ﺟﺪﻳﺪ اﻟﻤﻮﻗﻊ

الربــا

الخطب
التصنيف : تاريخ النشر: السبت 22 صفر 1439هـ | عدد الزيارات: 1428 القسم: خطب الجمعة

الحمد لله رب العالمين، أحل البيع وحرم الربا، لما فيه من الأضرار البالغة والأخطار المدمرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين امتثلوا أمره ، واجتنبوا ما نهاهم عنه ، وقدموا محبته على كل شيء ، وسلم تسليماً كثيراً

أما بعد، أيها الناس: اتقوا الله تعالى (واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم) الأنفال: 28

فاحذروا فتنة المال، فإنها خطيرة، ومن أخطرها الربا، الذي أجمعت الشرائع على تحريمه، وتوعد الله المتعامل به بأشد الوعيد، قال تعالى (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) البقرة: 275

فأخبر سبحانه: أن الذين يتعاملون بالربا (لا يقومون) أي: من قبورهم عند البعث (إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) أي: إلا كما يقوم المصروع بالجنون في حال صرعه، وذلك لتضخم بطونهم، بسبب أكلهم الربا في الدنيا

كما توعد الله سبحانه الذي يعود إلى أكل الربا بعد معرفة تحريمه، بأنه من أصحاب النار الخالدين فيها، قال تعالى (ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) البقرة: 275

كما أخبر الله سبحانه أنه يمحق بركة الربا، قال تعالى (يمحق الله الربا) البقرة: 276

أي: يمحق بركة المال الذي خالطه الربا، فمهما كثرت أموال المرابي، وتضخمت ثروته، فهي ممحوقة البركة، لا خير فيها، وإنما هي وبال على صاحبها تعب في الدنيا، وعذاب في الآخرة، ولا يستفيد منها، وقد وصف الله المرابي بأنه كفار أثيم، قال تعالى (يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم) البقرة: 276

فأخبر الله سبحانه أنه لا يحب المرابي، وحرمانه من محبة الله يستلزم أن الله يبغضه ويمقته، فهو كفار لنعمة الله؛ لأنه لا يرحم العاجز، ولا يساعد الفقير، ولا ينظر المعسر

وقد وصفه الله في هذه الآية الكريمة بأنه أثيم، وقد أعلن الله الحرب منه ومن رسوله على المرابي؛ لأنه عدو لله ولرسوله إن لم يترك الربا، ووصفه بأنه ظالم، قال تعالى (يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون) البقرة: 279

وإلى جانب هذه الزواجر القرآنية عن التعامل بالربا، جاءت زواجر في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد عده النبي صلى الله عليه وسلم من الكبائر الموبقة، أي: المهلكة

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وتحريم الربا أشد من تحريم الميسر، وهو القمار؛ لأن المرابي قد أخذ فضلاً محققاً من محتاج، والمقامر قد يحصل له فضل، وقد لا يحصل له. فالربا ظلم محقق لأن فيه تسليط الغني على الفقير بخلاف القمار، فإنه قد يأخذ فيه الفقير من الغني، وقد يكون المتقامران متساويين في الغنى والفقر، فهو وإن كان أكلاً للمال بالباطل وهو مُحرم، فليس فيه من ظلم المحتاج وضرره ما في الربا

وأكل الربا من صفات اليهود التي استحقوا عليها اللعنة الخالدة والمتواصلة، قال الله تعالى (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرًا وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابًا أليمًا) النساء: 160-161

والحكمة من تحريم الربا أن فيه أكلاً لأموال الناس بغير حق؛ لأن المرابي يأخذ منهم الربا من غير أن يستفيدوا شيئاً في مقابله، فيه إضرار بالفقراء والمحتاجين بمضاعفة الديون عليهم عند عجزهم عن تسديدها، وفيه قطع للمعروف بين الناس، وسد لباب القرض الحسن، وفتح لباب القرض بالفائدة التي تثقل الغني والفقير، وفيه تعطيل للمكاسب والتجارات والحرف والصناعات التي لا تنتظم مصالح العالم إلا بها؛ لأن المرابي إذا تحصل على زيادة ماله بواسطة الربا بدون تعب، فلن يلتمس طرقاً أخرى للكسب الشاق، ما دام أن ماله يزيد تلقائياً في ذمة المدين

والله تعالى جعل طريق تعامل الناس في معايشهم قائماً على أن تكون استفادة كل واحد من الآخر مقابل عمل يقوم به له، أو عين يدفعها إليه، والربا خال من ذلك؛ لأنه عبارة عن إعطاء المال مضاعفاً من طرف لآخر بدون مقابلة من عين ولا عمل

أيها المسلمون: اعلموا أن الربا في الشرع: زيادة في أموال مخصوصة

وينقسم إلى قسمين: ربا النسيئة، وربا الفضل، وربا النسيئة مأخوذ من النسأ، وهو التأخير، وهو نوعان

أحدهما: قلب الدين على المعسر، وهذا هو أصل الربا في الجاهلية: أن الرجل يكون له على الرجل المال المؤجل، فإذا حل الأجل قال له: أتقضى أم تُربي؟ فإن وفاه وإلا زاد هذا في الأجل، وزاد هذا في المال فيتضاعف المال في ذمة المدين، فحرم الله ذلك بقوله (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) البقرة: 280

فإذا حل الدين وكان المدين معسراً لم يَجز أن يضاعف الدين عليه، بل يجب إنظاره، وإن كان موسراً كان عليه الوفاء، فلا حاجة إلى زيادة الدين مع يسار المدين، ولا مع إعساره

النوع الثاني: من ربا النسيئة، ما كان في بيع كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل، مع تأخير قبضهما، أو قبض أحدهما، كبيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مؤجلاً، وكذا بيع جنس بجنس آخر من هذه الأجناس مؤجلاً، وما شارك هذه الأشياء في العلة وهو الكيل أو الوزن يجري مجراها كالأرز والمكرونة

والقسم الثاني: ربا الفضل، وهو الزيادة في أحد العوضين إذا بيع بجنسه حالاً، وقد نص الشارع على تحريمه في ستة أشياء، هي (الذهب، والفضة، والبر والشعير، والتمر، والملح) فإذا بيع أحد هذه الأشياء بجنسه حرم التفاضل بينهما، لحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه مرفوعاً (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل يداً بيد) رواه مسلم

فدل الحديث على تحريم بيع الذهب بالذهب، بجميع أنواعه من مضروب، وغير مضروب، وجيد ورديء، ومن بيع الفضة بالفضة بجميع أنواعها كذلك إلا مثلاً بمثل يداً بيد سواءً بسواء، وعن بيع البر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، بجميع أنواعه، والملح بالملح إلا متساويةً؛ مثلاً بمثل، سواءً بسواء يداً بيد، ويقاس على هذه الأشياء الستة ما شاركها في العلة، فيحرم فيه التفاضل، والعلة في النقدين الثمنية، فيقاس عليها كل ما جعل أثماناً، أي: نقوداً كالأوراق النقدية المستعملة في هذه الأزمنة، فيحرم فيها التفاضل إذا بيع بعضها ببعض مع اتحاد الجنس

فالعلة في بقية الأصناف الستة: البر والشعير، والتمر والملح، هي الكيل مع كونها مطعومةً، فيتعدى الحكم إلى ما شاركها في تلك العلة مما يكال أو يوزن، وهو مما يطعم، فيحرم فيه ربا التفاضل

فعلى هذا كل ما شارك هذه الأشياء الستة المنصوص عليها في تحقق العلة فيه بأن يكون مكيلاً مطعوماً، أو موزوناً مطعوماً مثل اللبن، أو تحققت فيه علة الثمنية، بأن كان من النقود فإنه يدخله الربا، فإن انضاف إلى العلة اتحاد الجنس كبيع بر ببر، حرم فيه التفاضل والتأجيل، لقوله صلى الله عليه وسلم (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلاً بمثل يداً بيد) رواه مسلم

وإن اتحدت العلة مع اختلاف الجنس، كالبر بالشعير، حرم فيه التأجيل، وجاز فيه التفاضل، لقوله صلى الله عليه وسلم (فإذا اختلفت هذه الأشياء، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) رواه مسلم، ومعنى قوله (يداً بيد) أي: حالاً مقبوضاً في المجلس قبل افتراق أحدهما عن الآخر

وإن اختلفت العلة والجنس جاز الأمران: التفاضل والتأجيل، كالذهب بالبر، والشعير بالفضة، ثم لنعلم أنه لا يجوز بيع مكيل بجنسه إلا كيلاً، ولا موزون بجنسه إلا وزناً، لقوله صلى الله عليه وسلم (الذهب بالذهب وزناً بوزن، والفضة بالفضة وزناً بوزن، والبر بالبر كيلاً بكيل، والشعير بالشعير كيلاً بكيل) رواه النسائي وصححه الألباني. ولأن ما خالف فيه معياره الشرعي لا يتحقق فيه التساوي، وكذلك لا يجوز بيع مكيل بجنسه جزافاً، ولا بيع موزون بجنسه جزافاً، لعدم العلم بالتساوي، والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل

(يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) البقرة: 278-281

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم .

هذا وأستغفر الله لي ولكم

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، جعل الخير والبركة في الكسب الحلال، وأمر بالاستعانة به على صالح الأعمال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه

أما بعد، أيها الناس

اتقوا الله تعالى، واعلموا أن مما يتعلق بهذا الموضوع: ما يسمى بالصرف، وهو بيع نقد بنقد، سواء اتحد الجنس أو اختلف، وسواء كان النقد من الذهب أو الفضة أو من الأوراق النقدية المتعامل بها في هذا الزمان، فإنها تأخذ حكم الذهب والفضة لاشتراكها معها في علة الربا، وهي الثمنية، فإذا بيع نقد بجنسه كذهب بذهب أو فضة بفضة أو ورق نقدي بجنسه، كدولار بمثله، أو دراهم ورقية أجنبية أو سعودية بمثلها وجب حينئذ التساوي في المقدار والتقابض في المجلس، وإن بيع نقد بنقد من غير جنسه، كدراهم سعودية ورقية بدولارات أمريكية مثلاً، وكذهب بفضة وجب حينئذ شيء واحد وهو الحلول والتقايض في المجلس، وجاز التفاضل في المقدار، وكذا إذا بيع حلي من الذهب بدراهم فضة أو بورق نقدي وجب الحلول والتقايض في المجلس، وكذا إذا بيع حلي من الفضة بذهب مثلاً

أما إذا بيع الحلي من الذهب أو الفضة بحلي أو نقد من جنسه كأن يباع الحلي من الذهب بذهب، والحلي من الفضة بفضة، وجب الأمران: التساوي في الوزن، والحلول والتقابض في المجلس

أيها المسلمون: إن خطر الربا عظيم، ويصعب التحرز منه عند البعض، ومن لم يستطع معرفة أحكامه بنفسه فعليه أن يسأل أهل العلم عنها، ولا يجوز له أن يقدم على معاملة أو يسهم في شركة إلا بعد تأكده من خلوها من الربا، ليسلم بذلك دينه وينجو من عذاب الله الذي توعد به المرابين، ولا يجوز تقليد الناس فيما هم عليه من غير بصيرة، خصوصاً في وقتنا هذا الذي كثر فيه عدم المبالات بنوعية المكاسب

هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية وأزكى البشرية محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بذلك في قوله (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً) الأحزاب: 56

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين

اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين، اللهم فرج هم المهمومين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الرحمين

اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين

اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأفعال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام

عباد الله: اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.العنكبوت:45.

1439-12-22 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

3 + 3 =

/500
جديد الخطب الكتابية
روابط ذات صلة
الخطب السابق
الخطب الكتابية المتشابهة الخطب التالي