الدرس 246 التوازن بين الدنيا والآخرة

المقال
التصنيف : تاريخ النشر: السبت 23 شوال 1436هـ | عدد الزيارات: 9240 القسم: الفوائد الكتابية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وبعد

إن الاختلال في توازن أمور الدنيا والآخرة كان ولا يزال أحد الأسباب التي جعلت المسلمين يتعثرون في نهضتهم، ويضعفون في الوصول إلى أهدافهم.

إن البعض يحملون مفهوماً خاطئاً عن التوازن بين الدنيا والآخرة، فتراهم يطربون عندما يسمعون قصص الزهاد الذين يتركون الدنيا كلها، والواعظ الذي يذم الدنيا دائماً يقبل الناس عليه ويسمعون منه، ويُعجبون به.

وأيّ خلل في فهم هذه المعادلة سيؤدي إلى أخطاء كبيرة وتقصير عما يريده الله سبحانه وتعالى

قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وقِنَا عَذَابَ النَّار. البقرة: 202، الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي من عافية ودار رحبة، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هين، وثناء جميل، والحسنة في الآخرة أعلاها دخول الجنة وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر وتيسير الحساب. انتهى

فالدنيا في المفهوم الإسلامي الصحيح وسيلة وذريعة لتحصيل مقاصد الشريعة، والكسب في الدنيا من الواجبات؛ لأنه لا يستطيع الاستقلال بالعبادة إلا بتأمين ضروريات حياته، وكل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فإذا كانت الدنيا بهذه المثابة وأنها منـزل وممر لا موطن ومقر، فالآخرة هي دار الجزاء، قال الله تعالى: فَإذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وإلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ. الضحى: 7-8

أحبتي: عندما يبتعد الناس عن منهج الأنبياء وعن اتباع الشرائع الإلهية، تصبح الدنيا محورهم الأساس، وهي آمالهم وموضع لذاتهم، ويصبحوا عبيداً لها ولا فكاك لهم من أسرها غير أنه جاء القرآن الكريم ليصحح هذه الأوضاع ويضع المسلم على الجادة المستقيمة، فالدنيا ليست غاية وإنما وسيلة، ولا بد من إعمارها ففي هذه الدنيا نعبد الله، وفي هذه الدنيا نتعلم، وفي هذه الدنيا نجاهد قال الله تعالى: إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَاد غافر: 51، ولَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُون الأنبياء: 105 نَحْنُ أَوْلَيَاؤُكُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَة فصلت: 31 فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَة آل عمران: 148 قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِه الأعراف: 32 وذِكر الزينة في هذا المجال له دلالته الخاصة، إذ الزينة جمال، والجمال شيء زائد على الضرورة

وأما ما جاء في القرآن من ذم للدنيا فهو لتأديب المسرفين وكبح جماح المفرطين كقوله تعالى: ومَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إلاَّ لَعِبٌ ولَهْو الأنعام: 32 وقوله تعالى: واضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً الكهف: 45 فهي دعوة إلى عدم التعلق بالدنيا الفانية وأنها قصيرة لا تستحق أن تُجعل غاية، كقوله سبحانه: ورَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا واطْمَأَنُّوا بِهَا يونس: 7

وقد بعث الله الأنبياء هداة للبشرية ولم يكن من منهجهم الإعراض عن عمارة الدنيا، قال تعالى حكاية عن هود عليه السلام: واذْكُرُوا إذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وزَادَكُمْ فِي الخَلْقِ بَسْطَة الأعراف: 69 وقوله تعالى على لسان صالح: وإلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ واسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا هود: 61

وأما قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر فهي سجن بالنسبة لما ينتظره في الآخرة من جنات، وجنة الكافر بالنسبة لما ينتظره في الآخرة من العذاب

وكذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، فذكر الله وما والاه هو كل عمل خير يقصد به إقامة الدين، وهذا مطلوب في الدنيا ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: ما من مسلم غرس غرساً فأكل منه إنسان أو دابة إلا كان له صدقة

وحياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- العملية من الدعوة والجهاد وإقامة الدولة الإسلامية، أكبر دليل على هذا التوازن فلم يمنع الصحابة اشتغالهم بالتجارة أو الزراعة من الجهاد والتعلم ونشر الإسلام

أعزائي:

الصحابة -رضوان الله عليهم- هم القدوة وهم النموذج في فهم الإسلام، وأقوالهم وأفعالهم هي التي تدل على هذا الفهم، وبالرجوع إلى سيرتهم نجد أن حياتهم كانت طبيعية ليس فيها تكلف وتعمق، يأخذون بالأسباب في الكسب من تجارة وزراعة أو عمل يدوي، ويخصصون جزءاً من أوقاتهم للعلم، وإذا دعا داعي الجهاد فهم الرجال، وفيهم الأغنياء دون بطر، والفقراء مع التعفف، كانوا أبعد الناس عن التهالك على الدنيا، فتحوا البلدان وأنشئوا المدن، وأقاموا الدول.

إخواني:

الإسلام يحث على العمل والكسب: قال سفيان بن عيينة: ليس من حب الدنيا أن تطلب منها ما يصلحك وعن الإمام أحمد: أَحبُّ الدراهم إليّ درهم من تجارة، وأكرهها عندي الذي من صلة الإخوان.

وعن سعيد بن المسيب قال: لا خير فيمن لا يطلب المال يقضي به دينه، ويصون به عرضه، ويقضي به ذمامه، وإن مات تركه ميراثاً لمن بعده

وقد جاء في القرآن عن داود -عليه السلام-: وعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُم الأنبياء: 80، وصح عن زكريا -عليه السلام- أنه كان نجاراً، وأما ما اشتهر بعدئذ من احتقار للمهن، فهذا شيء دخل على المسلمين من قبل الفلاسفة اليونانيين الذين كانوا يعظمون العمل العقلي ويحتقرون المهن، ويرتبون المجتمع طبقات حسب أهوائهم.

إن الاستمتاع بالدنيا وملاذها والترفه فيها وإن كان بالحلال، لكنه يوشك أن يؤدي بالمؤمن إلى حبها والتعلق بها، فالمؤمن يبقى على حذر منها ويبتعد عن مواطن الزلل والشبهات، ويعوّد نفسه على العيش الخشن حتى يكون على استعداد للتضحية في أي وقت، وهذا لا يمنع من لبس الثوب الحسن والنعل الحسن؛ كما سأل أحد الصحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن التجمل بهذا وحبه للنظافة في مسكنه وثوبه، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: إن الله جميل يحب الجمال وهذا لا ينقص درجته عن الذي يفضل الخشونة في مأكله أو ملبسه

وأما قول الله تعالى: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا واسْتَمْتَعْتُم بِهَا الأحقاف: 20، فالتحقيق أنها في الكفار وليست في المؤمنين الذين يتمتعون باللذات التي أباحها الله لهم، لأنه –تعالى- ما أباحها لهم ليذهب بها حسناتهم وقال سعيد بن جبير: متاع الغرور ما يلهيك عن طلب الآخرة، وما لم يلهك فليس بمتاع الغرور، ولكنه متاع بلاغ إلى ما هو خير منه

وبالله التوفيق

1436/10/23 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

4 + 5 =

/500
روابط ذات صلة
المقال السابق
الفوائد الكتابية المتشابهة المقال التالي