وما فَعَلَهُ، حتَّى إذَا كانَ ذَاتَ يَومٍ أوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ وهو عِندِي، لَكِنَّهُ دَعَا ودَعَا، ثُمَّ قَالَ: يا عَائِشَةُ ، أشَعَرْتِ أنَّ اللَّهَ أفْتَانِي فِيما اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ، أتَانِي رَجُلَانِ، فَقَعَدَ أحَدُهُما عِنْدَ رَأْسِي، والآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ أحَدُهُما لِصَاحِبِهِ: ما وجَعُ الرَّجُلِ؟ فَقَالَ: مَطْبُوبٌ، قَالَ: مَن طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بنُ الأعْصَمِ، قَالَ: في أيِّ شيءٍ؟ قَالَ: في مُشْطٍ ومُشَاطَةٍ، وجُفِّ طَلْعِ نَخْلَةٍ ذَكَرٍ. قَالَ: وأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: في بئْرِ ذَرْوَانَ فأتَاهَا رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في نَاسٍ مِن أصْحَابِهِ، فَجَاءَ فَقَالَ: يا عَائِشَةُ، كَأنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ، أوْ كَأنَّ رُؤُوسَ نَخْلِهَا رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ: أفلا اسْتَخْرَجْتَهُ؟ قَالَ: قدْ عَافَانِي اللَّهُ، فَكَرِهْتُ أنْ أُثَوِّرَ علَى النَّاسِ فيه شَرًّا فأمَرَ بهَا فَدُفِنَتْ. "

{ومن شر حاسد إذا حسد} والحاسد هو الذي يحب زوال النعمة عن المحسود فيسعى في زوالها فاحتيج إلى الإستعاذ بالله من شره وإبطال كيده ويدخل في الحاسد العاين لأنها لا تصدر العين إلا من حاسد شرير الطبع خبيث النفس فهذه السورة تضمنة الإستعاذة من جميع أنواع الشرور عموماً وخصوصاً ودلت على أن السحر له حقيقة يخشى من ضرره ويستعاذ بالله منه ومن أهله والخلاصة أن الحسد انفعال نفسي إزاء نعمة الله على بعض عباده مع تمني زوالها وسواء أتبع الحاسد هذا الانفعال بسعي منه لإزالة النعمة تحت تأثير الحقد والغيظ، أو وقف عند حد الانفعال النفسي، فإن شراً يمكن أن يعقب هذا الانفعال.

والله برحمته وفضله هو الذي يوجه رسوله صلى الله عليه وسلم وأمته من ورائه إلى الاستعاذة به من هذه الشرور ومن المقطوع به أنهم متى استعاذوا به وفق توجيهه أعاذهم وحماهم من هذه الشرور ، وقد روى البخاري بإسناده عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان إذا آوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه، ثم نفث فيهما، وقرأ فيهما، {قل هو الله أحد} و{قل أعوذ برب الفلق} و{قل أعوذ برب الناس} ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات» .

اللهم احفظنا من شرور الحاسدين وحقد الحاقدين وكيد السحرة الفاسقين

تم تفسير سورة الفلق ولله الحمد والمنة

1436-4-18 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

7 + 4 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 118 الجزء الثالث ‌‌هل الرسول أوصى بالخلافة لعلي رضي الله عنه ؟ - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 116 الجزء الثالث حكم التوسل بالموتى وزيارة القبور - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 115 الجزء الثالث ‌‌حكم ما يسمى بعلم تحضير الأرواح  . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 114 الجزء الثالث ‌‌إيضاح الحق في دخول الجني في الإنسي والرد على من أنكر ذلك  . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 113 الجزء الثالث : تابع الدروس المهمة لعامة الأمة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر