تفسير سورة سبأ

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الثلاثاء 15 ربيع الثاني 1439هـ | عدد الزيارات: 1670 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .

سورة سبأ مكية ، وآياتها 54

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير (1) يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور (2)

يخبر تعالى عن نفسه الكريمة: أن له الحمد المطلق في الدنيا والآخرة، لأنه المنعم المتفضل على أهل الدنيا والآخرة، المالك والحاكم لجميع ذلك ولهذا قال : (الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض) أي: الجميع ملكه وعبيده وتحت قهره وتصرفه .

ثم قال: (وله الحمد في الآخرة)، فهو المعبود أبدا، المحمود على طول المدى وقال: (وهو الحكيم) أي: في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره، (الخبير) الذي لا تخفى عليه خافية، ولا يغيب عنه شيء فهو خبير بخلقه، حكيم بأمره، ولهذا قال: (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها) أي: يعلم عدد القطر النازل في أجزاء الأرض، والحب المبذور والكامن فيها، ويعلم ما يخرج من ذلك: عدده وكيفيته وصفاته، (وما ينـزل من السماء) أي: من قطر ورزق، (وما يعرج فيها) أي: من الأعمال الصالحة وغير ذلك، (وهو الرحيم الغفور) أي: الرحيم بعباده فلا يعاجل عصاتهم بالعقوبة، الغفور عن ذنوب التائبين إليه المتوكلين عليه.

وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين (3) ليجزي الذين ءامنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم (4) والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم (5) ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد (6)

قوله : وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة وقال الكافرون المنكرون للبعث : لا تأتينا القيامة قل بلى وربي لتأتينكم قل لهم أيها الرسول : بلى وربي لتأتينكم ، عالم الغيب أي لا يعلم وقت مجيئها أحد سوى الله علام الغيوب (لا يعزب عنه) أي لا يغيب عن علمه (مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض) أي جميع الأشياء بذواتها وأجزائها حتى أصغر ما يكون من الأجزاء وهي المثاقيل منها (ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين) أي: قد أحاط به علمه وجرى به قلمه وتضمنه الكتاب المبين الذي هو اللوح المحفوظ، فالذي لا يخفى عن علمه مثقال ذرة فما دونه في جميع الأوقات ويعلم ما تنقص الأرض من الأموات وما يبقى من أجسادهم قادر على بعثهم من باب أولى وليس بعثهم بأعجب من هذا العلم المحيط .

ثم ذكر المقصود من البعث فقال (ليجزي الذين ءامنوا) بقلوبهم وصدقوا الله وصدقوا رسله تصديقاً جازماً (وعملوا الصالحات) تصديقاً لإيمانهم (أولئك لهم مغفرة) لذنوبهم بسبب إيمانهم وعملهم يندفع بها كل شر وعقاب (ورزق كريم) بإحسانهم يحصل لهم به كل مطلوب ومرغوب وأمنية (والذين سعوا في آياتنا معاجزين) أي: سعوا في الصد عن سبيل الله وتكذيب رسله، (أولئك لهم عذاب من رجز أليم) أي: لينعم السعداء من المؤمنين، ويعذب الأشقياء من الكافرين .

وقوله: (ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنـزل إليك من ربك هو الحق) هذه حكمة أخرى معطوفة على التي قبلها، وهي أن المؤمنين بما أنـزل على الرسل إذا شاهدوا قيام الساعة ومجازاة الأبرار والفجار بالذي كانوا قد علموه من كتب الله في الدنيا رأوه حينئذ عين اليقين، (ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنـزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد) العزيز هو: المنيع الجناب،الذي لا يغالب ولا يمانع، بل قد قهر كل شيء، الحميد في جميع أقواله وأفعاله وشرعه، وقدره، وهو المحمود في ذلك كله .

وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد (7) أفترى على الله كذبا أم به جنة بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد (8) أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء إن في ذلك لآية لكل عبد منيب (9)

هذا إخبار من الله عن استبعاد الكفرة الملحدين قيام الساعة واستهزائهم بالرسول صلى الله عليه وسلم في إخباره بذلك: (وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق) أي: تفرقت أجسادكم في الأرض وذهبت فيها كل مذهب وتمزقت كل ممزق: (إنكم) أي: بعد هذا الحال (لفي خلق جديد) أي: تعودون أحياء ترزقون بعد ذلك، وهو في هذا الإخبار لا يخلو أمره من قسمين: إما أن يكون قد تعمد الافتراء على الله أنه قد أوحى إليه ذلك، أو أنه لم يتعمد لكن لبس عليه كما يلبس على المعتوه والمجنون .

ولهذا قالوا: (أفترى على الله كذبا أم به جِنَّة) ؟ قال الله تعالى رادا عليهم: (بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد) أي: ليس الأمر كما زعموا ولا كما ذهبوا إليه، بل محمد صلى الله عليه وسلم هو الصادق البار الراشد الذي جاء بالحق، وهم الكذبة الجهلة الأغبياء، (في العذاب) أي: الكفر المفضي بهم إلى عذاب الله، (والضلال البعيد) من الحق في الدنيا .

ثم قال منبها لهم على قدرته في خلق السموات والأرض، فقال: (أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض) أي: حيثما توجهوا وذهبوا فالسماء مظلة مظللة عليهم، والأرض تحتهم ، وقوله: (إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء) أي: لو شئنا لفعلنا بهم ذلك لظلمهم وقدرتنا عليهم، ولكن نؤخر ذلك لحلمنا وعفونا ، ثم قال: (إن في ذلك لآية لكل عبد منيب) أي: راجع إلى ربه مطيع له .

أي: إن في النظر إلى خلق السماء والأرض لدلالة لكل عبد فطن لبيب رجاع إلى الله، على قدرة الله على بعث الأجساد ووقوع المعاد، لأن من قدر على خلق هذه السموات في ارتفاعها واتساعها، وهذه الأرضين في انخفاضها وأطوالها وأعراضها، إنه لقادر على إعادة الأجسام ونشر الرميم من العظام

ولقد ءاتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد (10) أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير (11)

يخبر تعالى عما أنعم به على عبده ورسوله داود، صلوات الله وسلامه عليه، مما آتاه من الفضل المبين، وجمع له بين النبوة والملك المتمكن، والجنود ذوي العدد والعدد، وما أعطاه ومنحه من الصوت العظيم، الذي كان إذا سبح به تسبح معه الجبال الراسيات، الصم الشامخات، وتقف له الطيور السارحات، والغاديات والرائحات، وتجاوبه، ففي صحيح البخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع صوت أبي موسى الأشعري يقرأ من الليل، فوقف فاستمع لقراءته، ثم قال (لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود) .

ومعنى قوله: (أوِبي) التأويب في اللغة هو الترجيع، فأمرت الجبال والطير أن ترجع معه

وقوله: (وألنا له الحديد) فكان كالعجين يتصرف فيه كيف يشاء

ولهذا قال: (أن اعمل سابغات) أي: دروعا تامات واسعات

(وقدر في السرد): هذا إرشاد من الله لنبيه داود، عليه السلام، في تعليمه صنعة الدروع

وقدر المسامير في حِلق الدروع، فلا تعمل الحَلقة صغيرة فتضعُف، ولا تقوى الدروع على الدفاع ولا تجعلها كبيرة، فتثقُل على لابسها.

ولما ذكر ما امتن به على نبيه داود وعلى آله أمره بشكره وأن يعملوا صالحا قال تعالى (واعملوا صالحا) أي: في الذي أعطاكم الله من النعم، (إني بما تعملون بصير) أي: مراقب لكم، بصير بأعمالكم وأقوالكم، لا يخفى علي من ذلك شيء .

ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير (12) يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور (13)

لما ذكر فضله على داود عليه السلام، ذكر فضله على ابنه سليمان عليه الصلاة والسلام، وأن الله سخر له الريح تجري بأمره وتحمله، وتقطع المسافة البعيدة في مدة يسيرة، فتسير في اليوم مسيرة شهرين (غدوها شهر) أي: أول النهار إلى الزوال (ورواحها شهر) من الزوال إلى آخر النهار (وأسلنا له عين القطر) أي: سخرنا له عين النحاس وسهلنا له الأسباب في استخراج ما يستخرج منها من الأواني وغيرها .

وقوله: (ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه) أي: وسخرنا له الجن يعملون بين يديه بإذن الله، أي: بقدره، وتسخيره لهم بمشيئته (ومن يزغ منهم عن أمرنا) أي: ومن يعدل ويخرج منهم عن الطاعة (نذقه من عذاب السعير) من عذا النار المستعرة .

والجن ولد إبليس، والإنس ولد آدم، ومن هؤلاء مؤمنون ومن هؤلاء مؤمنون، ومن كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمنا فهو ولي الله، ومن كان من هؤلاء وهؤلاء كافرا فهو شيطان .

وقوله: (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل) المحاريب جمع محراب، وهو مقدم كل مسجد

والتماثيل: صور من نحاس

وقوله: (وجفان كالجواب) قصاع كبيرة كالأحواض التي يجتمع فيها الماء (وقدور راسيات) أي: الثابتات، في أماكنها لا تتحول ولا تتحرك عن أماكنها لعظمها .

فلما ذكر منته عليهم أمرهم بشكرها فقال (اعملوا آل داود) وهم داود وأولاده وأهله لأن المنة على الجميع وكثير من هذه المصالح عائد لكلهم .

(شكرا) لله على ما أعطاهم ومقابلة لما أولاهم

وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (إن أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى) .

وقوله: (وقليل من عبادي الشكور) فأكثرهم لم يشكروا الله تعالى على ما أولاهم من النعم ودفع عنهم من النقم والشكر اعتراف القلب بمنة الله تعالى وتلقيها افتقارا إليها وصرفها في طاعة الله تعالى وصونها عن صرفها في المعصية .

فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين (14)

يذكر تعالى كيفية موت سليمان، عليه السلام، وكيف أخفى الله موته على الجان المسخرين له في الأعمال الشاقة، فإنه مكث متوكئا على عصاه وهي منسأته، فلما أكلتها دابة الأرض، وهي الأرضة، ضعفت وسقط إلى الأرض، وعُلم أنه قد مات قبل ذلك، عند ذلك علمت الجن أنهم لو كانوا يعلمون الغيب ما أقاموا في العذاب المذل والعمل الشاق لسليمان ظنا منهم أنه من الأحياء، وفي الآية إبطال لإعتقاد بعض الناس أن الجن يعلمون الغيب، إذ لو كانوا يعلمون الغيب لعلموا وفاة سليمان عليه السلام، ولا ما أقاموا في العذاب المهين .

لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور (15) فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل (16) ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور (17)

سبأ قبيلة معروفة في أداني اليمن ومسكنهم بلدة يقال لها (مأرب) ومن نعم الله ولطفه بالناس أنه قص في القرآن أخبار المهلكين والمعاقبين، فيتناقل الناس أخبارهم، ليكون ذلك أدعى إلى التصديق، وأقرب للموعظة فقال (لقد كان لسبإ في مسكنهم) أي: محلهم الذي يسكنون فيه (آية) والآية هنا ما أدر الله عليهم من النعم وصرف عنهم من النقم الذي يقتضي ذلك منهم أن يعبدوا الله ويشكروه .

ثم فسر الآية بقوله (جنتان عن يمين وشمال) وكان لهم وادي عظيم، تأتيه السيول كثيرا، وكانوا بنوا سدا محكما، يكون مجمعا للماء، فكانت السيول تأتيه، فيجتمع هناك ماء عظيم، فيفرقونه على بساتينهم التي عن يمين ذلك الوادي وشماله، وتغل لهم تلك الجنتان العظيمتان من الثمار ما يكفيهم، وكانوا في نعمة وغبطة في بلادهم، وعيشهم واتساع أرزاقهم وزروعهم وثمارهم وبعث الله إليهم الرسل تأمرهم أن يأكلوا من رزقه، ويشكروه بتوحيده وعبادته، فأعرضوا عما أمروا به، فعوقبوا بإرسال السيل الجارف الشديد الذي خرب السد، وأغرق البساتين، وتفرق سبأ في البلاد، ونزلت طائفة منهم بالشام، وأخرى بالمدينة المنورة الذين منهم الأوس والخزرج وهما من غسان من عرب اليمن .

روى ابن جرير عن فروة بن مسيك الغطيفي قال: قال رجل: يا رسول الله، أخبرني عن سبأ: ما هو؟ أرض، أم امرأة؟ قال (ليس بأرض ولا امرأة، ولكنه رجل ولد له عشرة من الولد، فتيامن ستة وتشاءم أربعة، فأما الذين تشاءموا: فلخم وجذام وعاملة وغسان، وأما الذين تيامنوا: فكندة، والأشعريون، والأزد، ومذحج، وحمير، وأنمار) فقال رجل: ما أنمار؟ قال: (الذين منهم خثعم وبجيلة) قال الألباني: حسن صحيح .

ومعنى قوله عليه السلام (كان رجلا من العرب) يعني: العرب العاربة الذين كانوا قبل الخليل، عليه السلام، من سلالة سام بن نوح وفي صحيح البخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بنفر من (أسلم) ينتضلون، فقال (ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميا) .

ومعنى قوله (ولد له عشرة من العرب) أي: كان من نسله هؤلاء العشرة الذين يرجع إليهم أصول القبائل من عرب اليمن، لا أنهم ولدوا من صلبه، بل منهم من بينه وبينه الأبوان والثلاثة والأقل والأكثر، كما هو مقرر مبين في مواضعه من كتب النسب .

ومعنى قوله (فتيامن منهم ستة، وتشاءم منهم أربعة) أي: بعد ما أرسل الله عليهم سيل العرم، منهم من أقام ببلادهم، ومنهم من نـزح عنها إلى غيرها، وكان من أمر السد أنه كان الماء يأتيهم من بين جبلين وتجتمع إليه أيضا سيول أمطارهم وأوديتهم، فعمد ملوكهم الأقادم، فبنوا بينهما سدا عظيما محكما حتى ارتفع الماء، وحكم على حافات تلك الجبلين، فغرسوا الأشجار واستغلوا الثمار في غاية ما يكون من الكثرة والحسن .

(كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور) أي: غفور لكم إن استمررتم على التوحيد .

وقوله: (فأعرضوا) أي: عن توحيد الله وعبادته وشكره على ما أنعم به عليهم، وعدلوا إلى عبادة الشمس .

وقوله: (فأرسلنا عليهم سيل العرم) أي: السيل المتوعر الذي خرب سدهم وأتلف جناتهم وخرب بساتينهم، فتبدلت تلك الجنات ذات الأشجار المثمرة، وصار بدلها أشجار لا نفع فيها، ولهذا قال (وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط) وهو الثمر المر الكريه الطعم .

(وأثل) هو شجر شبيه بالطرفاء لا ثمر له

وقوله: (وشيء من سدر قليل) وقليل من شجر النبق كثير الشوك، ذلك التبديل من خير إلى شر بسبب كفرهم وشركهم بالله، وتكذيبهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل، ولهذا قال: (ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور) أي: عاقبناهم بكفرهم، فلا نعاقب إلا الكفور .

وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما ءامنين (18) فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور (19)

يذكر تعالى ما كانوا فيه من الغبطة والنعمة، والعيش الهني الرغيد، والبلاد الرخية، والأماكن الآمنة، والقرى المتواصلة المتقاربة، بعضها من بعض، مع كثرة أشجارها وزروعها وثمارها، بحيث إن مسافرهم لا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء، بل حيث نـزل وجد ماء وثمرا، ويقيل في قرية ويبيت في أخرى، بمقدار ما يحتاجون إليه في سيرهم، ولهذا قال تعالى: (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة) وجعلنا بين أهل سبأ وهم باليمن والقرى التي باركنا فيها وهي مدن الشام مدنا متصلة يرى بعضها من بعض .

(وقدرنا فيها السير) أي: وجعلنا السير فيها سيرا مقدرا من منزل إلى منزل لا مشقة فيه (سيروا فيها ليالي وأياما ءامنين) وقلنا لهم سيروا في تلك القرى، في أي وقت شئتم من ليل أو نهار، ءامنين لا تخافون عدوا ولا جوعا ولا عطشا .

(فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم) فبطغيانهم ملوا الراحة والأمن ورغد العيش وقالوا ربنا اجعل قرانا متباعدة ليبعد سفرنا بينها فلا نجد قرى عامرة في طريقنا، كما طلب بنو إسرائيل من موسى أن يخرج الله لهم مما تنبت الأرض، من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها، مع أنهم كانوا في عيش رغيد في من وسلوى وما يشتهون من مآكل ومشارب وملابس مرتفعة، ، وقال في حق هؤلاء: (وظلموا أنفسهم) أي: بكفرهم، (فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق) أي: جعلناهم حديثا للناس، وسمرا يتحدثون به ، وكيف فرق شملهم بعد الاجتماع والألفة والعيش الهنيء تفرقوا في البلاد هاهنا وهاهنا.

وقوله تعالى: (إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) أي: إن في هذا الذي حل بهؤلاء من النقمة والعذاب، وتبديل النعمة وتحويل العافية، عقوبة على ما ارتكبوه من الكفر والآثام - لعبرة ودلالة لكل عبد صبار على المصائب، شكور على النعم .

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: (عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن) .

ولقد صدّق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين (20) وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شيء حفيظ (21)

لما ذكر تعالى قصة سبأ وما كان من أمرهم في اتباعهم الهوى والشيطان، أخبر عنهم وعن أمثالهم ممن اتبع إبليس والهوى، وخالف الرشاد والهدى، فقال: (ولقد صدّق عليهم إبليس ظنه) لقد ظن إبليس ظنا غير يقين أنه سيضل بني آدم وأنهم سيطيعونه في معصية الله فصدق ظنه فيهم (فاتبعوه) فأطاعوه وعصوا ربهم (إلا فريقا من المؤمنين) ممن لم يكفر بنعمة الله، فإنهم ثبتوا على طاعة الله، فلم يدخلوا تحت ظن إبليس .

ثم قال تعالى (وما كان له) أي: إبليس (عليهم من سلطان) أي: تسلط وقهر وقسر على ما يريده منهم، ولكن حكمة الله تعالى اقتضت تسليطه، وتسويله لبني آدم (إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك) أي: إنما سلطناه عليهم ليظهر أمر من هو مؤمن بالآخرة وقيامها والحساب فيها والجزاء، فيحسن عبادة ربه عز وجل في الدنيا، ممن هو منها في شك .

وقوله: (وربك على كل شيء حفيظ) يحفظ العباد ويحفظ عليهم أعمالهم، ويحفظ تعالى جزاءها فيوفيهم إياها كاملة موفرة .

قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير (22) ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحقَ وهو العلي الكبير (23)

بيَّنَ تعالى أنه الإله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لا نظير له ولا شريك له، بل هو المستقل بالأمر وحده، من غير مشارك ولا منازع ولا معارض، فقال: (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله) أي: من الآلهة التي عُبدت من دونه (لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض).

وقوله: (وما لهم) أي: لتلك الألهة الذين زعمتم (فيهما) أي: في السموات والأرض (من شرك) أي: لا شرك قليل ولا كثير، فليس لهم ملك (وما له منهم من ظهير) وليس لله من هذه الأنداد من ظهير يستظهر به في الأمور، بل الخلق كلهم فقراء إليه، عبيد لديه .

(وما له) أي: لله تعالى الواحد القهار (منهم) أي: من هؤلاء المعبودين (من ظهير) أي: معاون ووزير يساعده على الملك والتدبير .

وقال: (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) أي: لعظمته وكبريائه لا يجترئ أحد أن يشفع عنده تعالى في شيء إلا بعد إذنه له في الشفاعة .

ولهذا ثبت في الصحيحين، من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو سيد ولد آدم، وأكبر شفيع عند الله-: أنه حين يقوم المقام المحمود ليشفع في الخلق كلهم أنه يأتي ربهم لفصل القضاء، قال (فأسجد لله فيَدعني ما شاء الله أن يدعني، ويفتح علي بمحامد لا أحصيها الآن، ثم يقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يُسمع، وسل تُعطه واشفع تُشفع) الحديث بتمامه .

وقوله:(حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق) وهذا أيضا مقام رفيع في العظمة

(حتى إذا فزع عن قلوبهم) أي: زال الفزع عنها

روى البخاري عن أبي هريرة قال: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال (إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق، وهو العلي الكبير فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع - هكذا بعضه فوق بعض- ووصف سفيان بيده- فحرفها وبدد بين أصابعه- فيسمع الكلمة، فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء) .

وعن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في نفر من أصحابه فرُمي بنجم فاستنار، قال: (ما كنتم تقولون إذا كان مثل هذا في الجاهلية؟) قالوا: كنا نقول يولد عظيم، أو يموت عظيم - قلت للزهري: أكان يُرمى بها في الجاهلية؟ قال: نعم، ولكن غُلظت حين بُعث النبي صلى الله عليه وسلم - قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإنها لا يُرمى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا، تبارك وتعالى، إذا قضى أمرا سبح حملة العرش ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح هذه الدنيا، ثم يستخبر أهل السماء الذين يلون حملة العرش، فيقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش ، ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم، ويخبر أهل كل سماء سماء، حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء، وتخطف الجن السمع فيرمون، فما جاؤوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يُفرقون فيه ويزيدون) رواه مسلم

قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين (24) قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون (25) قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم (26) قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم (27)

يقول تعالى مقررا تفرده بالخلق والرزق، وانفراده بالإلهية أيضا، فكما كانوا يعترفون بأنه لا يرزقهم من السماء والأرض - أي: بما ينـزل من المطر وينبت من الزرع- إلا الله، فكذلك فليعلموا أنه لا إله غيره .

وقوله: (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) أي: واحد من الفريقين مبطل، والآخر محق، لا سبيل إلى أن تكونوا أنتم ونحن على الهدى أو على الضلال، بل واحد منا مصيب، ونحن قد أقمنا البرهان على التوحيد، فدل على بطلان ما أنتم عليه من الشرك بالله، ولهذا قال: (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) .

وقوله: (قل لا تُسألون عما أجرمنا ولا نُسأل عما تعملون): معناه التبري منهم، أي: لستم منا ولا نحن منكم، بل ندعوكم إلى الله وإلى توحيده وإفراد العبادة له، فإن أجبتم فأنتم منا ونحن منكم، وإن كذّبتم فنحن برآء منكم وأنتم برآء منا .

وقوله: (قل يجمع بيننا ربَّنا) أي: يوم القيامة، يجمع بين الخلائق في صعيد واحد، (ثم يفتح بيننا بالحق) أي: يحكم بيننا بالعدل، فيجزي كل عامل بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر وستعلمون يومئذ لمن العزة والنصرة والسعادة الأبدية ، ولهذا قال تعالى: (وهو الفتاح العليم) أي: الحاكم العادل العالم بحقائق الأمور .

وقوله: (قل أروني الذين ألحقتم به شركاء) أي: أروني هذه الآلهة التي جعلتموها لله أندادا وصيرتموها له عدلا (كلا) أي: ليس له نظير ولا نديد، ولا شريك ولا عديل، ولهذا قال: (بل هو الله): أي: الواحد الأحد الذي لا شريك له (العزيز الحكيم) أي: ذو العزة التي قد قهر بها كل شيء، وغلبت كل شيء، الحكيم في أفعاله وأقواله، وشرعه وقدره، تعالى وتقدس .

وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون (28) ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين (29) قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون (30)

يقول تعالى لعبده ورسوله محمد، صلوات الله وسلامه عليه: (وما أرسلناك إلا كافة للناس): أي: إلا إلى جميع الخلق من المكلفين تبشر من أطاعك بالجنة، وتنذر من عصاك بالنار .

(ولكن أكثر الناس لا يعلمون) أي: ليس لهم علم صحيح

ثم قال تعالى مخبرا عن الكفار في استبعادهم قيام الساعة: (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) .

ثم قال: (قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون) أي: لكم ميعاد مؤجل معدود محرر، لا يزيد ولا ينقص، فإذا جاء فلا يؤخر ساعة ولا يقدم .

وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين (31) قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين (32) وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون (33)

يخبر تعالى عن تمادي الكفار في طغيانهم وعنادهم وإصرارهم على عدم الإيمان بالقرآن وما أخبر به من أمر المعاد، ولهذا قال: (وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه) قال الله تعالى مهددا لهم ومتوعدا، ومخبرا عن مواقفهم الذليلة بين يديه في حال تخاصمهم وتحاجهم: (يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا) وهم الأتباع (للذين استكبروا) منهم وهم قادتهم وسادتهم: (لولا أنتم لكنا مؤمنين) أي: لولا أنتم تصدونا، لكنا اتبعنا الرسل وءامنا بما جاؤونا به .

فقال لهم القادة والسادة، وهم الذين استكبروا: (أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم) أي: نحن ما فعلنا بكم أكثر من أنا دعوناكم فاتبعتمونا من غير دليل ولا برهان، وخالفتم الأدلة والبراهين والحُجج التي جاءت بها الأنبياء، لشهوتكم واختياركم لذلك، ولهذا قالوا: (بل كنتم مجرمين * وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار) أي: بل كنتم تمكرون بنا ليلا ونهارا، وتغرونا وتُمَنونا، وتخبرونا أنا على هدى وأنا على شيء، فإذا جميع ذلك باطل وكذب .

(إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا) أي نظراء وءالهة معه، وتقيموا لنا شبها وأشياء من المحال تضلونا بها (وأسروا الندامة لما رأوا العذاب) أي: الجميع من السادة والأتباع، كل ندم على ما سلف منه .

(وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا) يغلون كما يغل المسجون الذي سيهان في سجنه ، (هل يجزون) في هذا العذاب والنكال، وتلك الأغلال الثقال (إلا ما كانوا يعملون) من الكفر والفسوق والعصيان .

وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون (34) وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين (35) قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون (36) وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من ءامن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات ءامنون (37) والذين يسعون في ءاياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون (38) قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين (39)

يقول تعالى مسليا لنبيه، وءامرا له بالتأسي بمن قبله من الرسل، ومخبره بأنه ما بعث نبيا في قرية إلا كذبه مترفوها، واتبعه ضعفاؤهم، قال: (وما أرسلنا في قرية من نذير) أي: نبي أو رسول (إلا قال مترفوها) إلا قال المنغمسون في اللذات والشهوات من أهلها .

(إنا بما أرسلتم به كافرون) أي: لا نؤمن به ولا نتبعه وهكذا قال هرقل لأبي سفيان حين سأله عن تلك المسائل، قال فيها: وسألتك: أضعفاء الناس اتبعه أم أشرافهم فزعمتَ: بل ضعفاؤهم، وهم أتباع الرسل .

وقوله تعالى إخبارا عن المترفين المكذبين: (وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين) أي: افتخروا بكثرة الأموال والأولاد، واعتقدوا أن ذلك دليل على محبة الله لهم واعتنائه بهم، وأنه ما كان ليعطيهم هذا في الدنيا، ثم يعذبهم في الآخرة، وهيهات لهم ذلك .

قال تعالى: (قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) أي: يعطي المال لمن يحب ومن لا يحب، فيفقر من يشاء ويغني من يشاء، وله الحكمة التامة البالغة، والحجة الدامغة القاطعة (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) .

ثم قال: (وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى) أي: ليست هذه دليلا على محبتنا لكم، ولا اعتنائنا بكم .

روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم "

ولهذا قال: (إلا من ءامن وعمل صالحا) أي: إنما يقربكم عندنا زلفى الإيمان والعمل الصالح، (فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا) أي: تضاعف لهم الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف (وهم في الغرفات ءامنون) أي: في منازل الجنة العالية ءامنون من كل بأس وخوف وأذى، ومن كل شر يُحذر منه .

(والذين يسعون في ءاياتنا معاجزين) أي: يسعون في الصد عن سبيل الله، واتباع الرسل والتصديق بآياته، (أولئك في العذاب محضرون) أي: جميعهم مجزيون بأعمالهم فيها بحسبهم .

وقوله: (قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له) أي: بحسب ما لَه في ذلك من الحكمة، يبسط على هذا من المال كثيرا، ويضيق على هذا، وله في ذلك من الحكمة ما لا يدركها غيره، فكما هم متفاوتون في الدنيا: هذا فقير مدقع، وهذا غني موسع عليه، فكذلك هم في الآخرة: هذا في الغرفات في أعلى الدرجات، وهذا في الغمرات في أسفل الدركات .

وأطيب الناس في الدنيا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قد أفلح من أسلم ورزق كفافا، وقنعه الله بما ءاتاه) رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما .

وقوله: (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه) أي: مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم به وأباحه لكم، فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبدل، وفي الآخرة بالجزاء والثواب، كما ثبت في الحديث: يقول الله تعالى: أنفق أُنفق عليك) رواه البخاري ومسلم، وفي الحديث: " ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما : اللهم أعط ممسكا تلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط منفقا خلفا) رواه البخاري

ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون (40) قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون (41) فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون (42)

يخبر تعالى أنه يُقرع المشركين يوم القيامة على رؤوس الخلائق، فيسأل الملائكة الذين كان المشركون يزعمون أنهم يعبدون الأنداد التي هي على صورة الملائكة ليقربوهم إلى الله زلفى، فيقول للملائكة: (أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون) ؟ أي: أنتم أمرتم هؤلاء بعبادتكم ؟ وهكذا تقول الملائكة: (سبحانك) أي: تعاليت وتقدست عن أن يكون معك إله (أنت ولينا من دونهم) أي: نحن عبيدك ونبرأ إليك من هؤلاء، (بل كانوا يعبدون الجن) يعنون: الشياطين، لأنهم هم الذين يزينون لهم عبادة الأوثان ويضلونهم، (أكثرهم بهم مؤمنون) أي: مصدقون للجن منقادون لهم، لأن الإيمان هو التصديق الموجب للانقياد .

فلم تبرأوا منهم، قال تعالى مخاطبا لهم (فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا) أي: لا يقع لكم نفع ممن كنتم ترجون نفعه اليوم من الأنداد والأوثان، التي ادخرتم عبادتها لشدائدكم وكربكم، اليوم لا يملكون لكم نفعا ولا ضرا، (ونقول للذين ظلموا) - وهم المشركون- (ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون) أي: يقال لهم ذلك، تقريعا وتوبيخا .

وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين (43) وما ءاتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير (44) وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما ءاتيناهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير (45)

يخبر تعالى عن الكفار أنهم يستحقون منه العقوبة والأليم من العذاب، لأنهم كانوا إذا تتلى عليهم آياته بينات يسمعونها غضة طرية من لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، (قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد ءاباؤكم)، يعنون أن دين ءابائهم هو الحق، وأن ما جاءهم به الرسول عندهم باطل - عليهم وعلى ءابائهم لعائن الله- (وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى) يعنون: القرآن، (وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين) أي: سحر ظاهر لكل أحد، تكذيبا بالحق وترويجا على السفهاء، ولما بين ما ردوا به الحق وأنها أقوال دون مرتبة الشبهة فضلا عن أن تكون حجة ذكر أنهم وإن أراد أحد أن يحتج لهم فإنهم لا مستند لهم، ولا لهم شيء يعتمد عليه أصلا، فقال (وما ءاتيناهم من كتب يدرسونها) حتى تكون عمدة لهم (وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير) حتى يكون عندهم من أقواله وأحواله ما يدفعون به ما جئتهم به، فليس عندهم علم ولا أثارة من علم .

ثم خوفهم ما فعل بالأمم المكذبين قبلهم فقال (وكذب الذين من قبلهم) أي: من الأمم، (وما بلغوا معشار ما ءاتيناهم) أي: الأمم الذين من قبلهم (فكذبوا رسلي فكيف كان نكير) أي: فكيف كان نكالي وعقابي وانتصاري لرسلي ؟

قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد (46)

يقول تعالى: قل يا محمد لهؤلاء الكافرين الزاعمين أنك مجنون: (إنما أعظكم بواحدة) أي: بخصلة واحدة أشير عليكم بها وأنصح لكم في سلوكها (أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة) أي: تنهضوا بهمة ونشاط وقصد لاتباع الصواب وإخلاص لله مجتمعين ومتباحثين في ذلك ومتناظرين وفرادى، كل واحد يخاطب نفسه بذلك، فإذا قمتم لله مثنى وفرادى استعملتم فكركم وتدبرتم أحوال رسولكم هل هو مجنون، فيه صفات المجانين، من كلامه وهيئته وصفته، أم هو نبي صادق منذر لكم، ما يضركم مما أمامكم من العذاب الشديد (ثم تتفكروا) أي: ينظر الرجل لنفسه في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، ويسأل غيره من الناس عن شأنه إن أشكل عليه، ويتفكر في ذلك، ولهذا قال: (أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة)

وقوله: (إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد) أي: مخوف لكم ونذير من عذاب جهنم قبل أن تقاسوا حرها .

روى البخاري عن ابن عباس قال: صعد النبي صلى الله عليه وسلم الصفا ذات يوم، فقال: يا صباحاه، فاجتمعت إليه قريش، فقالوا: ما لك؟ فقال: أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبحكم أو يمسيكم، أما كنتم تصدقوني؟، قالوا: بلى قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد » فقال أبو لهب: تبا لك! ألهذا جمعتنا؟ فأنـزل الله: تبت يدا أبي لهب وتب) المسد .

قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد (47) قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب (48) قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد (49) قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب (50)

يقول تعالى ءامرا رسوله أن يقول للمشركين: (ما سألتكم من أجر فهو لكم) أي: لا أريد منكم جعلا ولا عطاء على أداء رسالة الله إليكم، ونصحي إياكم، وأمركم بعبادة الله، (إن أجري إلا على الله) أي: إنما أطلب ثواب ذلك من عند الله (وهو على كل شيء شهيد) أي: عالم بجميع الأمور، بما أنا عليه من إخباري عنه بإرساله إياي إليكم، وما أنتم عليه .

وقوله: (قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب) قل أيها الرسول لمن أنكر التوحيد ورسالة الإسلام إن ربي يقذف الباطل بحجج من الحق فيفضحه ويهلكه، والله علام الغيوب، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء .

وقوله: (قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد) أي: جاء الحق من الله والشرع العظيم، وذهب الباطل وزهق واضمحل، ولهذا لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد الحرام يوم الفتح، ووجد تلك الأصنام منصوبة حول الكعبة، جعل يطعن الصنم بِسِيَةِ قوسه، ويقرأ: (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا)، (قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد) رواه البخاري ومسلم، أي: لم يبق للباطل مقالة ولا رياسة ولا كلمة .

وقوله: (قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يُوحي إلي ربي) أي: الخير كله من عند الله، وفيما أنـزله الله عز وجل من الوحي والحق المبين فيه الهدى والبيان والرشاد، ومن ضل فإنما يضل من تلقاء نفسه (إنه سميع قريب) أي: سميع لأقوال عباده، قريب مجيب دعوة الداعي إذا دعاه، وقد روى البخاري ومسلم عن أبي موسى قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنكم لا تدعون أصماً ولا غائبا، إنما تدعون سميعا قريبا مجيبا)

ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب (51) وقالوا ءامنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد (52) وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد (53) وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب (54)

يقول تعالى: ولو ترى - يا محمد- إذ فزع هؤلاء المكذبون يوم القيامة، (فلا فوت) أي: فلا مفر لهم، ولا وزَرَ ولا ملجأ (وأخذوا من مكان قريب) أي: ليس بعيدا عن محل العذاب، بل يؤخذون ثم يقذفون في النار وذلك يوم القيامة .

(وقالوا) في تلك الحال (ءامنا به) أي: صدقنا ما به كذبنا، ولهذا قال تعالى: (وأنى لهم التناوش من مكان بعيد) أي: وكيف لهم تعاطي الإيمان وقد بعدوا عن محل قبوله منهم وصاروا إلى الدار الآخرة، وهي دار الجزاء لا دار الابتلاء، فلو كانوا ءامنوا في الدنيا لكان ذلك نافعهم، ولكن بعد مصيرهم إلى الدار الآخرة لا سبيل لهم إلى قبول الإيمان، كما لا سبيل إلى حصول الشيء لمن يتناوله من بعيد .

وقوله: (وقد كفروا به من قبل) أي: كيف يحصل لهم الإيمان في الآخرة، وقد كفروا بالحق في الدنيا وكذبوا بالرسل؟

(ويقذفون) أي: يرمون (بالغيب من مكان بعيد) بقذفهم الباطل ليدحضوا به الحق ولكن لا سبيل إلى ذلك، كما لا سبيل للرامي من مكان بعيد إلى إصابة الغرض، فكذلك الباطل من المحال أن يغلب الحق أو يدفعه وإنما يكون له صولة وقت غفلة الحق عنهم فإذا برز الحق وقاوم الباطل قمعه

وقوله: (وحيل بينهم وبين ما يشتهون) وهي: التوبة، والعودة إلى الدنيا ليؤمنوا .

وقوله: (كما فعل بأشياعهم من قبل) أي: كما جرى للأمم الماضية المكذبة للرسل، لما جاءهم بأس الله تمنوا أن لو ءامنوا فلم يقبل منهم .

وقوله: (إنهم كانوا في شك مُريب) أي: كانوا في الدنيا في شك وريبة من أمر الرسل والبعث والحساب، محدث للريبة والقلق، فلذلك لم يؤمنوا .

تم تفسير سورة سبأ ، ولله الحمد والمنَّة .

15 - 4 - 1439هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

8 + 8 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 124 الجزء الثالث ‌‌أهمية الغطاء على وجه المرأة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 123 الجزء الثالث ‌‌حكم قيادة المرأة للسيارة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر