تفسير سورة الزمر

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الثلاثاء 25 صفر 1439هـ | عدد الزيارات: 4222 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .

سورة الزمر مكية وآياتها 75

بسم الله الرحمن الرحيم

تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم (1) إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين (2) ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار (3) لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار (4)

يخبر تعالى أن تنـزيل هذا الكتاب - وهو القرآن العظيم- من عنده، تبارك وتعالى، فهو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك، فقال : (تنـزيل الكتاب من الله العزيز) أي: المنيع الجناب، (الحكيم) أي: في أقواله وأفعاله، وشرعه، وقدره .

(إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين) أي: فاعبد الله وحده لا شريك له، وادع الخلق إلى ذلك، وأعلمهم أنه لا تصلح العبادة إلا له وحده ، وأنه ليس له شريك ولا عديل ولا نديد؛ ولهذا قال: (ألا لله الدين الخالص) أي: لا يقبل من العمل إلا ما أَخلص فيه العامل لله، وحده لا شريك له، إذ له الكمال والتفضل على عباده من جميع الوجوه وكذلك له الدين الخالص الصافي من جميع الشوائب فهو الدين الذي ارتضاه لنفسه وارتضاه لصفوة خلقه وأمرهم به لأنه متضمن للتأله لله في حبه وخوفه ورجائه والإنابة إليه في تحصيل مطالب عباده .

ثم أخبر تعالى عن عُباد الأصنام من المشركين أنهم يقولون: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) أي: إنما يحملهم على عبادتهم لهم أنهم عمدوا إلى أصنام اتخذوها على صور الملائكة المقربين في زعمهم، فعبدوا تلك الصور تنـزيلا لذلك منـزلة عبادتهم الملائكة؛ ليشفعوا لهم عند الله في نصرهم ورزقهم، وما ينوبهم من أمر الدنيا، فأما المعاد فكانوا جاحدين له كافرين به

ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجوا في جاهليتهم: «لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك» وهذه الشبهة هي التي اعتمدها المشركون في قديم الدهر وحديثه، وجاءتهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، بردها والنهي عنها، والدعوة إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له، وأن هذا شيء اخترعه المشركون من عند أنفسهم، لم يأذن الله فيه ولا رضي به، بل أبغضه ونهى عنه

وأخبر أن الملائكة التي في السموات من المقربين وغيرهم، كلهم عبيد خاضعون لله، لا يشفعون عنده إلا بإذنه لمن ارتضى، وليسوا عنده كالأمراء عند ملوكهم، يشفعون عندهم بغير إذنهم فيما أحبه الملوك وأبوه .

وقوله: (إن الله يحكم بينهم) أي: يوم القيامة، (في ما هم فيه يختلفون) أي: سيفصل بين الخلائق يوم معادهم، ويجزي كل عامل بعمله .

وقوله: (إن الله لا يهدي) أي: لا يوفق للهداية إلى الصراط المستقيم (من هو كاذب كفار) أي: وصفه الكذب أو الكفر بحيث تأتيه المواعظ والآيات ولا يزول عنه ما اتصف به ويريه الله الآيات فيجحدها ويكفر بها ويكذب، فهذا أنى له الهداية وقد سد على نفسه الباب وعوقب بأن طبع الله على قلبه فهو لا يؤمن .

ثم بين تعالى أنه لا ولد له كما يزعمه جهلة المشركين في الملائكة، والمعاندون من اليهود والنصارى في العزير، وعيسى فقال: (لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء) أي: لكان الأمر على خلاف ما يزعمون وهذا شرط لا يلزم وقوعه ولا جوازه، بل هو محال، وإنما قصد تجهيلهم فيما ادعوه وزعموه .

وقوله: (سبحانه هو الله الواحد القهار) أي: تعالى وتنـزه وتقدس عن أن يكون له ولد، فإنه الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي كل شيء عبد لديه، فقير إليه، وهو الغني عما سواه الذي قد قهر الأشياء فدانت له وذلت وخضعت .

خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار (5) خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون (6)

يخبر تعالى أنه الخالق لما في السموات والأرض، وما بين ذلك من الأشياء، وأنه مالك الملك المتصرف، فيه يقلب ليله ونهاره، (يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل) أي: سخرهما يجريان متعاقبين لا يَقران ، كل منهما يطلب الآخر طلبا حثيثا .

وقوله: (وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى) أي: إلى مدة معلومة عند الله ثم تنقضي يوم القيامة (ألا هو العزيز الغفار) أي: مع عزته وعظمته وكبريائه هو غفار لمن عصاه ثم تاب وأناب إليه .

وقوله: (خلقكم من نفس واحدة) أي: خلقكم مع اختلاف أجناسكم وأصنافكم وألسنتكم وألوانكم من نفس واحدة، وهو آدم عليه السلام (ثم جعل منها زوجها) ، وهي حواء عليها السلام .

وقوله: (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) أي: وخلق لكم من ظهور الأنعام ثمانية، أزواج وهي المذكورة في سورة الأنعام .

وقوله: (يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق) أي: قدركم في بطون أمهاتكم (خلقا من بعد خلق) أي: يكون أحدكم أولا نطفة، ثم يكون علقة، ثم يكون مضغة، ثم يُخْلق فيكون لحما وعظما وعصبا وعروقا، وينفخ فيه الروح فيصير خلقا آخر .

وقوله: (في ظلمات ثلاث) يعني: ظلمة البطن، ثم ظلمة الرحم، ثم ظلمة المشيمة التي هي كالغِشاوة والوقاية على الولد .

وقوله: (ذلكم الله ربكم) أي: هذا الذي خلق السموات والأرض وما بينهما وخلقكم وخلق آباءكم ، هو الرب له الملك والتصرف في جميع ذلك، (لا إله إلا هو) أي: الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده، (فأنى تصرفون) أي: فكيف تعبدون معه غيره ؟

إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور (7) وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار (8)

يقول تعالى مخبرا عن نفسه تعالى: أنه الغني عما سواه من المخلوقات .

فعن أبي ذر رضى الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال «يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا» رواه مسلم

وقوله (ولا يرضى لعباده الكفر) أي: لا يحبه ولا يأمر به، (وإن تشكروا يرضه لكم) أي: يحبه منكم ويزدكم من فضله

(ولا تزر وازرة وزر أخرى) أي: لا تحمل نفس عن نفس شيئا، بل كل مطالب بأمر نفسه، (ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور) أي: فلا تخفى عليه خافية

وقوله: (وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه) أي: عند الحاجة يضرع ويستغيث بالله وحده لا شريك له ، ولهذا قال: (ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل) أي: في حال الرفاهية ينسى ذلك الدعاء والتضرع .

وقوله (وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله) أي: في حال العافية يشرك بالله، ويجعل له أندادا (قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار) أي: قل لمن هذه حاله وطريقته ومسلكه: تمتع بكفرك قليلا وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد .

أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب (9)

يقول تعالى: أمن هذه صفته كمن أشرك بالله وجعل له أندادا؟ لا يستوون عند الله فقال : (أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما) أي: في حال سجوده وفي حال قيامه

وقوله: (يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه) أي: في حال عبادته خائف راج ، ولا بد في العبادة من هذا وهذا، وأن يكون الخوف في مدة الحياة هو الغالب؛ ولهذا قال: (يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه) ، فإذا كان عند الاحتضار فليكن الرجاء هو الغالب عليه .

وقوله: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) أي: هل يستوي هذا والذي قبله ممن جعل لله أندادا ليضل عن سبيله؟! (إنما يتذكر أولو الألباب) أي: إنما يعلم الفرق بين هذا وهذا من له لب وهو العقل .

قل يا عباد الذين ءامنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب (10) قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين (11) وأمرت لأن أكون أول المسلمين (12)

يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بالاستمرار على طاعته وتقواه (قل يا عباد الذين ءامنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة) أي: لمن أحسن العمل في هذه الدنيا حسنة في دنياهم وأخراهم

وقوله: (وأرض الله واسعة) إذا منعتم من عبادته في أرض فهاجروا إلى غيرها تعبدون فيها ربكم وتتمكنون من إقامة دينكم

وقوله: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) هذا عام في جميع أنواع الصبر الثلاثة، الصبر على أقدار الله المؤلمة فلا يتسخطها، والصبر عن معاصيه فلا يرتكبها، والصبر على طاعته حتى يؤديها، فوعدى الله الصابرين أجرهم بغير حساب، أي بغير حد ولا عد ولا مقدار، وما ذاك إلا لفضيلة الصبر ومحله عند الله وإنه معين على كل الأمور، والجزاء في الجنة .

وقوله: (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين) أي: إنما أمرت بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له .

(وأمرت لأن أكون أول المسلمين) لأني الداعي الهادي للخلق إلى ربهم فيقتضي إني أول من ائتمر بأمر ربه وأول من أسلم، وهذا الأمر لا بد من إيقاعه من محمد صلى الله عليه وسلم .

قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم (13) قل الله أعبد مخلصا له ديني (14) فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين (15) لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون (16)

يقول تعالى: قل يا محمد وأنت رسول الله: (إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم) ، وهو يوم القيامة وهذا شرط، ومعناه التعريض بغيره بطريق الأولى والأحرى، (قل الله أعبد مخلصا له ديني * فاعبدوا ما شئتم من دونه) وهذا أيضا تهديد وتبرِ منهم، (قل إن الخاسرين) أي: إنما الخاسرون كل الخسران (الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة) أي: تفارقوا فلا التقاء لهم أبدا، سواء ذهب أهلوهم إلى الجنة وقد ذهبوا هم إلى النار، أو أن الجميع أسكنوا النار، ولكن لا اجتماع لهم ولا سرور، (ذلك هو الخسران المبين) أي: هذا هو الخسار البين الظاهر الواضح .

ثم وصف حالهم في النار فقال: (لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل) .

وقوله: (ذلك يخوف الله به عباده) أي: إنما يقص خبر هذا الكائن لا محالة ليخوف به عباده، لينـزجروا عن المحارم والمآثم .

وقوله: (يا عباد فاتقون) أي: اخشوا بأسي وسطوتي، وعذابي ونقمتي

والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد (17) الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب (18)

قوله (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها) هذه الآية فيمن اجتنب عبادة الأوثان، وأناب إلى عبادة الرحمن فهؤلاء هم الذين لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة

ثم قال: (فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) أي: يفهمونه ويعملون بما فيه

(أولئك الذين هداهم الله) أي: المتصفون بهذه الصفة هم الذين هداهم الله في الدنيا والآخرة ، أي: ذوو العقول الصحيحة، والفطر المستقيمة .

أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار (19) لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد (20)

يقول تعالى: أفمن كتب الله أنه شقي أتقدر تنقذه مما هو فيه من الضلال والهلاك؟ أي: لا يهديه أحد من بعد الله؛ لأنه من يضلل الله فلا هادي له، ومن يهده فلا مضل له

ثم أخبر عن عباده السعداء أنهم لهم غرف في الجنة، وهي القصور الشاهقة (من فوقها غرف مبنية) ، أي: طباق فوق طباق، مبنيات محكمات مزخرفات عاليات

روى عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ في الجنةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُها من باطِنِها ، و باطِنُها من ظَاهِرِها . فقال أبو مالِكٍ الأَشْعَرِيُّ : لِمَنْ هيَ يا رسولَ اللهِ ؟ قال : لِمَنْ أَطَابَ الكَلامَ ، و أَطْعَمَ الطَّعَامَ ، و باتَ قائِمًا و الناسُ نِيامٌ» صحيح الترغيب للألباني

عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم ، قالوا يارسول الله : تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ؟ قال : بلى ، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين " رواه البخاري ومسلم

وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قلنا: يا رسول الله، إنا إذا رأيناك رقت قلوبنا، وكنا من أهل الآخرة، فإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا وشممنا النساء والأولاد قال: «لو أنكم تكونون على كل حال على الحال التي أنتم عليها عندي، لصافحتكم الملائكة بأكفهم، ولزارتكم في بيوتكم ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون كي يغفر لهم» قلنا: يا رسول الله، حدثنا عن الجنة، ما بناؤها؟ قال: «لبنة ذهب ولبنة فضة، وملاطها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم تُحمل على الغمام، وتفتح لها أبواب السموات، ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين» صححه أحمد شاكر

وقوله: (تجري من تحتها الأنهار) أي: تسلك الأنهار بين خلال ذلك، كما يشاءوا وأين أرادوا، (وعد الله) أي: هذا الذي ذكرناه وعد وعده الله عباده المؤمنين (إن الله لا يخلف الميعاد)

ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب (21) أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين (22)

ألم تر أيها الرسول أن الله أنزل من السحاب مطراً فأدخله في الأرض وجعله عيوناً نابعة ومياه جارية

وقوله: (ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه) أي: ثم يخرج بالماء زرعا (مختلفا ألوانه) أي: أشكاله وطعومه وروائحه ومنافعه، (ثم يهيج) أي: بعد نضارته وشبابه يكتهل (فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما) أي: ثم يعود يابسا يتحطم، (إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب) أي: الذين يتذكرون بهذا فيعتبرون إلى أن الدنيا هكذا، تكون خضرة نضرة حسناء، ثم تعود عجوزا شوهاء، والشاب يعود شيخا هرما كبيرا ضعيفا، وبعد ذلك كله الموت فالسعيد من كان حاله إلى خير، وكثيرا ما يضرب الله تعالى مثل الحياة الدنيا بما ينـزل الله من السماء من ماء، وينبت به زروعا وثمارا، ثم يكون بعد ذلك حطاما .

وقوله: (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه) أي: هل يستوي هذا ومن هو قاسي القلب بعيد من الحق؟ ولهذا قال: (فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله) أي: فلا تلين عند ذكره ، ولا تخشع ولا تعي ولا تفهم، (أولئك في ضلال مبين)

الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد (23)

هذا مدح من الله عز وجل لكتابه القرآن العظيم المنـزل على رسوله الكريم، قال الله تعالى: (الله نـزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني) يخبر تعالى عن كتابه الذي نزله أنه (أحسن الحديث) على الإطلاق فأحسن الحديث كلام الله وأحسن الكتب المنزلة من كلام الله هذا القرآن وإذا كان هو الأحسن علم أن ألفاظه أفصح الألفاظ وأوضحها وأن معانيه أجل المعاني لأنه أحسن الحديث في لفظه ومعناه متشابها في الحسن والائتلاف وعدم الاختلاف بوجه من الوجوه حتى إنه كلما تدبره المتدبر وتفكر فيه المتفكر رأى من اتفاقه حتى في معانيه الغامضة ما يبهر الناظرين ويجزم بأنه لا يصدر إلا من حكيم عليم، هذا هو المراد بالتشابه في هذا الموضع .

(مثاني) أي: تكرر فيه القصص والأحكام والوعد والوعيد وصفات أهل الخير وصفات أهل الشر وتكرر فيه أسماء الله وصفاته، وهذا من جلالته وحسنه فإنه تعالى لما علم احتياج الخلق إلى معانيه المزكية للقلوب المكملة للأخلاق جعل تلك المعاني للقلوب بمنزلة الماء لسقي الأشجار .

وقوله: (تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) أي هذه صفة الأبرار، عند سماع كلام الجبار، المهيمن العزيز الغفار، لما يفهمون منه من الوعد والوعيد والتخويف والتهديد، تقشعر منه جلودهم من الخشية والخوف، (ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) لما يرجون ويؤملون من رحمته ولطفه، فهم مخالفون لغيرهم من الكفار من وجوه:

أحدها: أن سماع هؤلاء هو تلاوة الآيات، وسماع أولئك نغمات لأبيات، من أصوات القينات

الثاني: أنهم إذا تليت عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا، بأدب وخشية، ورجاء ومحبة، وفهم وعلم .

الثالث: أنهم يلزمون الأدب عند سماعها، كما كان الصحابة، رضي الله عنهم عند سماعهم كلام الله من تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تقشعر جلودهم، ثم تلين مع قلوبهم إلى ذكر الله فلم يكونوا يتصارخون ولا يتكلفون ما ليس فيهم، بل عندهم من الثبات والسكون والأدب والخشية ما لا يلحقهم أحد في ذلك؛ ولهذا فازوا بالمدح المعلى في الدنيا والآخرة .

وقوله:" ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده " أي: هذه صفة من هداه الله، ومن كان على خلاف ذلك فهو ممن أضله الله .

أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون (24) كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون (25) فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون (26)

يقول تعالى: (أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة وقيل للظالمين) ، يقرع فيقال له ولأمثاله من الظالمين: (ذوقوا ما كنتم تكسبون) ، كمن يأتي ءامنا يوم القيامة؟

وقوله: (كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون) يعني: القرون الماضية المكذبة للرسل، أهلكهم الله بذنوبهم، وما كان لهم من الله من واق

وقوله: (فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا) أي: بما أنـزل بهم من العذاب والنكال وتشفي المؤمنين بهم، فليحذر المخاطبون من ذلك، فإنهم قد كذبوا أشرف الرسل، وخاتم الأنبياء، والذي أعده الله لهم في الآخرة من العذاب الشديد أعظم مما أصابهم في الدنيا؛ ولهذا قال: (ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون)

ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون (27) قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون (28) ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون (29) إنك ميت وإنهم ميتون (30) ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون (31)

يقول تعالى: (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل) أي: بينا للناس فيه بضرب الأمثال، (لعلهم يتذكرون) ، فإن المثل يقرب المعنى إلى الأذهان .

وقوله: (قرءانا عربيا غير ذي عوج) أي: هو قرآن بلسان عربي مبين، لا اعوجاج فيه ولا انحراف ولا لبس، بل هو بيان ووضوح وبرهان، وإنما جعله الله عز وجل كذلك، وأنـزله بذلك (لعلهم يتقون) أي: يحذرون ما فيه من الوعيد، ويعملون بما فيه من الوعد .

ثم قال: (ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون) أي: يتنازعون في ذلك العبد المشترك بينهم، (ورجلا سلما لرجل) أي: خالصا لرجل، لا يملكه أحد غيره، (هل يستويان مثلا) أي: لا يستوي هذا وهذا كذلك لا يستوي المشرك الذي يعبد آلهة مع الله، والمؤمن المخلص الذي لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له فأين هذا من هذا؟

ولذا لما كان هذا المثل ظاهرا بينا جليا، قال: (الحمد لله) أي: على إقامة الحجة عليهم، (بل أكثرهم لا يعلمون) أي: فلهذا يشركون بالله

وقوله: (إنك ميت وإنهم ميتون) هذه الآية من الآيات التي استشهد بها الصديق رضي الله عنه عند موت الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى تحقق الناس من موته .

ومعنى هذه الآية: ستنقلون من هذه الدار لا محالة وستجتمعون عند الله في الدار الآخرة، وتختصمون فيما أنتم فيه في الدنيا من التوحيد والشرك بين يدي الله عز وجل، فيفصل بينكم، ويفتح بالحق وهو الفتاح العليم، فينجي المؤمنين المخلصين الموحدين، ويعذب الكافرين الجاحدين المشركين المكذبين .

ثم إن هذه الآية - وإن كان سياقها في المؤمنين والكافرين، فإنها شاملة لكل متنازعِين في الدنيا، فتعاد عليهم الخصومة في الدار الآخرة

روى الإمام أحمد عن الزبير بن العوام قال: لما نـزلت هذه السورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنك ميت وإنهم ميتون * ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) قال الزبير: أي رسول الله، أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب؟ قال: «نعم ليكررن عليكم، حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه» قال الزبير: والله إن الأمر لشديد. صححه أحمد شاكر

فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين (32) والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون (33) لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين (34) ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون (35)

يقول تعالى مخاطبا للمشركين الذين افتروا على الله، وجعلوا معه آلهة أخرى، وادعوا أن الملائكة بنات الله، وجعلوا لله ولدا - تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا- ومع هذا كذبوا بالحق إذ جاءهم على ألسنة رسل الله، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولهذا قال: (فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه) أي: لا أحد أظلم من هذا؛ لأنه جمع بين طرفي الباطل، كذب على الله، وكذب رسول الله، قالوا الباطل وردوا الحق؛ ولهذا قال متوعدا لهم: (أليس في جهنم مثوى للكافرين) وهم الجاحدون المكذبون

ثم قال: (والذي جاء بالصدق) في قوله وعمله من الأنبياء وأتباعهم (وصدق به) إيماناً وعملاً

(أولئك) أي الذين وفقوا للجمع بين الأمرين (هم المتقون) فإن جميع خصال التقوى ترجع إلى الصدق بالحق والتصديق به.

(لهم ما يشاءون عند ربهم) يعني: في الجنة، مهما طلبوا وجدوا، (ذلك جزاء المحسنين * ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون) .

أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد (36) ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام (37) ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون (38) قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون (39) من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم (40)

يقول تعالى: (أليس الله بكاف عبده) يعني أنه تعالى يكفي من عبده وتوكل عليه

(ويخوفونك بالذين من دونه) يعني: المشركين يخوفون الرسول ويتوعدونه بأصنامهم وآلهتهم التي يدعونها من دونه؛ جهلا منهم وضلالا؛ ولهذا قال تعالى: (ومن يضلل الله فما له من هاد * ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام) أي: منيع الجناب لا يضام، من استند إلى جنابه ولجأ إلى بابه، فإنه العزيز الذي لا أعز منه، ولا أشد انتقاما منه، ممن كفر به وأشرك وعاند رسوله صلى الله عليه وسلم .

وقوله: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) يعني: أن المشركين كانوا يعترفون بأن الله هو الخالق للأشياء كلها، ومع هذا يعبدون معه غيره، مما لا يملك لهم ضرا ولا نفعا؛ ولهذا قال: (قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته) أي: لا تستطيع شيئا من الأمر .

عن ابن عباس قال كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال : « يا غُلامُ إنِّي أعلِّمُكَ كلِماتٍ ، احفَظِ اللَّهَ يحفَظكَ ، احفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تجاهَكَ ، إذا سأَلتَ فاسألِ اللَّهَ ، وإذا استعَنتَ فاستَعِن باللَّهِ ، واعلَم أنَّ الأمَّةَ لو اجتَمعت علَى أن ينفَعوكَ بشَيءٍ لم يَنفعوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ لَكَ ، وإن اجتَمَعوا على أن يضرُّوكَ بشَيءٍ لم يَضرُّوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ عليكَ ، رُفِعَتِ الأقلامُ وجفَّتِ الصُّحفُ » رواه الترمذي وصححه الألباني .

(قل حسبي الله) أي: الله كافي، عليه توكلت وعليه يتوكل المتوكلون .

وقوله: (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم) أي: على طريقتكم، وهذا تهديد ووعيد (إني عامل) أي: على طريقتي ومنهجي، (فسوف تعلمون) أي: ستعلمون غب ذلك ووباله (من يأتيه عذاب يخزيه) أي: في الدنيا، (ويحل عليه عذاب مقيم) أي: دائم مستمر، لا محيد له عنه وذلك يوم القيامة أعاذنا الله منها .

إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل (41) الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (42)

يقول تعالى مخاطبا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم: (إنا أنـزلنا عليك الكتاب) يعني: القرآن (للناس بالحق) أي: لجميع الخلق من الإنس والجن لتنذرهم به، (فمن اهتدى فلنفسه) أي: فإنما يعود نفع ذلك إلى نفسه، (ومن ضل فإنما يضل عليها) أي: إنما يرجع وبال ذلك على نفسه، (وما أنت عليهم بوكيل) أي: بموكل أن يهتدوا .

ثم قال تعالى مخبرا عن نفسه الكريمة بأنه المتصرف في الوجود بما يشاء، وأنه يتوفى الأنفس: الوفاة الكبرى، بما يرسل من الحفظة الذين يقبضونها من الأبدان، والوفاة الصغرى عند المنام، فذكر الوفاتين: الصغرى ثم الكبرى وفي هذه الآية ذكر الكبرى ثم الصغرى؛ ولهذا قال: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى) أي: إلى استكمال رزقها وأجلها، فعن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أوى أحدكم إلى فراشه فليأخذ داخلة إزاره، فلينفض بها فراشه وليسم الله فإنه لا يعلم ما خلفه بعده على فراشه فإذا أراد ان يضطجع فليضطجع على شقه الأيمن وليقل سبحانك اللهم ربي بك وضعت جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فاغفر لها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين» رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم

أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون (43) قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون (44) وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون (45)

يقول تعالى ذاما للمشركين في اتخاذهم شفعاء من دون الله، وهم الأصنام والأنداد، التي اتخذوها من تلقاء أنفسهم بلا دليل ولا برهان حداهم على ذلك، وهي لا تملك شيئا من الأمر، بل وليس لها عقل تعقل به، ولا سمع تسمع به، ولا بصر تبصر به، بل هي جمادات أسوأ حالا من الحيوان بكثير .

ثم قال: قل: أي يا محمد لهؤلاء الزاعمين أن ما اتخذوه شفعاء لهم عند الله، أخبرهم أن الشفاعة لا تنفع عند الله إلا لمن ارتضاه وأذن له، فمرجعها كلها إليه .

(له ملك السماوات والأرض) أي: هو المتصرف في جميع ذلك (ثم إليه ترجعون) أي: يوم القيامة، فيحكم بينكم بعدله، ويجزي كلا بعمله

ثم قال تعالى ذاما للمشركين أيضا: (وإذا ذكر الله وحده) أي: إذا قيل: لا إله إلا الله، توحيداً له وعملاً بإخلاص الدين له وترك ما يعبدون من دونه (اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة) نفرت وكفرت واستكبرت .

فقلوبهم لا تقبل الخير، ومن لم يقبل الخير يقبل الشر؛ ولهذا قال: (وإذا ذكر الذين من دونه) أي: من الأصنام والأنداد، ودعا الداعي إلى عبادتها ومدحها (إذا هم يستبشرون) بذلك فرحاً بذكر معبوداتهم ولكون الشرك موافقاً لأهوائهم وهذه الحال شر الحالات وأشنعها .

قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون (46) ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون (47) وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون (48)

يقول تعالى بعد ما ذكر عن المشركين ما ذكر من المذمة، لهم في حبهم الشرك، ونفرتهم عن التوحيد (قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة) أي: ادع أنت الله وحده لا شريك له، الذي خلق السموات والأرض وفطرها، أي: جعلها على غير مثال سبق، (عالم الغيب والشهادة) أي: السر والعلانية، (أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون) أي: في دنياهم ، ستفصل بينهم يوم معادهم ونشورهم، وقيامهم من قبورهم .

روى مسلم في صحيحه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: سألت عائشة رضي الله عنها بأي شيء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل؟ قالت: كان إذا قام من الليل افتتح صلاته: «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم»

وقوله: (ولو أن للذين ظلموا) وهم المشركون، (ما في الأرض جميعا ومثله معه) أي: ولو أن جميع ملك الأرض وضعفه معه (لافتدوا به من سوء العذاب) أي: الذي أوجبه الله لهم يوم القيامة، ومع هذا لا يتقبل منهم الفداء ولو كان ملء الأرض ذهبا، كما قال في الآية الأخرى: (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون) أي: وظهر لهم من الله من العذاب والنكال بهم ما لم يكن في بالهم ولا في حسابهم

(وبدا لهم سيئات ما كسبوا) أي: وظهر لهم جزاء ما اكتسبوا في الدار الدنيا من المحارم والمآثم، (وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون) أي: وأحاط بهم من العذاب والنكال ما كانوا يستهزئون به في الدار الدنيا

فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون (49) قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون (50) فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين (51) أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون (52)

يقول تعالى مخبرا عن الإنسان أنه في حال الضراء يضرع إلى الله، عز وجل، وينيب إليه ويدعوه، وإذا خوله منه نعمة بغى وطغى، وقال: (إنما أوتيته على علم) أي: لما يعلم الله من استحقاقي له، ولولا أني عند الله تعالى خصيص لما خولني هذا

قال الله عز وجل: (بل هي فتنة) أي: ليس الأمر كما زعموا، بل أنعمنا عليه بهذه النعمة لنختبره فيما أنعمنا عليه، أيطيع أم يعصي؟ مع علمنا المتقدم بذلك، فهي فتنة أي: اختبار، (ولكن أكثرهم لا يعلمون) فلهذا يقولون ما يقولون، ويدعون ما يدعون .

(قد قالها الذين من قبلهم) أي: قد قال هذه المقالة وزعم هذا الزعم وادعى هذه الدعوى، كثير ممن سلف من الأمم (فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون) أي: فما صح قولهم ولا منعهم جمعهم وما كانوا يكسبون

(فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء) أي: من المخاطبين (سيصيبهم سيئات ما كسبوا) أي: كما أصاب أولئك، (وما هم بمعجزين) .

وقوله: (أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) أي: يوسعه على قوم ويضيقه على آخرين، (إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون) أي: لعبرا وحججا .

قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم (53) وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون (54) واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون (55) أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين (56) أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين (57) أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين (58) بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين (59)

هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة، وإخبار بأن الله يغفر الذنوب جميعا لمن تاب منها ورجع عنها، وإن كانت مهما كانت وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر ولا يصح حمل هذه الآية على غير توبة ؛ لأن الشرك لا يغفر لمن لم يتب منه .

روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما ؛ أن ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا فأتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنـزل: والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون [الفرقان: 68] ونـزل [قوله] : (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) .

والمراد من الآية الأولى قوله: إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا الآية [الفرقان: 70]

فالمراد: أنه يغفر جميع ذلك مع التوبة، ولا يقنط عبد من رحمة الله، وإن عظمت ذنوبه وكثرت؛ فإن باب التوبة والرحمة واسع .

وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "كانَ في بَنِي إسْرائِيلَ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وتِسْعِينَ إنْسانًا، ثُمَّ خَرَجَ يَسْأَلُ، فأتَى راهِبًا فَسَأَلَهُ فقالَ له: هلْ مِن تَوْبَةٍ؟ قالَ: لا، فَقَتَلَهُ، فَجَعَلَ يَسْأَلُ، فقالَ له رَجُلٌ: ائْتِ قَرْيَةَ كَذا وكَذا، فأدْرَكَهُ المَوْتُ، فَناءَ بصَدْرِهِ نَحْوَها، فاخْتَصَمَتْ فيه مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ ومَلائِكَةُ العَذابِ، فأوْحَى اللَّهُ إلى هذِه أنْ تَقَرَّبِي، وأَوْحَى اللَّهُ إلى هذِه أنْ تَباعَدِي، وقالَ: قِيسُوا ما بيْنَهُما، فَوُجِدَ إلى هذِه أقْرَبَ بشِبْرٍ، فَغُفِرَ له.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم« وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لو لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لهمْ » أخرجه مسلم

ثم استحث عباده إلى المسارعة إلى التوبة، فقال: (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له) أي: ارجعوا إلى الله واستسلموا له، (من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون) أي: بادروا بالتوبة والعمل الصالح قبل حلول النقمة

(واتبعوا أحسن ما أنـزل إليكم من ربكم) وهو القرآن العظيم، (من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون) أي: من حيث لا تعلمون ولا تشعرون

ثم قال: (أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله) أي: يوم القيامة يتحسر المجرم المفرط في التوبة والإنابة، ويود لو كان من المحسنين المخلصين المطيعين لله عز وجل

وقوله: (وإن كنت لمن الساخرين) أي: إنما كان عملي في الدنيا عمل ساخر مستهزئ غير موقن مصدق

(أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين * أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين) أي: تود أن لو أعيدت إلى الدار فتحسن العمل

ولما تمنى أهل الجرائم العود إلى الدنيا، وتحسروا على عدم تصديق آيات الله واتباع رسله، قال الله سبحانه وتعالى (بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين) أي: قد جاءتك أيها العبد النادم على ما كان منه آياتي في الدار الدنيا، وقامت حججي عليك، فكذبت بها واستكبرت عن اتباعها، وكنت من الكافرين بها، الجاحدين لها .

ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين (60) وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون (61)

يخبر تعالى عن خزي الذين كذبوا عليه وأن وجوههم تكون يوم القيامة مسودة كأنها الليل البهيم، يعرفهم بذلك أهل الموقف، فالحق أبلج واضح، كأنه الصبح، فكما سودوا وجه الحق بالكذب سود الله وجوههم جزاء من جنس عملهم، فلهم سواد الوجوه، ولهم العذاب الشديد في جهنم، ولهذا قال (أليس في جهنم مثوى للمتكبرين) أي: أليست جهنم كافية سجنا وموئلا لهم فيها الخزي والهوان، بسبب تكبرهم وتجبرهم وإبائهم عن الانقياد للحق

وقوله: (وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم) أي: مما سبق لهم من السعادة والفوز عند الله، (لا يمسهم السوء) أي: يوم القيامة، (ولا هم يحزنون) أي: ولا يحزنهم الفزع الأكبر، بل هم آمنون من كل فزع، مزحزحون عن كل شر، مؤملون كل خير .

الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل (62) له مقاليد السماوات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون (63) قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون (64) ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين (65) بل الله فاعبد وكن من الشاكرين (66)

يخبر تعالى أنه خالق الأشياء كلها، وربها ومليكها والمتصرف فيها، وكل تحت تدبيره وقهره وكلاءته

وقوله: (له مقاليد السماوات والأرض) أي: مفاتيحها، علما وتدبيرا، فلما بيَّن من عظمته ما يقتضي أن تمتلئ القلوب له إجلالا وإكراما، ذكر حال النقيض من ذلك، فلم يقدره حق قدره، فقال (والذين كفروا بآيات الله) أي: حججه وبراهينه (أولئك هم الخاسرون) خسروا ما به تصلح القلوب من التأله والإخلاص لله، وما به تصلح الألسن من إشغالها بذكر الله وما تصلح به الجوارح من طاعة الله

وقوله: (قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون) (قُلْ) يا أيها الرسول لهؤلاء الجاهلين، الذين دعوك إلى عبادة غير اللّه: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ) أي: هذا الأمر صدر من جهلكم، وإلا فلو كان لكم علم بأن اللّه تعالى الكامل من جميع الوجوه، مسدي جميع النعم، هو المستحق للعبادة، دون من كان ناقصا من كل وجه، لا ينفع ولا يضر، لم تأمروني بذلك، وذلك لأن الشرك باللّه محبط للأعمال، مفسد للأحوال، ولهذا قال (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين)

وقوله: (بل الله فاعبد وكن من الشاكرين) أي: أخلص العبادة لله وحده، لا شريك له، أنت ومن معك، أنت ومن اتبعك وصدقك

وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون (67)

يقول تعالى: وما قدر المشركون الله حق قدره، حين عبدوا معه غيره، وهو العظيم الذي لا أعظم منه، القادر على كل شيء، المالك لكل شيء، وكل شيء تحت قهره وقدرته .

وقد وردت أحاديث كثيرة متعلقة بهذه الآية الكريمة، والطريق فيها وفي أمثالها مذهب السلف، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تحريف .

روى البخاري عن عبد الله بن مسعود قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد: إنا نجد أن الله عز وجل يجعل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع فيقول: أنا الملك فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، تصديقا لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة) الآية

ثم روى البخاري عن أبي هريرة ، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يقبض الله الأرض، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض»

وروى البخاري عن ابن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين على إصبع، وتكون السموات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك»

ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون (68) وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون (69) ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون (70)

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) وهو قرن عظيم، لا يعلم عظمته إلا خالقه، ومن أطلعه اللّه على علمه من خلقه، فينفخ فيه إسرافيل عليه السلام، أحد الملائكة المقربين

(فَصَعِقَ) أي: مات، (مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ) أي: كلهم، لما سمعوا نفخة الصور أزعجتهم من شدتها وعظمها، وما يعلمون أنها مقدمة له. (إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ) عدم موته، وهذه النفخة الأولى، نفخة الصعق

(ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ) النفخة الثانية نفخة البعث (فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ ينظرون) أي: قد قاموا من قبورهم لبعثهم وحسابهم، قد تمت منهم الخلقة الجسدية والأرواح، وشخصت أبصارهم (يَنْظُرُونَ) ماذا يفعل اللّه بهم .

روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بين النفختين أربعون» قالوا: يا أبا هريرة، أربعون يوما؟ قال: أبيت، قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبيت، قالوا: أربعون شهرا؟ قال: أبيت، ويبلى كل شيء من الإنسان إلا عجب ذنبه فيه يركب الخلق .

وقوله: (وأشرقت الأرض بنور ربها) أي: أضاءت يوم القيامة إذا تجلى الحق، تبارك وتعالى، للخلائق لفصل القضاء، (ووضع الكتاب) كتاب الأعمال (وجيء بالنبيين) يشهدون على الأمم بأنهم بلغوهم رسالات الله إليهم، (والشهداء) أي: الشهداء من الملائكة الحفظة على أعمال العباد من خير وشر، (وقضي بينهم بالحق) أي: بالعدل (وهم لا يظلمون) .

وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين (71) قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين (72)

يخبر تعالى عن حال الأشقياء الكفار كيف يساقون إلى النار، وإنما يساقون (زمرا) أي: جماعات، تساق سوقا عنيفا بزجر وتهديد ووعيد، وهم في تلك الحال صم وبكم وعمي .

وقوله: (حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها) أي: بمجرد وصولهم إليها فتحت لهم أبوابها سريعا، لتعجَل لهم العقوبة، ثم يقول لهم خزنتها من الزبانية - الذين هم غلاظ الأخلاق، شداد القوى على وجه التقريع والتوبيخ والتنكيل- : (ألم يأتكم رسل منكم) أي: من جنسكم تتمكنون من مخاطبتهم والأخذ عنهم، (يتلون عليكم آيات ربكم) أي: يقيمون عليكم الحجج والبراهين على صحة ما دعوكم إليه، (وينذرونكم لقاء يومكم هذا) أي: ويحذرونكم من شر هذا اليوم؟ فيقول الكفار لهم: (بلى) أي: قد جاءونا وأنذرونا، وأقاموا علينا الحجج والبراهين، (ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين) أي: ولكن كذبناهم وخالفناهم، لِما سبق إلينا من الشقوة التي كنا نستحقها حيث عدلنا عن الحق إلى الباطل .

وقوله : (قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها) أي: كل من رآهم وعلم حالهم يشهد عليهم بأنهم مستحقون للعذاب؛ ولهذا لم يسند هذا القول إلى قائل معين، بل أطلقه ليدل على أن الكون شاهد عليهم بأنهم مستحقون ما هم فيه بما حكم العدل الخبير عليهم به؛ ولهذا قال جل وعلا (قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها) أي: ماكثين فيها لا خروج لكم منها، ولا زوال لكم عنها، (فبئس مثوى المتكبرين) أي: فبئس المصير وبئس المقيل لكم، بسبب تكبركم في الدنيا، وإبائكم عن اتباع الحق، فهو الذي صيركم إلى ما أنتم فيه، فبئس الحال وبئس المآل .

وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين (73) وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين (74)

وهذا إخبار عن حال السعداء المؤمنين حين يساقون إلى الجنة (زمرا) أي: جماعات

(حتى إذا جاءوها وفتحت لهم أبوابها) أي: وصلوا تلك الرحاب الرحيبة والمنازل الأنيقة فتحت لهم فتح إكرام لكرام الخلق ليكرموا فيها .

فقد ثبت في صحيح مسلم عن أنس، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أول شفيع في الجنة»

وعن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول محمد فيقول: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك» رواه مسلم

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على ضوء أشد كوكب دري في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتفلون ولا يمتخطون، أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة، وأزواجهم الحور العين، أخلاقهم على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم، ستون ذراعا في السماء» أخرجه البخاري ومسلم

وعن سهل بن سعد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفا - أو: سبعمائة ألف- آخذ بعضهم ببعض، حتى يدخل أولهم وآخرهم الجنة، وجوههم على صورة القمر ليلة البدر» رواه البخاري ومسلم

وعن سهل بن سعد أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة ثمانية أبواب، باب منها يسمى الريان، لا يدخله إلا الصائمون» رواه البخاري ومسلم

وقوله: (وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم) أي: طابت أعمالكم وأقوالكم، وطاب سعيكم فطاب جزاؤكم

وقوله: (فادخلوها خالدين) أي: ماكثين فيها أبدا، لا يبغون عنها حولا

(وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده) أي: يقول المؤمنون إذا عاينوا في الجنة ذلك الثواب الوافر، والعطاء العظيم، والنعيم المقيم، والملك الكبير، يقولون عند ذلك: (الحمد لله الذي صدقنا وعده) أي: الذي كان وعدنا على ألسنة رسله الكرام .

وقولهم: (وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين) أي: أرض الجنة

وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين (75)

لما ذكر تعالى حُكمه في أهل الجنة والنار، وأنه نـزل كلا في المحل الذي يليق به ويصلح له وهو العادل في ذلك الذي لا يجور - أخبر عن ملائكته أنهم محدقون من حول عرشه المجيد، يسبحون بحمد ربهم، ويمجدونه ويعظمونه ويقدسونه وينـزهونه عن النقائص والجور، وقد قضى الأمر، وحكم بالعدل؛ ولهذا قال: (وقضي بينهم) أي: بين الخلائق (بالحق)

ثم قال: (وقيل الحمد لله رب العالمين) أي: ونطق الكون أجمعه - ناطقه وبهيمه- لله رب العالمين، بالحمد في حكمه وعدله؛ ولهذا لم يسند القول إلى قائل بل أطلقه، فدل على أن جميع المخلوقات شهدت له بالحمد

تم تفسير سورة الزمر، ولله الحمد والمنة

25 - 2 - 1439هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

5 + 3 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 106 الجزء الثالث ‌‌نصيحة عامة لحكام المسلمين وشعوبهم - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 105 الجزء الثالث ‌‌نصيحة عامة حول بعض كبائر الذنوب - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 104 ‌‌ الجزء الثالث حكم الإسلام فيمن أنكر تعدد الزوجات - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 103 الجزء الثالث ‌‌الأدلة الكاشفة لأخطاء بعض الكتاب - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 102 الجزء الثالث : ليس الجهادللدفاع فقط - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 101 الجزء الثالث ‌‌حكم من مات من أطفال المشركين - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر