تفسير سورة النبأ

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الإثنين 22 ربيع الثاني 1437هـ | عدد الزيارات: 2495 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد

سورة النبأ مكية وآياتها 40

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلا سَيَعْلَمُونَ

يقول تعالى منكراً على المشركين في تساؤلهم عن يوم القيامة إنكاراً لوقوعها (عم يتساءلون *عن النبأ العظيم) عن أي شيء يسأل بعض كفار قريش بعضاً ، ثم بيَّن ما يتساءلون عنه فقال ( عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ) أي عن الخبر العظيم الذي طال فيه نزاعهم، وانتشر فيه خلافهم على وجه التكذيب والاستبعاد، وهو النبأ الذي لا يقبل الشك ولا يدخله الريب، ولكن المكذبون بلقاء ربهم لا يؤمنون، ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم .

ولهذا قال ( كَلا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلا سَيَعْلَمُونَ ) أي سيعلمون إذا نزل بهم العذاب ما كانوا به يكذبون ، ثم بين تعالى النعم والأدلة الدالة على صدق ما أخبرت به الرسل فقال :

أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا * وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا * وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا

أي: أما أنعمنا عليكم بنعم جليلة، فجعلنا لكم (الأرْضَ مِهَادًا) أي ممهدة مهيأة لكم ولمصالحكم، من الحروث والمساكن والسبل، ذلولاً لكم قارة ساكنة ثابتة، فهي ممهدة لكم كالفراش، (وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا) تمسك الأرض لئلا تضطرب بكم وتميد، فأرساها بها وثبتها وقررها حتى سكنت ولم تضطرب بمن عليها، فهذه الجبال جعلها الله رواسي للأرض كي لا تتحرك بكم، ( وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا ) أي ذكورا وإناثا من جنس واحد، ليسكن كل منكما إلى الآخر، فتكون المودة والرحمة، وتنشأ عنكما الذرية، ويحصل التناسل ( وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ) أي راحة لكم، وقطعا لأشغالكم، التي متى تمادت بكم أضرت بأبدانكم، فجعل الله الليل والنوم يغشاكم لتنقطع حركاتكم الضارة، وتحصل راحتكم النافعة،(وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ) أي سبع سماوات، في غاية القوة، والصلابة والشدة متينة البناء محكمة الخلق لا صدوع فيها ولا فطور، وقد أمسكها الله بقدرته، وجعلها سقفا للأرض، فيها عدة منافع لكم، ولهذا ذكر من منافعها الشمس فقال ( وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ) نبه بالسراج على النعمة بنورها، الذي صار كالضرورة للخلق، وبالوهاج الذي فيه الحرارة على حرارتها وما فيها من المصالح ( وَأَنزلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ ) أي السحاب ( مَاءً ثَجَّاجًا ) الثج في الصب المتتابع الكثير، (لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا) أي لنخرج بهذا الماء الكثير الطيب النافع المبارك (حباً) للناس والأنعام (ونباتاً) أي خضراً يؤكل رطباً ( وَجَنَّاتٍ) أي بساتين وحدائق من ثمرات متنوعة وألوان مختلفة وطعوم وروائح متفاوتة وإن كان ذلك في بقعة واحدة من الأرض مجتمعاً ولهذا قال (وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا) مجتمعة .

فالذي أنعم عليكم بهذه النعم العظيمة التي لا يُقدر قدرها ولا يُحصى عددها كيف تكفرون به وتكذبون ما أخبركم به من البعث والنشور؟ أم كيف تستعينون بنعمه على معاصيه وتجحدونها ؟

إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا * يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا * وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا * وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا * إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلطَّاغِينَ مَآبًا * لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا * لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا * إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا * إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا * وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا * وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا * فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلا عَذَابًا

ذكر تعالى ما يكون في يوم القيامة الذي يتساءل عنه المكذبون، ويجحده المعاندون، أنه يوم عظيم، وأن الله جعله ( مِيقَاتًا ) للخلق، (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا ) يعني تأتي كل أمة مع رسولها ، وعن أبي هريرة رضى الله عنه قال : قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما بيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أرْبَعُونَ).رواه البخاري ومسلم ويجري فيه من الزعازع والقلاقل ما يشيب له الولدان، وتنزعج له القلوب، وتشقق السماء حتى تكون أبوابا، لنزول الملائكة (وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا) أي يخيل إلى الناظر أنها شيء وليست بشيء وبعد هذا تذهب بالكلية فلا عين ولا أثر ، وقوله: (إن جهنم كانت مرصادا) أي مرصدة معدة (للطاغين) وهم المردة العصاة المخالفون للرسل (مآبا) أي مرجعاً ومنقلباً مصيراً ونزلاً، وقوله (لابثين فيها أحقاباً) أي ماكثين فيها أحقاباً وهي جمع حقب وهي المدة من الزمان، قال ابن جرير قال علي بن أبي طالب لهلال الهجري: ما تجدون الحقب في كتاب الله المنزل قال نجده ثمانين سنة كل سنة اثنا عشر شهراً كل شهر ثلاثون يوماً، كل يوم ألف سنة، وهكذا روي عن أبي هريرة وعبد الله بن عمر وابن عباس وسعيد بن جبير وعمرو بن ميمون والحسن وقتادة والربيع بن أنس والضحاك، وهذه الحقب لا انقضاء لها كما قال قتادة والربيع بن أنس .

وهم إذا وردوها ( لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا ) أي لا ما يبرد جلودهم، ولا ما يدفع ظمأهم قال أبو العالية استثنى من البرْد الحميم من الشراب الغساق وكذا قال الربيع بن أنس ( إِلا حَمِيمًا ) فهو الحار الذي قد انتهى حره وحموه،(وَغَسَّاقًا) هو ما اجتمع من صديد أهل النار وعرقهم ودموعهم وجروحهم فهو بارد لا يستطاع ولا يواجه من نتنه، وإنما استحقوا هذه العقوبات الفظيعة (جَزَاءً وِفَاقًا) على ما عملوا من الأعمال الموصلة إليها، لم يظلمهم الله، ولكن ظلموا أنفسهم، ولهذا ذكر أعمالهم، التي استحقوا بها هذا الجزاء، فقال ( إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا ) أي لا يؤمنون بالبعث، ولا أن الله يجازي الخلق بالخير والشر، فلذلك أهملوا العمل للآخرة ( وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا ) أي كذبوا بها تكذيبا واضحا صريحا وجاءتهم البينات فعاندوها، ( وَكُلَّ شَيْءٍ ) من قليل وكثير، وخير وشر ( أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا ) أي كتبناه في اللوح المحفوظ، فلا يخشى المجرمون أنا عذبناهم بذنوب لم يعملوها، ولا يحسبوا أنه يضيع من أعمالهم شيء، أو ينسى منها مثقال ذرة ، (فَذُوقُوا) أي يقال لأهل النار ذوقوا ما أنتم فيه ،(فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا) أي يزداد عذابكم.

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَأْسًا دِهَاقًا * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا * جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا

لما ذكر حال المجرمين ذكر مآل المتقين السعداء وما أعد لهم تعالى من الكرامة والنعيم المقيم فقال (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا) متنزهاً أي الذين اتقوا سخط ربهم، بالتمسك بطاعته، والانكفاف عما يكرهه فلهم متنزهاً، وفي ذلك المتنزه لهم ( حَدَائِقَ ) وهي البساتين الجامعة لأصناف الأشجار الزاهية، في الثمار التي تتفجر بين خلالها الأنهار، (وَأَعْنَابًا) وخص الأعناب لشرفها وكثرتها في تلك الحدائق، ولهم فيها زوجات على مطالب النفوس ( وكَوَاعِبَ أَتْرَابًا) أي حوراً كواعب (وكواعب) أي نواهد يعنون أن ثديهن نواهد لم يتدلين لأنهن أبكاراً عرباً أتراباً في سن واحدة ( وَكَأْسًا دِهَاقًا ) مملوءة متتابعة، أي مترعة قال أدهق الحوض أي ملأه( لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا ) أي ليس فيها كلام لاغ عار عن الفائدة ولا إثم كذب بل هي دار السلام وكل كلام فيها سالم من النقص، ( جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا) أي هذا الذي ذكرناه جزاهم الله به وأعطاهموه بفضله ومنه وإحسانه ورحمته (عَطَاءً حِسَابًا) أي كافياً وافراً شاملاً كثيراً تقول العرب أعطاني فأحسبني أي كفاني ومنه (حسبي الله) أي الله كافي .

رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا * يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا * ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا * إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا

يخبر تعالى عن عظمته وجلاله وأنه رب السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وأنه الرحمن الذي شملت رحمته كل شيء وقوله (لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا) أي لا يقدر أحد على ابداء مخاطبته إلا بإذنه ، وقوله (يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون) المراد بالروح هو جبريل ، وقوله (إلا من أذن له الرحمن)، وكما ثبت في صحيح البخاري (ولا يتكلم يومئذ أحد إلا الرسل) وقوله (وقال صواباً) أي حقاً، فعلى هذا لا أحد يتكلم إلا الرسل بشرطين الشرط الأول : أن يأذن الله له، والشرط الثاني: أن يقول صواباً، وقوله (ذلك اليوم الحق) أي الكائن لا محالة (فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا) أي مرجعاً وطريقاً يهتدي إليه ومنهجاً يمر به عليه وقوله (إنا أنذرناكم عذاباً قريباً) يعني يوم القيامة لتأكد وقوعه وصار قريباً لأن كل ما هو آت آت (يوم ينظر المرء ما قدمت يداه) أي تعرض عليه جميع أعماله خيرها وشرها قديمها وحديثها (ويقول الكافر ياليتني كنت تراباً) أي يود الكافر يومئذ أنه كان في الدار الدنيا تراباً ولم يكن خُلق ولا خرج إلى الوجود وذلك حين عاين عذاب الله ونظر إلى أعماله الفاسدة قد عرضت عليه بأيدي الملائكة السفرة والكرام البررة .

نسأل الله أن يعافينا من الكفر والشر كله، إنه جواد كريم

تم تفسير سورة النبأ ولله الحمد والمنة

22 - 4 - 1437هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

6 + 8 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 124 الجزء الثالث ‌‌أهمية الغطاء على وجه المرأة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 123 الجزء الثالث ‌‌حكم قيادة المرأة للسيارة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر