تفسير سورة الحاقة

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الثلاثاء 9 شهر رمضان 1437هـ | عدد الزيارات: 5460 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد

سورة الحاقة مكية وآياتها 52 آية

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَاقَّةُ 1 مَا الْحَاقَّةُ 2 وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ 3 كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ 4 فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ 5

قوله (الْحَاقَّةُ) من أسماء يوم القيامةُ سميت حاقة لأن فيها يتحقق الوعد والوعيد ولأنها تحق وتنزل بالخلق وتظهر فيها حقائق الأمور ومخبآت الصدور ولأنها حقت فلا كاذبة لها ولأن فيها يحق الجزاء على الأعمال، أي يجب يقال: حق عليه الشيء إذا وجب يحق حقوقا ، قال الكسائي: « الحاقة » يوم الحق (مَا الْحَاقَّةُ) هذا استفهام معناه التفخيم لشأنها (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ) أي أنك لا تعلمها إذ لم تعاينها ولم تر ما فيها من الأهوال (كَذَّبَتْ ثَمُودُ) وهم القبيلة المشهورة سكان الحجر شمال غرب بلاد الحرمين حالياً الذين أرسل الله إليهم رسوله صالحاً عليه السلام ينهاهم عما هم عليه من الشرك ويأمرهم بالتوحيد فردوا دعوته وكذبوه وكذبوا ما أخبر به من يوم القيامة وهي القارعة التي تقرع الخلق بأهوالها، (وَعَادٌ) عاد الأولى سكان حضرموت (جنوب اليمن) حيث بعث الله إليهم رسوله هوداً عليه الصلاة والسلام يدعوهم إلى عبادة الله وحده فكذبوه وأنكروا ما أخبر به من البعث فأهلك الله الطائفتين بالهلاك العاجل، (بِالْقَارِعَةِ) قال ابن عباس وقتادة: بالقيامة سميت قارعة لأنها تقرع قلوب العباد بالمخافة (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) قال قتادة: بالصيحة الطاغية، وهي التي جاوزت مقادير الصياح فأهلكتهم، وهي صيحة عظيمة فظيعة قطعت قلوبهم وزهقت لها أرواحهم فأصبحوا موتا لا يرى إلا مساكنهم وجثثهم .

وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ 6 سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ 7 فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ 8

قوله (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ) أي باردة قال ذلك قتادة والربيع والسدي والثوري فمع برودتها قوية شديدة الهبوب لها صوت أبلغ من صوت الرعد القاصف (عَاتِيَةٍ) زادت على الحد (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ) قال مقاتل: سلطها عليهم (سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا) أي كوامل متتابعات مشائيم نحساً وشراً فظيعاً عليهم، (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى) أي هلكى، (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ) قال ابن عباس (خَاوِيَةٍ) خربة أي جَعلت الريح تضرب بأحدهم الأرض فيخر ميتاً على أم رأسه فينشدخ رأسه فتبقى جثته هامدة كأنها قائمة النخلة إذا خرت بلا أغصان، (فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ) هذا استفهام بمعنى النفي المتقرر، أي فهل ترى لهؤلاء القوم من نفس باقية دون هلاك، أو من أحد من بقاياهم أو ممن ينتسب إليهم بل بادوا عن آخرهم ولم يجعل الله لهم خلفا .

وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ 9 فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً 10 إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ 11

قال تعالى (وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ) قرأ أهل البصرة والكسائي بكسر القاف وفتح الباء، أي ومن معه من جنوده وأتباعه، وقرأ الآخرون بفتح القاف وسكون الباء، أي ومن قبله من الأمم الكافرة (وَالْمُؤْتَفِكَاتُ) الأمم الذين ائتفكوا بخطيئتهم، أي أهلكوا بذنوبهم (بِالْخَاطِئَةِ) وهي الشرك وما انضم إلى ذلك من أنواع المعاصي والفسوق (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ) وهذا اسم جنس أي كل من هؤلاء كذبوا الرسول الذي أرسله الله إليهم (فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً) قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: شديدة (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ) أي عتا وجاوز حده حتى علا على كل شيء وارتفع فوقه، وذلك بسبب دعوة نوح عليه السلام على قومه حين كذبوه وخالفوه فعبدوا غير الله فاستجاب الله له وعم أهل الأرض بالطوفان إلا من كان مع نوح في السفينة فالناس كلهم من سلالة نوح وذريته (حَمَلْنَاكُمْ) أي حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم (فِي الْجَارِيَةِ) في السفينة التي تجري في الماء .

لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ 12 فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ 13 وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً 14 فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ 15 وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ 16 وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ 17

قوله (لِنَجْعَلَهَا) أي لنجعل تلك الفعلة التي فعلنا مِنْ إِغْراق قوم نوح ونجاة من حملنا معه (لَكُمْ تَذْكِرَةً) عبرة وموعظة (وَتَعِيَهَا) قرئ بسكون العين، وقرأ الآخرون بكسرها أي تعقل هذه النعمة (أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) قال الضحاك: سمعتها أذن ووعت أي من له سمع صحيح وعقل رجيح وهذا عام فيمن فهم ووعى وهذا بخلاف أهل الإعراض والغفلة وأهل البلادة وعدم الفطنة فإنهم ليس لهم انتفاع بآيات الله لعدم وعيهم عن الله وتفكرهم بآياته (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ) لما ذكر تعالى ما فعله بالمكذبين لرسله وكيف جازاهم وعجل لهم العقوبة في الدنيا وأن الله نجى الرسل واتباعهم كان هذا مقدمة للجزاء الأخروي وتوفية الأعمال كاملة يوم القيامة فذكر الأمور الهائلة التي تقع أمام يوم القيامة وأن أول ذلك أنه ينفخ اسرافيل في (الصور) أي القرن (نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ) وهي النفخة الأولى التي يكون عندها هلاك العالم (وَحُمِلَتِ الأرْضُ وَالْجِبَالُ) رفعت من أماكنها (فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً) فضُربت إثر رفعهما بعضها ببعض ضربة واحدة فصارتا قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً هذا ما يصنع بالأرض وما عليها (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ) قامت القيامة (وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ) ضعيفة قال الفراء: وَهْيُها: تشُّقُقها (وَالْمَلَكُ) يعني الملائكة (عَلَى أَرْجَائِهَا) نواحيها (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ) يعني الحملة (يَوْمَئِذٍ) يوم القيامة (ثَمَانِيَةٌ) أي ثمانية أملاك .

وعن جابر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أُذنَ لي أن أحدثكم عن ملك من حَمَلة العرش:بُعْدُ ما بين شحمة أذنه وعنقه بخفق الطير سبعمائة عام) رواه أبو داود وصححه الألباني

يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ 18 فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ 19 إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ 20 فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ 21 فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ 22 قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ 23

قوله (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ) على الله للحساب والجزاء (لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) قرأ حمزة والكِسائي: « لا يخفى » بالياء، وقرأ الآخرون بالتاء (لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) أي فِعْلة خافية قال الكلبي: لا يخفى على الله منكم شيء، أي لا يخفى عليه شيء من أموركم بل هو عالم بالظواهر والسرائر والضمائر وعالم بأعمالكم وصفاتكم ولهذا قال (لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) ويحشر العباد حفاة عراة في أرض مستوية يُسمعهم الداعي فحينئذ يجازيهم بما عملوا ولهذا ذكر كيفية الجزاء فقال (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ) هؤلاء هم أهل السعادة يعطون كتبهم التي فيها أعمالهم الصالحة بأيمانهم تمييزاً لهم وتنويهاً بشأنهم ورفعاً لمقدارهم ويقول أحدهم عند ذلك من شدة الفرح والسرور ومحبة أن يطلع الخلق على ما من الله عليه به من الكرامة لكل من لقي (هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ) تعالوا اقرءوا كتابيه الهاء في « كتابيه » هاء الوقف فإنه يبشر بالجنات وأنواع الكرامات ومغفرة الذنوب وستر العيوب والذي أوصلني إلى هذه الحال ما من الله به علي من الإيمان بالبعث والحساب والاستعداد له لأنه يعلم أن الذي في الكتاب خير وحسنات محضة ولأنه ممن بدل الله سيئاته حسنات ولهذا قال (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ) علمت وأيقنت إذ أن الظن هنا بمعنى اليقين (أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ) أي: [ أني ] أحاسب في الآخرة فقد كنت موقناً في الدنيا أن هذا اليوم كائن لا محالة (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ) حالة من العيش (رَاضِيَة) مرضية إذ هي جامعة لما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وقد رضوها ولم يختاروا عليها غيرها، (فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ) رفيعة قصورها وحسان حورها نعيمة دورها دائم حبورها (قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ) ثمارها قريبة لمن يتناولها في كل أحواله ينالها قائمًا وقاعدًا ومضطجعًا يقطعون كيف شاءوا .

كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ 24 وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ 25 وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ 26 يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ 27 مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ ۜ 28 هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ 29 خُذُوهُ فَغُلُّوهُ 30 ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ 31 ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ 32

يقال لهم إكراماً وتفضلاً عليهم وامتناناً وانعاماً وإحساناً (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) ، (كُلُوا وَاشْرَبُوا) أي من كل طعاماً لذيذ وشراب شهي، (هَنِيئًا) أي تاماً كاملاً من غير مكدر ولا منغص (بِمَا أَسْلَفْتُمْ) قدمتم لآخرتكم من الأعمال الصالحة من صلاة وصيام وصدقة وحج وإحسان إلى الخلق وذكر الله وإنابة إليه فالأعمال جعلها الله سبباً لدخول الجنة (فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ) الماضية يريد أيام الدنيا .

قوله (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ) هؤلاء هم أهل الشقاء يعطون كتبهم المشتملة على أعمالهم السيئة بشمالهم تمييزاً لهم وخزيا وعارا وفضيحة وذلك في العرصات فحينئذ يندم غاية الندم (فَيَقُولُ) أحدهم من الهم والغم والحزن (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ) لأنه يبشر بدخول النار والخسارة الأبدية (وَلَم أَدرِ مَا حِسَابِيَه) أي ليتني كنت نسياً منسيا ولم أبعث وأحاسب ولهذا قال (يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ) يقول: يا ليت الموتة التي متها في الدنيا كانت القاضية الفارغة من كل ما بعدها والقاطعة للحياة، فلم أحيَ بعدها و « القاضية » موت لا حياة بعده يتمنى أنه لم يبعث للحساب قال قتادة: يتمنى الموت ولم يكن عنده في الدنيا شيء أكره من الموت، ثم التفت إلى ماله فإذا هو وبال عليه لم يقدم منه لآخرته ولا ينفعه لو افتدى به من العذاب شيئاً فيقول (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ) أي ما نفعني في الدنيا لأني لم أقدم منه شيئا ولم يدفع عني من عذاب الله شيئًا (هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) أي ذهب واضمحل فلم يدفع عني جاهي عذاب الله وبأسه بل خلص الأمر إلي وحدي فلا معين لي ولا مجير فعندها يقول الله لخزنة جهنم (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) يأمر الزبانية أن تأخذه عنفاً من المحشر فتغله أي تضع الأغلال في عنقه ثم تورده إلى جهنم فتصليه إياها أي تغمره فيها (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ) فأدخلوه فيها

إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ 33 وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ 34

قوله (إِنَّه كَانَ لا يُؤمِنُ بِاللهَّ العَظِيم) بأن كان كافراً بربه معانداً لرسله راداً ما جاءوا به من الحق فلا يقوم بحق الله عليه من طاعته وعبادته (وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) أي ليس في قلبه رحمة يرحم بها الفقراء والمساكين فلا يطعمهم من ماله ولا يحض غيره على إطعامهم لعدم الوازع بقلبه وذلك أن مدار السعادة أمران الإخلاص لله الذي أصله الإيمان بالله والإحسان إلى الخلق بجميع وجوه الإحسان التي من أعظمها دفع ضرورة المحتاجين بإطعامهم ما يتقوتون به فهو لا ينفع خلق الله ولا يؤدي حقهم إذ أن للعباد بعضهم على بعض حق الإحسان والمعاونة على البر والتقوى ولهذا أمر الله بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وقُبض النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول : (الصلاةَ الصلاةَ ! اتقوا اللهَ فيما ملكت أيمانُكم) رواه أبو داود وصححه الألباني

فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِئُونَ (37) فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لا تُبْصِرُون (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ (44) لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45)

قوله (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا) أي: يوم القيامة (حَمِيمٌ) قريب أو صديق ينفعه ويشفع له لينجو من عذاب الله ويفوز بثوابه (وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ) قال علي بن أبي طلحة الغِسلين صديد أهل النار، مأخوذ من الغُسل، كأنه غُسالة جروحهم وقروحهم (لا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِئُونَ) أي: الكافرون وأصحاب الخطايا الذين كانوا يرتكبون الجرائم عمداً ولا يبالون بأوامر الله ولا نواهيه (فَلا أُقْسِمُ) « لا » للتأكيد، (أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ) أي بما ترون وبما لا ترون .

قوله (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)، (إِنَّهُ) يعني القرآن (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) أي تلاوة رسول كريم، يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم أضافه إليه على معنى التبليغ لأن الرسول من شأنه أن يبلغ عن المرسِل (وَمَا هُوَ بِقَولِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَّا تُؤمِنُون * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ) أراد بالقليل نفي إيمانهم أصلا كقولك لمن لا يزورك: قلما تأتينا وأنت تريد: لا تأتينا أصلا، (وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ) وليس بسجع كسجع الكهان قليلا ما يكون منكم تذكر وتأمل للفرق بينهما فقد نزه الله رسوله عما رماه به أعداؤه من أنه شاعر أو ساحر وأن الذي حملهم على ذلك عدم إيمانهم وتذكرهم فلو آمنوا وتذكروا علموا ما ينفعهم ويضرهم ولكنه كلام رب العالمين الذي أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم (تَنـزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) لا يليق أن يكون قولاً للبشر بل هو كلام دال على عظمة من تكلم به وجلالة أوصافه وكمال تربيته للخلق وعلوه فوق عباده (وَلَوْ تَقَوَّلَ) تخرَّص واختلق (عَلَيْنَا) محمد (بَعْضَ الأقَاوِيلِ) الكاذبة وأتى بشيء من عند نفسه (لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) قال ابن عباس: لأخذناه بالقوة والقدرة قال الشماخ .

إذا مــا رايــةٌ رُفِعَــت لمَجْــدٍ تلقَّاهــــا عُرَابَـــةُ بـــاليَمِين

أي بالقوة، عبر عن القوة باليمين لأن قوة كل شيء في ميامنه

ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ 46 فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ 47 وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ 48 وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ 49 وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ 50 وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ 51 فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ 52

قوله (ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) قال ابن عباس: أي نياط القلب وهو قول أكثر المفسرين (فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ) مانعين يحجزوننا عن عقوبته، والمعنى: أن محمدًا لا يتكلف الكذب لأجلكم مع علمه بأنه لو تكلفه لعاقبناه ولا يقدر أحد على دفع عقوبتنا عنه، (وَإِنَّهُ) يعني القرآن (لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) يتذكرون به مصالح دينهم ودنياهم فيعرفونها ويعملون على تطبيقها، يذكرهم بالأحكام الشرعية فيكونون من العلماء الربانيين والعباد العارفين والأئمة المهديين (وَإِنَّا لَنَعلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ) أي مع هذا البيان والوضوح سيوجد منكم من يكذب بالقرآن وهذا فيه تهديد ووعيد للمكذبين وإنه سيعاقبهم على تكذيبهم بالعقوبة البليغة (وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ) يوم القيامة يندمون على ترك الإيمان به، (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) أي أعلى مراتب العلم فإن أعلى مراتب العلم اليقين وهو العلم الثابت الذي لا يتزلزل ولا يزول واليقين مراتبه ثلاثة كل واحدة أعلى مما قبلها أولها علم اليقين وهو العلم المستفاد من الخير، ثم عين اليقين: وهو العلم المدرك بحاسة البصر، ثم حق اليقين: وهو العلم المدرك بحاسة الذوق والمباشرة .

وهذا القرآن بهذا الوصف فإن ما فيه من العلوم المؤيدة بالبراهين القطعية وما فيه من الحقائق والمعارف الإيمانية يحصل به لمن ذاقه حق اليقين، (فَسَبِّح بِاسمِ رَبِّكَ العَظِيم) أي الذي أنزل هذا القرآن العظيم نزه عما لا يليق بجلاله وقَدِسْهُ بذكر أوصاف جلاله وجماله وكماله .

تم تفسير سورة الحاقة ولله الحمد والمنة

9 - 9 - 1437هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

9 + 3 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 106 الجزء الثالث ‌‌نصيحة عامة لحكام المسلمين وشعوبهم - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 105 الجزء الثالث ‌‌نصيحة عامة حول بعض كبائر الذنوب - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 104 ‌‌ الجزء الثالث حكم الإسلام فيمن أنكر تعدد الزوجات - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 103 الجزء الثالث ‌‌الأدلة الكاشفة لأخطاء بعض الكتاب - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 102 الجزء الثالث : ليس الجهادللدفاع فقط - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 101 الجزء الثالث ‌‌حكم من مات من أطفال المشركين - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر