ﺟﺪﻳﺪ اﻟﻤﻮﻗﻊ

تفسير سورة الأحزاب

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الثلاثاء 29 ربيع الثاني 1439هـ | عدد الزيارات: 2011 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسو ل الله .

سورة الأحزاب مدنية ، وآياتها73

بسم الله الرحمن الرحيم

يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما (1) واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا (2) وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا (3)

هذا تنبيه بالأعلى على الأدنى، فإنه تعالى إذا كان يأمر عبده ورسوله بهذا، فلإن يأتمر من دونه بذلك بطريق الأولى والأحرى، فيا أيها الذي منَّ الله عليه بالنبوة واختصه بوحيه وفضله على سائر الخلق، اشكر نعمة ربك عليك بتقواه التي أنت أولى بها من غيرك، والتي تجب عليك أعظم ممن سواك، وامتثل أوامره ونواهيه وبلغ رسالاته وأد إلى عباده وحيه، وابذل النصيحة للخلق، ولا يصدنك عن هذا المقصود صاد، ولا يردك عنه راد .

وقوله: (ولا تطع الكافرين والمنافقين) فلا تطع كل كافر أظهر العداوة لله ولرسوله، ولا منافق أبطن التكذيب والكفر وأظهر الإسلام، فهؤلاء هم الأعداء، فلا تطعهم في بعض الأمور التي تناقض التقوى، ولا تتبع أهواءهم، ولا تسمع منهم ولا تستشرهم فيضلوك عن الصواب (إن الله كان عليما حكيما) أي: فهو أحق أن تتبع أوامره وتطيعه، فإنه عليم بعواقب الأمور، حكيم في أقواله وأفعاله (و) لكن (اتبع ما يوحى إليك من ربك) فهو الهدى والرحمة، (إن الله كان بما تعملون خبيرا) لا تخفى عليه خافية .

(وتوكل على الله) في جميع أمورك وأحوالك، بأن تعتمد على ربك اعتماد من لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، في سلامتك من شرهم وفي إقامة الدين الذي أمرت به (وكفى بالله وكيلا) وكفى به وكيلا لمن توكل عليه وأناب، وذلك لعلمه بمصالح عبده من حيث لا يعلم، وقدرته على إيصالها إليه من حيث لا يقدر، وأنه أرحم بعبده من نفسه ومن والديه .

ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل (4) ادعوهم لأبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما (5)

قوله :(ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) هذا لا يوجد، فإياكم أن تقولوا عن أحد إن له قلبين في جوفه، فتكونوا كاذبين على الخلقة الإلهية (وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن) بأن يقول أحدكم لزوجته أنت علي كظهر أمي، أو كأمي، فما جعلهن الله (أمهاتكم) أمك من ولدتك وصارت أعظم النساء عليك حرمة وتحريما، وزوجتك أحل النساء لك، فكيف تشبه أحد المتناقضين بالآخر، هذا أمر لا يجوز .

وقوله: (وما جعل أدعياءكم أبناءكم) فإنها نـزلت في شأن زيد بن حارثة مولى النبي صلى الله عليه وسلم، كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبناه قبل النبوة، وكان يقال له: (زيد بن محمد) فأراد الله تعالى أن يقطع هذا الإلحاق وهذه النسبة بقوله: (وما جعل أدعياءكم أبناءكم) كما قال في أثناء السورة: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما) الأحزاب: (40) وقال هاهنا: (ذلكم قولكم بأفواهكم) يعني: تبنيكم لهم قول لا يقتضي أن يكون ابنا حقيقيا، فإنه مخلوق من صلب رجل آخر، فما يمكن أن يكون له أبوان، كما لا يمكن أن يكون للبشر الواحد قلبان .

(والله يقول الحق وهو يهدي السبيل) أي: اليقين والصدق، فلذلك أمركم باتباعه على قوله وشرعه، فقوله حق، وشرعه حق، والأقوال والأفعال الباطلة لا تنسب إليه، وليست من هدايته، لأنه لا يهدي إلا إلى السبل المستقيمة .

وقوله: (ادعوهم لأبائهم هو أقسط عند الله): هذا أمر ناسخ لما كان في ابتداء الإسلام من جواز ادعاء الأبناء الأجانب، وهم الأدعياء، فأمر تعالى برد نسبهم إلى آبائهم في الحقيقة، وأن هذا هو العدل والقسط .

روى البخاري عن عبد الله بن عمر؛ أن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد، حتى نـزل القرآن: (ادعوهم لأبائهم هو أقسط عند الله) .

وقد كانوا يعاملونهم معاملة الأبناء من كل وجه، في الخلوة بالمحارم وغير ذلك؛ ولهذا قالت سهلة بنت سهيل امرأة أبي حذيفة: يا رسول الله، إنَّ سالمًا قد بلغ ما يبلُغُ الرِّجالُ ، وعقل ما عقلوه ، وإنَّه يدخُلُ علينا ، وإنِّي أظنُّ في نفسِ أبي حُذَيفةَ من ذلك شيئًا ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : أرضعيه تحرُمي عليه ، فأرضعته ، فذهب الَّذي في نفسِ أبي حُذَيفةَ ، فرجعتُ إليه فقلتُ : إنِّي قد أرضعتُه ، فذهب الَّذي في نفسِ أبي حُذيفةَ ، رواه النسائي وصححه الألباني

ولهذا لما نُسخ هذا الحكم، أباح تعالى زوجة الدعي، وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش زوجة زيد بن حارثة، وقال: (لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا) الأحزاب: (37) ، وأما الابن من الرضاعة، فمنـزل منـزلة ابن الصلب شرعا، بقوله عليه السلام في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها (يحرم من الرضاعة ما يَحرم من النسب) فأما دعوة الغير ابنا على سبيل التكريم والتحبيب، فليس مما نهى عنه في هذه الآية .

وقوله: (فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم): أمر تعالى برد أنساب الأدعياء إلى آبائهم، إن عُرفوا، فإن لم يَعرفوا آباءهم، فهم إخوانهم في الدين ومواليهم، أي: عوضا عما فاتهم من النسب ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خرج من مكة عام عمرة القضاء، وتبعتهم ابنة حمزة تنادي: يا عم، يا عم فأخذها علي وقال لفاطمة: دونك ابنة عمك فاحتمليها فاختصم فيها علي، وزيد، وجعفر في أيهم يكفلها، فكل أدلى بحجة ؛ فقال علي: أنا أحق بها وهي ابنة عمي وقال زيد: ابنة أخي وقال جعفر بن أبي طالب: ابنة عمي، وخالتها تحتي يعني أسماء بنت عميس فقضى النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها، وقال: (الخالة بمنـزلة الأم) وقال لعلي: (أنت مني، وأنا منك) وقال لجعفر: (أشبهتَ خلقي وخلقي) وقال لزيد (أنت أخونا ومولانا) رواه البخاري .

ففي هذا الحديث أحكام كثيرة منها: أنه عليه الصلاة والسلام حكم بالحق، وأرضى كلا من المتنازعين، وقال لزيد: (أنت أخونا ومولانا)، كما قال تعالى: (فإخوانكم في الدين ومواليكم) .

وقد جاء في الحديث (ليس من رجل ادعى لغير أبيه، وهو يعلمه إلا كفر) رواه مسلم ، وهذا تشديد وتهديد ووعيد أكيد، في التبري من النسب المعلوم، ولهذا قال (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم) .

ثم قال: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به) بأن سبق على لسان أحدكم دعوته إلى من تبناه فهذا غير مؤاخذ به أو عُلم أبوه ظاهرا فدعوتموه إليه وهو في الباطن غير أبيه، فليس في ذلك حرج إذا كان خطأ ، وثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله: قد فعلت) ،وفي صحيح البخاري، عن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب، فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ، فله أجر) وقال هاهنا: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم) أي: وإنما الإثم على من تعمد الباطل (وكان الله غفورا رحيما) غفر لكم ورحمكم حيث لم يعاقبكم بما سلف، وسمح لكم بما أخطأتم به، ورحمكم حيث بين لكم أحكامه التي تُصلح دينكم ودنياكم، فله الحمد والمنة .

النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا (6)

(النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) أقرب ما للإنسان وأولى ماله نفسه، فالرسول أولى بالمؤمن من نفسه، لأنه عليه الصلاة والسلام بذل لهم من النصح والشفقة والرأفة ما كان به أرحم الخلق وأرأفهم، فرسول الله أعظم الخلق منة عليهم من كل أحد، فإنه لم يصل إليهم مثقال ذرة من الخير، ولا اندفع عنهم مثقال ذرة من الشر إلا على يديه وبسببه، فلذلك وجب عليهم إذا تعارض مراد النفس أو مراد أحد من الناس مع مراد الرسول، أن يُقدم مراد الرسول، وألا يُعارض قول الرسول بقول أحد كائنا من كان، وأن يفدوه بأنفسهم وأموالهم وأولادهم، ويقدموا محبته على الخلق كلهم، وحكمه فيهم مقدما على اختيارهم لأنفسهم، وفي صحيح البخاري: (والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين) وفي صحيح البخاري أيضا أن عمر، رضي الله عنه، قال: يا رسول الله، والله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال: (لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك) فقال: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء حتى من نفسي فقال: (الآن يا عمر) .

وروى البخاري عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والأخرة اقرؤوا إن شئتم: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهمفأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا فإن ترك دينا أو ضَياعا، فليأتني فأنا مولاه) .

وقوله: (وأزواجه أمهاتهم) أي: في الحرمة والاحترام، والإكرام والتوقير والإعظام، ولكن لا تجوز الخلوة بهن، ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع، وهو من باب إطلاق العبارة لا إثبات الحكم .

وقوله: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) أي: في حكم الله (من المؤمنين والمهاجرين) أي: سواء كان الأقارب مؤمنين مهاجرين أو غير مهاجرين، فإن ذوي الأرحام مقدمون في ذلك .

وقوله: (إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا) أي: ليس لهم حق مفروض، وإنما هو بإرادتكم، إن شئتم أن تتبرعوا لهم تبرعا وتعطوهم معروفا منكم .

(كان ذلك) الحكم المذكور (في الكتاب مسطورا) أي: قد سطر وكتب وقدره الله، فلا بد من نفوذه .

وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا (7) ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما (8)

يخبر تعالى أنه أخذ من النبيين عموما ومن أولي العزم وهم هؤلاء الخمسة المذكورون خصوصا، ميثاقهم الغليظ، على القيام بدين الله، والجهاد في سبيله، وأن هذا سبيل قد سار عليه الأنبياء المتقدمون، حتى خُتموا بسيدهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم .

وقوله: (ليسأل) الله تعالى يوم القيامة (الصادقين) وهم الأنبياء (عن صدقهم) في تبليغ رسالتهم، تقريعا لأممهم الذين كفروا وكذبوا (وأعد للكافرين عذابا أليما) أي: موجعا، وهو عذاب النار .

يا أيها الذين ءامنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا (9) إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا (10)

يقول تعالى مخبرا عن نعمته وفضله وإحسانه إلى عباده المؤمنين، في صرفه أعدائهم وهزمه إياهم لما تألبوا عليهم وتحزبوا وذلك عام الخندق، في شوال سنة خمس من الهجرة .

وكان سبب قدوم الأحزاب أن نفرا من أشراف يهود بني النضير، الذين كانوا قد أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى خيبر، منهم: سلام بن أبي الحقيق، وسلام بن مشكم، وكنانة بن الربيع، خرجوا إلى مكة واجتمعوا بأشراف قريش، وألبوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعدوهم من أنفسهم النصر والإعانة فأجابوهم إلى ذلك، ثم خرجوا إلى غطَفان فدعوهم فاستجابوا لهم أيضا وخرجت قريش، ومن تابعها، وقائدهم أبو سفيان صخر بن حرب، وعلى غطَفان عيينة بن حصن بن بدر، والجميع قريب من عشرة آلاف، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسيرهم أمر المسلمين بحفر الخندق حول المدينة مما يلي الشرق، وذلك بإشارة سلمان الفارسي، فعمل المسلمون فيه واجتهدوا، ونقل معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب وحفر، وكان في حفره ذلك آيات بينات ودلائل واضحات .

وجاء المشركون فنـزلوا شرقي المدينة قريبا من أحد، ونـزلت طائفة منهم في أعالي أرض المدينة، كما قال الله تعالى: (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم)، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن معه من المسلمين، وهم نحو ثلاثة آلاف، وأسندوا ظهورهم إلى سَلْع ووجوههم إلى نحو العدو، والخندق حفير ليس فيه ماء بينهم يحجب الرَّجّالة والخيالة أن تصل إليهم، وجعل النساء والذراري في آطام المدينة، وكانت بنو قريظة - وهم طائفة من اليهود - لهم حصن شرقي المدينة، ولهم عهد من النبي صلى الله عليه وسلم وذمة، وهم قريب من ثمانمائة مقاتل فذهب إليهم حيي بن أخطب النضْري اليهودي، فلم يزل بهم حتى نقضوا العهد، ومالؤوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعظم الخطب واشتد الأمر، وضاق الحال، كما قال الله تعالى: (هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا) .

ومكثوا محاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قريبا من شهر، إلا أنهم لا يصلون إليهم، ولم يقع بينهم قتال، إلا أن عمرو بن عبد ود العامري - وكان من الفرسان الشجعان المشهورين في الجاهلية - ركب ومعه فوارس فاقتحموا الخندق، وخلصوا إلى ناحية المسلمين، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم خيل المسلمين إليه، فلم يبرز إليه أحد، فأمر علياً فخرج إليه، فتجاولا ساعة، ثم قتله علي، رضي الله عنه، فكان علامة على النصر .

ثم أرسل الله عز وجل، على الأحزاب ريحا شديدة الهبوب قوية، لم تَبق لهم خيمة ولا شيء ولا توقد لهم نار، ولا يقر لهم قرار حتى ارتحلوا خائبين خاسرين، كما قال الله تعالى: (يا أيها الذين ءامنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا) وهي الصبا، ويؤيده الحديث الآخر: (نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور) رواه البخاري

وقوله: (وجنودا لم تروها) وهم الملائكة، زلزلتهم وألقت في قلوبهم الرعب والخوف، فكان رئيس كل قبيلة يقول: يا بني فلان إلي فيجتمعون إليه فيقول: النجاء، النجاء لما ألقى الله تعالى في قلوبهم من الرعب .

روى مسلم في صحيحه عن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال: كنا عند حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه، فقال له رجل: لو أدركتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاتلت معه وأبليت فقال له حذيفة: أنت كنت تفعل ذلك؟ لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب في ليلة ذات ريح شديدة وقر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا رجل يأتي بخبر القوم، يكون معي يوم القيامة؟) فلم يجبه منا أحد، ثم الثانية، ثم الثالثة مثله ثم قال (يا حذيفة، قم فأتنا بخبر من القوم) فلم أجد بدا إذ دعاني باسمي أن أقوم، فقال: (ائتني بخبر القوم، ولا تذعرهم علي) قال: فمضيت كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم، فإذا أبو سفيان يَصلي ظهره بالنار، فوضعت سهما في كبد قوسي، وأردت أن أرميه، ثم ذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تَذعرهم عليولو رميته لأصبته قال: فرجعت كأنما أمشي في حَمام، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أصابني البرد حين فرغت وقررت فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألبسني من فضل عباءة كانت عليه يُصلي فيها، فلم أزل نائما حتى الصبح، فلما أن أصبحت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قم يا نومان) .

وقوله: (إذ جاءوكم من فوقكم) من أعلى الوادي من جهة المشرق (ومن أسفل منكم) من بطن الوادي من جهة المغرب، (وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر) أي: من شدة الخوف والفزع، (وتظنون بالله الظنونا) أي: ظنون مختلفة، ظن المنافقون أن محمدا وأصحابه يستأصلون، وأيقن المؤمنون أن ما وعد الله ورسوله حق، وأنه سيظهره على الدين كله ولو كره المشركون .

هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا (11) وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا (12) وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا (13)

يقول تعالى مخبرا عن ذلك الحال، حين نـزلت الأحزاب حول المدينة، والمسلمون محصورون في غاية الجهد والضيق، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم: أنهم ابتلوا واختبروا وزلزلوا زلزالا شديدا، فحينئذ ظهر النفاق، وتكلم الذين في قلوبهم مرض بما في نفوسهم .

(وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ) أي والذين في قلوبهم شك ، وهو ضعفاء الإيمان (ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا) أي ما وعدنا الله ورسوله من النصر والتمكين إلا باطلا من القول .

وقوم آخرون قالوا كما قال الله: (وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب) يعني: المدينة، كما جاء في صحيح البخاري (أُريت في المنام دار هجرتكم، أرض بين حرتين فذهب وهلي أنها هجْر، فإذا هي يثرب) وفي لفظ (المدينة) .

وقوله: (لا مقام لكم) أي: هاهنا، يعنون عند النبي صلى الله عليه وسلم في مقام المرابطة، (فارجعوا) أي: إلى بيوتكم ومنازلكم (ويستأذن فريق منهم النبي) ذكر ابن إسحاق: أن القائل لذلك هو أوس بن قيظي، يعني: اعتذَروا في الرجوع إلى منازلهم بأنها عورة، أي: ليس دونها ما يحجبها عن العدو، فهم يخشون عليها منهم قال الله تعالى: (وما هي بعورة) أي: ليست كما يزعمون، (إن يريدون إلا فرارا) أي: هربا من الزحف .

ولو دُخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا (14) ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسئولا (15) قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا (16) قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا (17)

يخبر تعالى عن هؤلاء الذين يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا: أنهم لو دَخل عليهم الأعداء من كل جانب من جوانب المدينة، وقطر من أقطارها، ثم سئلوا الفتنة، وهي الدخول في الكفر، لكفروا سريعا، وهم لا يحافظون على الإيمان، ولا يستمسكون به مع أدنى خوف وفزع، وهذا ذم لهم في غاية الذم .

ثم قال تعالى يذكرهم بما كانوا عاهدوا الله من قبل هذا الخوف، ألا يولوا الأدبار ولا يفروا من الزحف، (وكان عهد الله مسئولا) أي: وإن الله تعالى سيسألهم عن ذلك العهد، لا بد من ذلك .

ثم أخبرهم أن فرارهم ذلك لا يؤخر آجالهم، ولا يطول أعمارهم، بل ربما كان ذلك سببا في تعجيل أخذهم غرة؛ ولهذا قال: (وإذا لا تمتعون إلا قليلا) أي: بعد هربكم وفراركم .

ثم قال: (قل من ذا الذي يعصمكم من الله) أي: يمنعكم، (إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا) أي: ليس لهم ولا لغيرهم من دون الله مجير ولا مغيث .

قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا (18) أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا (19)

يخبر تعالى عن إحاطة علمه بالمُعوقين لغيرهم عن شهود الحرب، والقائلين لإخوانهم، أي: أصحابهم وعشرائهم وخلطائهم (هلمَّ إلينا) أي: إلى ما نحن فيه من الإقامة في الظلال والثمار، وهم مع ذلك (لا يأتون البأس إلا قليلا * أشحة عليكم) أي: بخلاء بالمودة، والشفقة عليكم .

(فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت) أي: من شدة خوفه وجزعه، وهكذا خوف هؤلاء الجبناء من القتال (فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد) أي: فإذا كان الأمن، تكلموا كلاما بليغا فصيحا عاليا، وادعوا لأنفسهم المقامات العالية في الشجاعة والنجدة، وهم يكذبون في ذلك، وهم مع ذلك أشحة على الخير، أي: ليس فيهم خير، قد جمعوا الجبن والكذب وقلة الخير، ولهذا قال تعالى: (أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا) أي: سهلا هينا عنده .

يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا (20)

وهذا أيضا من صفاتهم القبيحة في الجبن والخوف والخور، (يحسبون الأحزاب لم يذهبوا) أي: يظنون أن هؤلاء الأحزاب الذين تحزبوا على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يذهبوا حتى يستأصلوهم فخاب ظنهم وبطل حسبانهم (وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم) أي: ويودون إذا جاءت الأحزاب أنهم لا يكونون حاضرين معكم في المدينة بل في البادية، يسألون عن أخباركم، وما كان من أمركم مع عدوكم، (ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا) أي: ولو كانوا بين أظهركم، لما قاتلوا معكم إلا قليلا؛ لكثرة جبنهم وذلتهم وضعف يقينهم .

لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا (21) ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما (22)

هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله؛ ولهذا أمر الناس بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه، عز وجل، صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين؛ ولهذا قال تعالى للذين تضجروا وتزلزلوا واضطربوا في أمرهم يوم الأحزاب: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) أي: هلا اقتديتم به وتأسيتم بشمائله؟ ولهذا قال: (لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا) .

ثم قال تعالى مخبرا عن عباده المؤمنين المصدقين بموعود الله لهم، وجعل العاقبة لهم في الدنيا والآخرة، فقال: (ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله) أي هذا ما وعدنا الله ورسوله من الابتلاء والاختبار والامتحان الذي يعقبه النصر القريب؛ ولهذا قال: (وصدق الله ورسوله) .

وقوله: (وما زادهم إلا إيمانا وتسليما): دليل على زيادة الإيمان وقوته بالنسبة إلى الناس وأحوالهم، والإيمان يزيد وينقص .

ومعنى قوله: (وما زادهم) أي: ذلك الحال والضيق والشدة (إلا إيمانا) بالله، (وتسليما) أي: انقيادا لأوامره، وطاعة لرسوله .

من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا (23) ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما (24)

لما ذكر أن المنافقين نقضوا العهد الذي كانوا عاهدوا الله عليه أن لا يولون الأدبار، ذكر وفاء المؤمنين به فقال (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) أي: وفوا به وأتموه وأكملوه فبذلوا مُهجهم في مرضاته وأوقفوا نفوسهم في طاعته (فمنهم من قضى نحبه) أي: إرادته ومطلوبه وما عليه من الحق، فقتل في سبيل الله أو مات مؤديا لحقه لم ينقصه شيئا (ومنهم من ينتظر) تكميل ما عليه فهو شارع في قضاء ما عليه وهو في رجاء تكميله ساع في ذلك مجد (وما بدلوا تبديلا) أي: وما غيروا عهد الله، ولا نقضوه ولا بدلوه .

روى البخاري عن زيد بن ثابت قال: لما نسخنا الصحف، فقدت آية من (سورة الأحزاب) كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري - الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين -: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) .

وروى البخاري أيضا عن أنس بن مالك قال: نرى هذه الآية نـزلت في أنس بن النضْر: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) .

روى مسلم عن أنس قال: عمي الذي سميت به لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا ، قال : فشق عليه ، قال : أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غيبت عنه ، وإن أراني الله مشهدا فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليراني الله ما أصنع ، قال : فهاب أن يقول غيرها ، قال : فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، قال : فاستقبل سعد بن معاذ ، فقال له أنس : يا أبا عمرو ، أين ؟ فقال : واها لريح الجنة أجده دون أحد ، قال : فقاتلهم حتى قتل ، قال : فوجد في جسده بضع وثمانون من بين ضربة وطعنة ورمية ، قال : فقالت أخته - عمتي الربيع بنت النضر - فما عرفت أخي إلا ببنانه ، ونزلت هذه الآية (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) قال : فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه .

وقوله: (ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم) أي: إنما يختبر عباده بالخوف والزلزال ليميز الخبيث من الطيب، فيظهر أمر هذا بالفعل، وأمر هذا بالفعل، مع أنه تعالى يعلم الشيء قبل كونه، ولكن لا يعذب الخلق بعلمه فيهم، حتى يعملوا بما يعلمه فيهم ، فهذا علم بالشيء بعد كونه، وإن كان العلم السابق حاصلا به قبل وجوده ولهذا قال (ليجزي الله الصادقين بصدقهم) أي: بصبرهم على ما عاهدوا الله عليه، وقيامهم به، ومحافظتهم عليه (ويعذب المنافقين): وهم الناقضون لعهد الله، المخالفون لأوامره، فاستحقوا بذلك عقابه وعذابه، ولكن هم تحت مشيئته في الدنيا، إن شاء استمر بهم على ما فعلوا حتى يلقوه به فيعذبهم عليه، وإن شاء تاب عليهم بأن أرشدهم إلى النـزوع عن النفاق إلى الإيمان، وعمل الصالح بعد الفسوق والعصيان ولما كانت رحمته ورأفته بخلقه هي الغالبة لغضبه قال: (إن الله كان غفورا رحيما) .

قوله:ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا (25)

يقول تعالى مخبرا عن الأحزاب لما أجلاهم عن المدينة، بما أرسل عليهم من الريح والجنود الإلهية، ولولا أن جعل الله رسوله رحمة للعالمين، لكانت هذه الريح عليهم أشد من الريح العقيم على عاد، فسلط عليهم هواء فرق شملهم، كما كان سبب اجتماعهم من الهوى، وهم أخلاط من قبائل شتى، أحزاب وآراء، فناسب أن يرسل عليهم الهواء الذي فرق جماعتهم، وردهم خائبين خاسرين بغيظهم وحنقهم، لم ينالوا خيرا لا في الدنيا، مما كان في أنفسهم من الظفر والمغنم، ولا في الآخرة بما تحملوه من الآثام في مبارزة الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، بالعداوة، وهمهم بقتله، واستئصال جيشه .

وقوله: (وكفى الله المؤمنين القتال) أي: لم يحتاجوا إلى منازلتهم ومبارزتهم حتى يجلوهم عن بلادهم، بل كفى الله وحده، ونصر عبده، وأعز جنده؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، فلا شيء بعده) رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة .

وفي الصحيحين عن عبد الله بن أبي أوفى قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب فقال (اللهم منـزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب اللهم، اهزمهم وزلزلهم) .

وفي قوله: (وكفى الله المؤمنين القتال): إشارة إلى وضع الحرب بينهم وبين قريش، وهكذا وقع بعدها لم يغزهم المشركون، بل غزاهم المسلمون في بلادهم .

روى البخاري عن سليمان بن صرد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب (الآن نغزوهم ولا يغزونا)

وقوله تعالى: (وكان الله قويا عزيزا) لا يغالبه أحد إلا غُلب، ولا يستنصره أحد ألا غَلب، ولا يعجزه أمر أراده، ولا ينفع أهل القوة والعزة قوتهم وعزتهم إن لم يعنهم الله بقوته وعزته، فبحوله وقوته، رد الأحزاب خائبين، لم ينالوا خيرا، وأعز الله الإسلام وأهله وصدق وعده، ونصر رسوله وعبده، فله الحمد والمنة .

وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا (26) وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديرا (27)

وقوله: (من صياصيهم) أي: أنزلهم من حصونهم نزولا مظفورا بهم، مجعولين تحت حكم الإسلام

(وقذف في قلوبهم الرعب) فلم يقووا على القتال، بل استسلموا وخضعوا وذلوا (فريقا تقتلون) وهم الرجال المقاتلون (وتأسرون فريقا) من عداه من النساء والصبيان .

وقوله: (وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم) أي: جعلها لكم من قتلكم لهم (وأرضا لم تطئوها) أي لم تطئوها بعد، إذ فتحت بعد غزوة الخندق .

(وكان الله على كل شيء قديرا) لا يعجزه شيء، ومن قدرته، قدَّر لكم ما قدر .

وكانت هذه الطائفة من أهل الكتاب، هم بنو قريظة من اليهود، في قرية خارج المدينة، غير بعيدة، وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم، حين هاجر إلى المدينة، وادعهم، وهادنهم، فلم يقاتلهم ولم يقاتلوه، وهم باقون على دينهم، لم يغير عليهم شيئًا .

فلما رأوا يوم الخندق، الأحزاب الذين تحزبوا على رسول اللّه وكثرتهم، وقلة المسلمين، وظنوا أنهم سيستأصلون الرسول والمؤمنين، وساعد على ذلك، تدجيل بعض رؤسائهم عليهم، فنقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ومالؤوا المشركين على قتاله .

فلما خذل اللّه المشركين، تفرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، لقتالهم، فحاصرهم في حصنهم، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي اللّه عنه، فحكم فيهم، أن تُقتل مقاتِلتهم، وتسبى ذراريهم، وتغنم أموالهم .

فأتم اللّه لرسوله والمؤمنين، المنة، وأسبغ عليهم النعمة، وأَقَرَّ أعينهم، بخذلان من انخذل من أعدائهم، ولم يزل لطف اللّه بعباده المؤمنين مستمرا .

يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا (28) وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما (29)

هذا أمر من الله لرسوله، صلوات الله وسلامه عليه، بأن يخير نساءه بين أن يفارقهن، فيذهبن إلى غيره ممن يحصل لهن عنده الحياة الدنيا وزينتها، وبين الصبر على ما عنده من ضيق الحال، ولهن عند الله في ذلك الثواب الجزيل، فاخترن، رضي الله عنهن وأرضاهن، الله ورسوله والدار الآخرة، فجمع الله لهن بعد ذلك بين خير الدنيا وسعادة الآخرة .

روى البخاري عن عائشة، رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها حين أمره الله أن يخير أزواجه، فبدأ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (إني ذاكر لك أمرا، فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويكوقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه قالت: ثم قال: (وإن الله قال: يا أيها النبي قل لأزواجك) إلى تمام الآيتين، فقلت له: ففي أي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة .

روى مسلم عن جابر بن عبد الله قال (دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم قال فأذن لأبي بكر فدخل ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسا حوله نساؤه واجما ساكتا قال فقال لأقولن شيئا أضحك النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال هن حولي كما ترى يسألنني النفقة فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها فقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها كلاهما يقول تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده فقلن والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا أبدا ليس عنده ثم اعتزلهن شهرا أو تسعا وعشرين ثم نزلت عليه هذه الآية يا أيها النبي قل لأزواجك حتى بلغ للمحسنات منكن أجرا عظيما قال فبدأ بعائشة فقال يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمرا أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك قالت وما هو يا رسول الله فتلا عليها الآية قالت أفيك يا رسول الله أستشير أبوي بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت قال لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا ولكن بعثني معلما ميسرا) .

ويجوز تزويج غيره لهن لو طلقهن، ليحصل المقصود من السراح .

وكان تحته يومئذ تسع نسوة، خمس من قريش: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسودة، وأم سلمة، وكانت تحته صلى الله عليه وسلم صَفية بنت حيي النضْرية، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية، رضي الله عنهن وأرضاهن.

يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا (30) ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما (31)

قوله: يا نساء النبي من يأت منكن بخصلة قبيحة ظاهرة يضاعف لها العذاب مرتين، فلما كانت مكانتهن رفيعة ناسب أن يجعل الله الذنب الواقع منهن عقوبته مغلظة، صيانة لجنابهن وجناب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ذا الشرف والمنزلة العالية يستقبح منه القبيح أكثر مما يستقبح من غيره (وكان ذلك) العقاب (على الله يسيرا) أي: سهلا هينا .

ثم ذكر عدله وفضله في قوله: (ومن يقنت منكن) أي تطيع (لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين) أي: مثل ما نعطي غيرها مرتين (وأعتدنا لها رزقا كريما) أي: الجنة .

يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا (32) وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا (33) واذكرن ما يتلى في بيوتكن من ءايات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا (34)

هذه آداب أمر الله تعالى بها نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ونساء الأمة تبع لهن في ذلك، فقال مخاطبا لنساء النبي صلى الله عليه وسلم بأنهن إذا اتقين الله كما أمرهن، فإنه لا يشبههن أحد من النساء، ولا يلحقنهن في الفضيلة والمنـزلة، فلهذا أرشدهن إلى قطع وسائل المحرم فقال (فلا تخضعن بالقول) في مخاطبة الرجال فتلن في ذلك وتتكلمن بكلام رقيق (فيطمع الذي في قلبه مرض) أي: مرض شهوة الحرام، فإنه مستعد ينتظر أدنى محرك يحركه، لأن قلبه غير صحيح، غير أن القلب الصحيح ليس فيه شهوة لما حرم الله، فإن ذلك لا تكاد تميله ولا تحركه الأسباب لصحة قلبه وسلامته من المرض، بخلاف مريض القلب الذي لا يتحمل ما يتحمل الصحيح، ولا يصبر على ما يصبر عليه، فأدنى سبب يوجد ويدعوه إلى الحرام يجيب دعوته ولا يتعاصى عليه، فهذا دليل على أن الوسائل لها أحكام المقاصد، فإن الخضوع بالقول واللين فيه في الأصل مباح، ولكن لما كان وسيلة للمحرم منع منه، ولهذا ينبغي للمرأة في مخاطبة الرجال أن لا تلين لهم القول، ولما نهاهن عن الخضوع في القول فربما تُوهم أنهن مأمورات بإغلاظ القول، دُفع هذا بقول (وقلن قولا معروفا) أي: غير غليظ ولا جاف، كما أنه ليس بلين خاضع، فلا تخاطب الأجانب كما تخاطب زوجها .

وقوله: (وقرن في بيوتكن) أي: الزمن بيوتكن، لأنه أسلم واحفظ لكُن، فلا تخرجن لغير حاجة .

وقوله تعالى: (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) لا تكثرن الخروج متطيبات، كعادة أهل الجاهلية الأولى، الذين لا علم عندهم ولا دين، فكل هذا دفع للشر وأسبابه .

وقوله: (وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله)، نهاهن أولا عن الشر ثم أمرهن بالخير، من إقامة الصلاة، وفي الصلاة الإخلاص للمعبود، وإيتاء الزكاة، وهي: الإحسان إلى العبيد، (وأطعن الله ورسوله)، وهذا من باب عطف العام على الخاص .

وقوله: (إنما يريد الله) بأمركن بما أمركن به ونهيكن عما نهاكن عنه (ليذهب عنكم الرجس) أي: الأذى والشر والخَبث يا (أهل البيت ويطهركم تطهيرا) حتى تكونوا طاهرين مطهرين، أي: فاحمدوا ربكم واشكروه على هذه الأوامر والنواهي التي أخبركم بمصلحتها وأنها محض مصلحتكم، لم يرد الله أن يجعل عليكم بذلك حرج ولا مشقة، بل لتزكوا نفوسكم وتطهر أخلاقكم وتحسن أعمالكم ويعظم بذلك أجركم .

ثم إن هذا نص في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت؛ لأنهن سبب نـزول هذه الآية .

روى مسلم في صحيحه عن عائشة، رضي الله عنها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة، وعليه مرط مُرحل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) .

وقوله: (إن الله كان لطيفا خبيرا) أي: بلطفه بكن بلغتن هذه المنـزلة، وبخبرته بكن وأنكن أهل لذلك، أعطاكن ذلك وخصكن بذلك .

(واذكرن ما يتلى في بيوتكن من ءايات الله والحكمة) المراد بآيات الله القرآن .

والحكمة هي أسراره وسنة رسوله، وأمْرهن بذكره يشمل ذكر لفظه بتلاوته، وذكر معناه بتدبره والتفكر فيه واستخراج أحكامه وحكمه، وذكر العمل به وتأويله (إن الله كان لطيفا خبيرا) أي: ذا لطف بكن، إذ جعلكن في البيوت التي تتلى فيها آياته والحكمة، خبيرا بكن إذ اختاركن لرسوله أزواجا .

إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما (35)

قوله:(إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات) دليل على أن الإيمان غير الإسلام، وهو أخص منه، ففي الصحيحين: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) فيسلبه الإيمان، ولا يلزم من ذلك كفره بإجماع المسلمين .

وقوله (والقانتين والقانتات) القنوت: هو الطاعة لله ولرسوله ، فالإسلام بعده مرتبة يرتقي إليها وهي الإيمان، ثم القنوت وهو ناشئ عنهما .

(والصادقين والصادقات): في أقوالهم وأفعالهم، فإن الصدق خصلة محمودة؛ ولهذا كان بعض الصحابة لم تُجرب عليه كذبة لا في الجاهلية ولا في الإسلام، وهو علامة على الإيمان، كما أن الكذب أمارة على النفاق، والصدق منجاة .

(والصابرين والصابرات) الصابرين عن الشهوات، وعلى الطاعات، وعلى المكاره، وعلى المصائب والشدائد والصابرات، والعلم بأن المقدور كائن لا محالة، وتلقي ذلك بالصبر والثبات، وإنما الصبر عند الصدمة الأولى، أي: أصعبه في أول وهلة، ثم ما بعده أسهل منه، وهو صدق السجية وثباتها .

(والخاشعين والخاشعات) الخشوع: السكون والطمأنينة، والتؤدة والوقار والتواضع والحامل عليه الخوف من الله ومراقبته، (والمتصدقين والمتصدقات) فرضا ونفلا، فالصدقة: هي الإحسان إلى الناس المحاويج الضعفاء، الذين لا كسب لهم ولا كاسب، يعطون من فضول الأموال طاعة لله، وإحسانا إلى خلقه، وقد ثبت في الصحيحين (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) فذكر منهم: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) .

(والصائمين والصائمات) شمل ذلك الفرض والنفل .

ولما كان الصوم من أكبر العون على كسر الشهوة - كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباء فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) متفق عليه ،ناسب أن يذكر بعده: (والحافظين فروجهم والحافظات) أي: عن المحارم والمآثم إلا عن المباح .

(والذاكرين الله كثيرا والذاكرات) بقلوبهم وألسنتهم ، روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة فمر على جبل يقال له جُمدان فقال: سيروا هذا جُمدان سبق المفردون، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات .

وقوله:(أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما) أي: هيَّأ لهم منه لذنوبهم مغفرةً وأجراً عظيماً وهو الجنة

وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا (36)

فهذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء، فليس لأحد مخالفته ولا اختيار لأحد، ولا رأي ولا قول، ولهذا شدد في خلاف ذلك، فقال: (ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا) فقد بعد عن طريق الصواب بُعْداً ظاهراً.

وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا (37)

يقول تعالى مخبرا عن نبيه، صلوات الله وسلامه عليه، أنه قال لمولاه زيد بن حارثة وهو الذي (أنعم الله عليه) أي: بالإسلام، ومتابعة الرسول، عليه أفضل الصلاة والسلام: (وأنعمت عليه) أي: بالعتق من الرق، وكان سيدا كبير الشأن جليل القدر، حبيبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يقال له: الحِب، ويقال لابنه أسامة: الحِب ابن الحِب .

وروى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك قال: إن هذه الآية: (وتخفي في نفسك ما الله مبديه) نـزلت في شأن زينب بنتِ جحش، وزيد بن حارثة، رضي الله عنهما .

وقوله: (فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها): الوطر: هو الحاجة والأرب، أي: لما فرغ منها، وفارقها، زوجناكها، وكان الذي ولي تزويجها منه هو الله، عز وجل، بمعنى: أنه أوحى إليه أن يدخل عليها بلا ولي ولا مهر ولا عقد ولا شهود من البشر .

روى البخاري عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، أن زينب بنت جحش كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فتقول: زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سموات .

وقوله: (لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا) أي: إنما أبحنا لك تزويجها وفعلنا ذلك؛ لئلا يبقى حرج على المؤمنين في تزويج مطلقات الأدعياء، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قبل النبوة قد تبنى زيد بن حارثة، فكان يقال له: (زيد بن محمد)، فلما قطع الله هذه النسبة بقوله تعالى: (وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل * ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله) ثم زاد ذلك بيانا وتأكيدا بوقوع تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش لما طلقها زيد بن حارثة.

وقوله: (وكان أمر الله مفعولا) أي: وكان هذا الأمر الذي وقع قد قدره الله تعالى وحتمه، وهو كائن لا محالة، كانت زينب في علم الله ستصير من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم .

ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا (38)

يقول تعالى: (ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له) أي: فيما أحل له وأمره به من تزويج زينب التي طلقها دعيه زيد بن حارثة .

وقوله: (سنة الله في الذين خلوا من قبل) أي: هذا حكم الله في الأنبياء قبله، لم يكن ليأمرهم بشيء وعليهم في ذلك حرج، وهذا رد على من توهم من المنافقين نقصا في تزويجه امرأة زيد مولاه ودعيه، الذي كان قد تبناه .

(وكان أمر الله قدرا مقدورا) أي: وكان أمره الذي يقدره كائنا لا محالة، وواقعا لا محيد عنه ولا معدل، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فأمره بعد الكاف والنون .

الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا (39) ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما (40)

يمدح تعالى: (الذين يبلغون رسالات الله) أي: إلى خلقه ويؤدونها بأمانتها (ويخشونه) أي: يخافونه ولا يخافون أحدا سواه فلا تمنعهم سطوة أحد عن إبلاغ رسالات الله، (وكفى بالله حسيبا) أي: وكفى بالله ناصرا ومعينا وسيد الناس في هذا المقام - بل وفي كل مقام - محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه قام بأداء الرسالة وإبلاغها إلى أهل المشارق والمغارب، إلى جميع أنواع بني آدم، وأظهر الله كلمته ودينه وشرعه على جميع الأديان والشرائع، فقد كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وأما هو، صلوات الله عليه، فإنه بعث إلى جميع الخلق عربهم وعجمهم، ثم ورث مقام البلاغ عنه أمته من بعده، فكان أعلى من قام بها بعده أصحابه، رضي الله عنهم، بلغوا عنه كما أمرهم به في جميع أقواله وأفعاله وأحواله، في ليله ونهاره، وحضره وسفره، وسره وعلانيته، فرضي الله عنهم وأرضاهم ثم ورثه كل خلف عن سلفهم إلى زماننا هذا، فبنورهم يقتدي المهتدون، وعلى منهجهم يسلك الموفقون فنسأل الله الكريم المنان أن يجعلنا من خلَفهم .

وقوله: (ما كان محمدُ أبا أحد من رجالكم)، نهى تعالى أن يقال بعد هذا: (زيد بن محمد) أي: لم يكن أباه وإن كان قد تبناه، فإنه صلوات الله وسلامه عليه، لم يعش له ولد ذكر حتى بلغ الحلم؛ فإنه ولد له القاسم، وعبد الله، من خديجة فماتا صغارا، وولد له إبراهيم من مارية القبطية، فمات أيضا رضيعا، وكان له من خديجة أربع بنات: زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة، رضي الله عنهم أجمعين، فمات في حياته ثلاث وتأخرت فاطمة حتى أصيبت به، صلوات الله وسلامه عليه، ثم ماتت بعده لستة أشهر .

وقوله: (ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما) فهذه الآية نص في أنه لا نبي بعده، وإذا كان لا نبي بعده فلا رسول بعده بطريق الأولى؛ لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة، فإن كل رسول نبي، لا العكس .

روى البخاري عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى دارا فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة، فجعل الناس يدخلنها ويتعجبون ويقولون: لولا موضع اللبنة) .

وروى الإمام مسلم عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون) .

يا أيها الذين ءامنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا (41) وسبحوه بكرة وأصيلا (42) هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما (43) تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما (44)

يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بكثرة ذكرهم لربهم تعالى، المنعم عليهم بأنواع النعم وأصناف المنن، لما لهم في ذلك من جزيل الثواب، وجميل المآب .

روى الترمذي عن أبي الدرداء، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورِق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟) قالوا: بلى، قال: (ذكر الله تعالى) قال معاذ بن جبل: ما شيء أنجى من عذاب الله من ذكر الله. صححه الألباني

روى الترمذي عن عبد الله بن بُسر قال (أن أعرابيا قال يا رسول الله من خير الناس قال من طال عمره وحسن عمله) صححه الألباني .

وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمروقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من قوم جلسوا مجلسا لم يذكروا الله فيه، إلا رأوه حسرة يوم القيامة) قال الهيثمي في الزوائد رجاله رجال الصحيح .

وفي هذه الآية الكريمة الحث على الإكثار من ذلك، وقد صنف الناس في الأذكار المتعلقة بآناء الليل والنهار كالنسائي وغيره، ومن أحسن الكتب المؤلفة في ذلك كتاب الأذكار للشيخ محيي الدين النووي، رحمه الله تعالى .

وقوله: (وسبحوه بكرة وأصيلا) أي: عند الصباح والمساء .

وقوله: (هو الذي يصلي عليكم وملائكته): هذا تهييج إلى الذكر، أي: إنه سبحانه يذكركم فاذكروه أنتم ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم) رواه البخاري ومسلم

والصلاة من الله ثناؤه على العبد عند الملائكة، حكاه البخاري عن أبي العالية .

وأما الصلاة من الملائكة، فبمعنى الدعاء للناس والاستغفار.

وقوله: (ليخرجكم من الظلمات إلى النور) أي: بسبب رحمته بكم وثنائه عليكم، ودعاء ملائكته لكم، يخرجكم من ظلمات الجهل والضلال إلى نور الهدى واليقين (وكان بالمؤمنين رحيما) أي: في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا: فإنه هداهم إلى الحق الذي جهله غيرهم، وبصرهم الطريق الذي ضل عنه وحاد عنه من سواهم من الدعاة إلى الكفر، وأما رحمته بهم في الآخرة، فأجل رحمة وأفضل ثواب وهو الفوز برضى ربهم، وتحيته واستماع كلامه الجليل، ورؤية وجهه الكريم، وحصول الأجر الكبير .

ففي صحيح الإمام البخاري، عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة من السبي قد أخذت صبيا لها، فألصقته إلى صدرها، وأرضعته فقال: (أترون هذه تلقي ولدها في النار وهي تقدر على ذلك؟) قالوا: لا قال: (فوالله، لله أرحم بعباده من هذه بولدها) .

وقوله: (تحيتهم يوم يلقونه سلام) أي: من الله تعالى يوم يلقونه (سلام) أي: يوم يسلم عليهم .

وقوله: (وأعد لهم أجرا كريما) يعني: الجنة وما فيها من المآكل والمشارب، والملابس والمساكن، والمناكح والملاذ والمناظر وما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر .

يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا (45) وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا (46) وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا (47) ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا (48)

روى البخاري عن عطاء بن يسار، قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة؟ قال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا. وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح بها أعينا عُميا، وآذانا صُما، وقلوبا غُلفا .

وقوله: (شاهدا) أي: لله بالوحدانية، وأنه لا إله غيره، وعلى الناس بأعمالهم يوم القيامة .

وقوله: (ومبشرا ونذيرا) أي: بشيرا للمؤمنين بجزيل الثواب، ونذيرا للكافرين من وبيل العقاب

وقوله: (وداعيا إلى الله بإذنه) أي: داعيا للخلق إلى عبادة ربهم عن أمره لك بذلك، (وسراجا منيرا) أي: وأمرك ظاهر فيما جئت به من الحق، كالشمس في إشراقها وإضاءتها، لا يجحدها إلا معاند .

وقوله: (ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم)، أي: لا تطعهم وتسمع منهم في الذي يقولونه (ودع أذاهم) أي: اصفح وتجاوز عنهم، وكِلْ أمرَهُمْ إلى الله، فإن فيه كفايةً لهم؛ ولهذا قال: (وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا) .

يا أيها الذين ءامنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا (49)

يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه إذا عقدتم على النساء ولم تدخلوا بهن ثم طلقتموهن فما لكم عليهن عن عدة تحصونها عليهن، فأعطوهن من أموالكم متعة يتمتعن بها، بحسب الوسع جبرا لخواطرهن وخلوا سبيلهن مع الستر الجميل دون أذى أو ضرر .

ففي صحيح البخاري، عن سهل بن سعد وأبي أُسيد؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج أُميمة بنت شراحيل، فلما أدخلت عليه بسط يده إليها، فكأنها كرهت ذلك، فأمر أبا أُسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين رازِقييْن .

فعلى هذا إذا طلقها قبل الدخول وقد سمى لها صداقا، فليس لها إلا النصف، وإن لم يكن سمى لها فتعطى على قدر عسره ويسره، وهو السراح الجميل، فينبغي لمن فارق زوجته أن يكون الفراق جميلا يَحمد فيه كل منهم الآخر، ولا يكون غير جميل فإن في ذلك من الشر المترتب عليه من قدح كل منهما بالآخر .

يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي ءاتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفورا رحيما (50)

يقول تعالى ممتنا على رسوله بإحلاله له ما أحل مما يشترك فيه هو والمؤمنون، وما ينفرد به ويختص (يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي ءاتيت أجورهن) أي: أعطيتهن مهورهن من الزوجات، وهذا من الأمور المشتركة بينه وبين المؤمنين، فإن المؤمنين كذلك، يباح لهم من آتوهن أجورهن من الأزواج .

روى مسلم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: سألت عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم كم كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان صداقه لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشا، قالت: أتدري ما النش؟ قلت: لا، قالت: نصف أوقية، خمسمائة درهم .

وقوله: (و) كذلك أحللنا لك (ما ملكت يمينك) أي: الإماء التي ملكت (مما أفاء الله عليك) غنيمة الكفار، حيث أباح لك التسري، مما أخذت من غنائم الكفار .

وقد ملك صَفية وجويرية فأعتقهما وتزوجهما وملك ريحانة بنت شمعون النضرية، ومارية القبطية أم ابنه إبراهيم، عليه السلام، وكانتا من السراري، وقد ماتت ريحانة قبله، ومارية بعده .

وكذلك من المشترك قوله (وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك): هذا عدل وسط بين الإفراط والتفريط؛ فإن النصارى لا يتزوجون المرأة إلا إذا كان الرجل بينه وبينها سبعة أجداد فصاعدا، واليهود يتزوج أحدهم بنت أخيه وبنت أخته، فجاءت هذه الشريعة الكاملة الطاهرة بهدم إفراط النصارى، فأباح بنت العم والعمة، وبنت الخال والخالة، وتحريم ما فرطت فيه اليهود من إباحة بنت الأخ والأخت، وهذا بشع فظيع .

وقال: (وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك) شمل العم والعمة والخال والخالة القربين والبعيدين، وهذا حصر المحللات .

يؤخذ من مفهومه أن ما عداهن من الأقارب غير محلل، فإنه لا يباح من الأقارب من النساء غير هؤلاء الأربع، وما عداهن من الفروع والأصول مطلقا، إلا فروع الأب والأم وإن نزلوا وفروع من فوقهم لصلبه فإنه لا يباح .

وقوله: (اللاتي هاجرن معك) من هاجرن معه إلى المدينة، فيحل له الزواج منهن

وقوله: (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها) أي: ويحل لك - أيها النبي - المرأة المؤمنة إذا وهبت نفسها لك أن تتزوجها بغير مهر إن شئت ذلك .

روى البخاري عن سهل بن سعد الساعدي قال (إني لفي القوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قامت امرأة فقالت يا رسول الله إنها قد وهبت نفسها لك فر فيها رأيك فلم يجبها شيئا ثم قامت فقالت يا رسول الله إنها قد وهبت نفسها لك فر فيها رأيك فلم يجبها شيئا ثم قامت الثالثة فقالت إنها قد وهبت نفسها لك فر فيها رأيك فقام رجل فقال يا رسول الله أنكحنيها قال هل عندك من شيء قال لا قال اذهب فاطلب ولو خاتما من حديد فذهب فطلب ثم جاء فقال ما وجدت شيئا ولا خاتما من حديد فقال هل معك من القرآن شيء قال معي سورة كذا وسورة كذا قال اذهب فقد أنكحتكها بما معك من القرآن) .

روى البخاري عن ثابت البناني قال (كنت عند أنس وعنده ابنة له قال أنس جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرض عليه نفسها قالت يا رسول الله ألك بي حاجة فقالت بنت أنس ما أقل حياءها وا سوأتاه وا سوأتاه قال هي خير منك رغبت في النبي صلى الله عليه وسلم فعرضت عليه نفسها) .

وقوله:(خالصة لك من دون المؤمنين) أي: لا تحل الموهوبة لغيرك بدون مهر ولا ولي ولا شهود

وقوله تعالى: (قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم) أي: قد علمنا ما على المؤمنين وما يحل لهم وما لا يحل من الزوجات وملك اليمين، وقد أعلمناهم بذلك وبينا فرائضه (لكيلا يكون عليك حرج) وهذا من زيادة اعتناء الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم (وكان الله غفورا رحيما) أي: لم يزل متصفا بالمغفرة والرحمة، وينزل على عباده من مغفرته ورحمته وجوده وإحسانه ما اقتضته حكمته .

ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما (51)

(ترجي من تشاء منهن) أي: تؤخر من أردت من زوجاتك فلا تبيت عندها (وتؤوي إليك من تشاء) أي: تبيت عندها ،(ومن ابتغيت) أي: أن تؤويها (ممن عزلت فلا جناح عليك) والمعنى: أن الخيرة بيدك في ذلك كله، وهذا من توسعة الله على رسوله ورحمته به أن أباح له، ترك القسم بين زوجاته على وجه الوجوب، وأنه إن فعل ذلك فهو تبرع منه، ومع ذلك فقد كان صلى الله عليه وسلم يجتهد في القسم بينهن في كل شيء، ويقول اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما لا أملك .

روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها، قالت (كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول: أتهب المرأة نفسها؟! فلما أنزل الله تعالى "ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك" قلـت: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك) .

وروى البخاري عن عائشة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستأذن في يوم المرأة منا بعد أن نـزلت هذه الآية: (ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك)، فقلت لها: ما كنت تقولين؟ فقالت: كنت أقول: إن كان ذاك إلي فإني لا أريد يا رسول الله أن أؤثر عليك أحدا.

فهذا الحديث عنها يدل على أن المراد من ذلك عدم وجوب القِسم، فهو مخير فيهن إن شاء قسم وإن شاء لم يقسم، ولهذا قال تعالى: (ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن) أي: إذا علمن أن الله قد وضع عنك الحرج في القسم، فإن شئت قسمت، وإن شئت لم تقسم، لا جناح عليك في أي ذلك فعلت، ثم مع هذا أنت تقسم لهن اختيارا منك لا أنه على سبيل الوجوب، ففرحن بذلك واستبشرن به وحملن جميلك في ذلك، واعترفن بمنتك عليهن في قسمك لهن وتسويتك بينهن وإنصافك لهن وعدلك فيهن .

وقوله: (والله يعلم ما في قلوبكم) أي: من الميل إلى بعضهن دون بعض، مما لا يمكن دفعه

(وكان الله عليما) أي: بضمائر السرائر، (حليما) أي: يحلم ويغفر .

لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا (52)

(لا يحل لك النساءُ من بعد) زوجاتك الموجودات (ولا أن تَبدلَ بهن من أزواج) ولا أن تطلق بعضهن وتتزوج بدلهن، إكراما لهن، وشكرا على حسن صنيعهن من اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة .

فحصل بهذا أمنهن من الضرائر، ومن الطلاق، لأن الله قضى أنهن زوجاته في الدنيا والآخرة، فلا يكون بينه وبينهن فرقة (ولو أعجبك حسنهن) أي: حسن غيرهن، فلا يحللن لك (إلا ما ملكت يمينك) أي: السراري، فذلك جائز لك، لأن المملوكات في كراهة الزوجات لسن بمنزلة الزوجات في الإضرار بالزوجات (وكان الله على كل شيء رقيبا) أي: مراقبا للأمور، وعالما بما إليه تؤول، وقائما بتدبيرها على أكمل نظام وأحسن أحكام .

يا أيها الذين ءامنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما (53) إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما (54)

هذه آية الحجاب، وفيها أحكام وآداب شرعية، وهي مما وافق تنـزيلها قول عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، كما ثبت ذلك في الصحيحين عنه أنه قال: وافقت ربي في ثلاث، فقلت: يا رسول الله، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى؟ فأنـزل الله: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) البقرة: 125، وقلت: يا رسول الله، إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو حجبتهن؟ فأنـزل الله آية الحجاب وقلت لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم لما تمالأن عليه في الغيرة: (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن) التحريم: 5 ، فنـزلت كذلك .

وكان وقت نـزولها في صبيحة عُرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش، التي تولى الله تعالى تزويجها بنفسه، فعن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش، دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون، فإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا فلما رأى ذلك قام، فلما قام قام من قام، وقعد ثلاثة نفر فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل، فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا فانطلقت، فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل، فذهبت أدخل، فألقي الحجاب بيني وبينه، فأنـزل الله: (يا أيها الذين ءامنوا لا تدخلوا بيوت النبي) الآية. رواه البخاري ومسلم .

فقوله: (لا تدخلوا بيوت النبي): حظر على المؤمنين أن يدخلوا منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذن، كما كانوا قبل ذلك يصنعون في بيوتهم في الجاهلية وابتداء الإسلام، حتى غار الله لهذه الأمة، فأمرهم بذلك، وذلك من إكرامه تعالى هذه الأمة؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والدخول على النساء) رواه البخاري ومسلم .

ثم استثنى من ذلك فقال: (إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه) أي: منتظرين استواءه، والمعنى: لا تدخلوا بيوت النبي إلا بشرطين: الإذن لكم بالدخول، وأن يكون جلوسكم بمقدار الحاجة ولهذا قال (ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا) وفي صحيح مسلم عن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دعا أحدكم أخاه فليجب، عرسا كان أو غيره) .

وفي صحيح البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو دعيت إلى ذراع لأجبت، ولو أهدي إلي كراع لقبلت، فإذا فرغتم من الذي دعيتم إليه فخففوا عن أهل المنـزل، وانتشروا في الأرض) ولهذا قال: (ولا مستأنسين لحديث) بينكم كما قال تعالى: (إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم) من إخراجكم من البيوت، مع أن ذلك حق له، ولهذا قال: (والله لا يستحيي من الحق) من بيان الحق وإظهاره .

ثم قال تعالى: (وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب) أي: وكما نهيتكم عن الدخول عليهن، كذلك لا تنظروا إليهن بالكلية، ولو كان لأحدكم حاجة يريد تناولها منهن فلا ينظر إليهن، ولا يسألهن حاجة إلا من وراء حجاب (ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن) أي: هذا الذي أمرتكم به وشرعته لكم من الحجاب أطهر وأطيب .

وقوله: (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما) أجمع العلماء قاطبة على أن من توفي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه أنه يحرم على غيره تزوجها من بعده؛ لأنهن أزواجه في الدنيا والآخرة وأمهات المؤمنين .

وقد عظم الله تبارك وتعالى ذلك، وشدد فيه وتوعد عليه بقوله: (إن ذلكم كان عند الله عظيما)، ثم قال: (إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما) أي: مهما تكنه ضمائركم وتنطوي عليه سرائركم، فإن الله يعلمه؛ فإنه لا تخفى عليه خافية .

لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن ولا ما ملكت أيمانهن واتقين الله إن الله كان على كل شيء شهيدا (55)

لما أمر تعالى النساء بالحجاب من الأجانب، بين أن هؤلاءالأقارب لا يجب الاحتجاب منهم،

وقوله: (ولا نسائهن): يعني بذلك: عدم الاحتجاب من النساء المؤمنات

وقوله: (ولا ما ملكت أيمانهن) يعني به: أرقائهن من الذكور والإناث

وقوله: (واتقين الله إن الله كان على كل شيء شهيدا) أي: واخشينه في الخلوة والعلانية، فإنه شهيد على كل شيء، لا تخفى عليه خافية، فراقبن الرقيب .

إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليما (56)

قال البخاري: قال أبو العالية: صلاة الله: ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة: الدعاء

والمقصود من هذه الآية: أن الله سبحانه أخبر عباده بمنـزلة عبده ونبيه عنده في الملأ الأعلى، بأنه يثني عليه عند الملائكة المقربين، وأن الملائكة تصلي عليه ثم أمر تعالى أهل العالم السفلي بالصلاة والتسليم عليه، ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوي والسفلي جميعا .

وقد أخبر أنه سبحانه وتعالى، يصلي على عباده المؤمنين في قوله تعالى: (يا أيها الذين ءامنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا * وسبحوه بكرة وأصيلا * هو الذي يصلي عليكم وملائكتُه)الأحزاب41- 43 .

وقد جاءت الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر بالصلاة عليه، وكيفية الصلاة عليه .

روى البخاري عن كعب بن عُجرة قال: قيل: يا رسول الله، أما السلام عليك فقد عرفناه، فكيف الصلاة؟ قال: قولوا: اللهم، صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد) .

ومعنى قولهم: (أما السلام عليك فقد عرفناه) هو الذي في التشهد الذي كان يعلمهم إياه، كما كان يعلمهم السورة من القرآن، وفيه: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته) .

روى مسلم عن عمرو بن سليم، أخبرني أبو حميد الساعدي، أنهم قالوا ( يا رسول الله ، كيف نصلي عليك ؟ قال : قولوا اللهم صل على محمد ، وعلى أزواجه وذريته ، كما صليت على آل إبراهيم ، وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته ، كما باركت على آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد) .

وروى مسلم عن أبي مسعود الأنصاري - قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن في مجلس سعد بن عبادة، فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله، فكيف نصلي عليك؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قولوا: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، والسلام كما قد علمتم) .

وروى مسلم عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى علي واحدة، صلى الله عليه بها عشرا)

وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سمعتم مؤذنا فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي؛ فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منـزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة) .

ومن آكد ذلك: دعاء القنوت: لما رواه الإمام أحمد عن الحسن بن علي، رضي الله عنهما، قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر: (اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت) قال أحمد شاكر إسناده صحيح .

ومن ذلك: أنه يستحب الإكثار من الصلاة عليه يوم الجمعة وليلة الجمعة: روى الإمام أحمد عن أوس بن أوس الثقفي، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي) قالوا: يا رسول الله، وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت؟ - يعني: وقد بليت - قال (إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) صححه الألباني

ومن ذلك: أنه يستحب الصلاة والسلام عليه عند زيارة قبره، صلوات الله وسلامه عليه: روى أبو داود عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي، حتى أرد عليه السلام) تفرد به أبو داود، وصححه النووي في الأذكار .

قال النووي: إذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم فليجمع بين الصلاة والتسليم، فلا يقتصر على أحدهما فلا يقول: (صلى الله عليه) فقط، ولا (عليه السلام) فقط، وهذا الذي قاله منتزع من هذه الآية الكريمة، وهي قوله: (يا أيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليما)، فالأولى أن يقال: صلى الله عليه وسلم تسليما .

إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا (57) والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقـد احتملوا بهتانا وإثـما مبينا (58)

يقول تعالى: متهددا ومتوعدا من آذاه، بمخالفة أوامره وارتكاب زواجره وإصراره على ذلك، وآذى رسوله بعيب أو تنقص، عياذا بالله من ذلك .

وفي الصحيحين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله، عز وجل: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار) .

ومعنى هذا: أن الجاهلية كانوا يقولون: يا خيبة الدهر، فعل بنا كذا وكذا فيسندون أفعال الله تعالى إلى الدهر، ويسبونه، وإنما الفاعل لذلك هو الله، عز وجل، فنهى عن ذلك .

وقوله: (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا) أي: ينسبون إليهم ما هم أبرياء منه لم يعملوه ولم يفعلوه، (فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا) وهذا هو البهت البين أن يحكى أو ينقل عن المؤمنين والمؤمنات ما لم يفعلوه، على سبيل العيب والتنقص لهم، ومن أكثر من يدخل في هذا الوعيد الكفرة بالله ورسوله، ثم الرافضة الذين يتنقصون الصحابة ويعيبونهم بما قد برأهم الله منه، ويصفونهم بنقيض ما أخبر الله عنهم؛ فإن الله، عز وجل، قد أخبر أنه قد رضي عن المهاجرين والأنصار ومدحهم، وهؤلاء الجهلة الأغبياء يسبونهم ويتنقصونهم، ويذكرون عنهم ما لم يكن ولا فعلوه أبدا، فهم في الحقيقة منكوسوا القلوب يذمون الممدوحين، ويمدحون المذمومين .

روى أبو داود عن أبي هريرة، أنه قيل: يا رسول الله، ما الغيبة؟ قال: (ذكرك أخاك بما يكره) قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: (إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته) صححه الألباني .

يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما (59) لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا (60) ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا (61) سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا (62)

يقول تعالى آمرا رسوله، صلى الله عليه وسلم تسليما، أن يأمر النساء المؤمنات - خاصة أزواجه وبناته لشرفهن - بأن يدنين عليهن من جلابيبهن، ليتميزن عن سمات نساء الجاهلية وسمات الإماء

والجلباب يكون فوق الثياب من ملحفة وخمار ورداء ونحوه، أي: يغطين به وجوههن وصدورهن

روى ابن أبي حاتم عن أم سلمة قالت: لما نـزلت هذه الآية: (يدنين عليهن من جلابيبهنخرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة، وعليهن أكسية سود يلبسنها. رواه البخاري

ثم ذكر حكمة ذلك فقال (ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) دل على وجود أذية إن لم يحتجبن، وذلك لأنهن إذا لم يحتجبن ربما ظُن أنهن غير عفيفات، فيتعرض لهن من فيه قلبه مرض فيؤذيهن، وربما استهين بهن، وظُن أنهن إماء، فتهاون بهن من يرد الشر، فالاحتجاب حاسم لمطامع الطامعين فيهن .

وقوله: (وكان الله غفورا رحيما) حيث غفر لكم ما سلف ورحمكم بأن بين لكم الأحكام وأوضح الحلال والحرام، فهذا سد للباب من جهتهن، وأما من جهة أهل الشر، فقد توعدهم بقوله (لئن لم ينتهي المنافقون) وهم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر: (والذين في قلوبهم مرض) شك وريبة (والمرجفون في المدينة) الذين ينشرون الأخبار الكاذبة في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم لإرجاف المسلمين وتوهين قواهم .

لئن لم يكفوا عن ذلك ويرجعوا إلى الحق (لنغرينك بهم) أي: نأمرك بعقوبتهم، وقتالهم ونسلطك عليهم، فإذا فعلنا ذلك، فلا طاقة لهم بك، وليس لهم قوة ولا امتناع، ولهذا قال (ثم لا يجاورونك فيها) أي: في المدينة (إلا قليلا) بأن تقتلهم أو تنفيهم، وهذا فيه دليل لنفي أهل الشر، الذين يتُضرر بإقامتهم بين أظهر المسلمين، فإن ذلك أحسم للشر وأبعد منه، ويكونون (ملعونين) أي: مطرودين مبعدين، (أينما ثقفوا) أي: وجدوا فلم يحصل لهم أمن ولا يقر لهم قرار، (أُخِذُوا) لذلتهم وقلتهم، (وقُتِّلوا تقتيلا) ما داموا مقيمين على النفاق .

ثم قال: (سنة الله في الذين خلوا من قبل) سنة الله وطريقته في منافقي الأمم السابقة، أن يؤسروا ويقتلوا أينما كانوا (ولن تجد لسنة الله تبديلا) أي: وسنة الله في ذلك لا تبدل ولا تغير، بل جارية مع الأسباب المقتضية لمسبباتها .

يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا (63) إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا (64) خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا (65) يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا (66) وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا (67) ربنا ءاتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا (68)

أي يستخبرك الناس عن الساعة استعجالا لها، وبعضهم تكذيبا لوقوعها وتعجيزا للذي أخبر به، فأرشده أن يرد علمها إلى الله، عز وجل، وأخبره أنها قريبة بقوله: (وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا) .

ثم قال: (إن الله لعن الكافرين) أي: أبعدهم عن رحمته (وأعد لهم سعيرا) أي: في الدار الآخرة

(خالدين فيها أبدا) أي: ماكثين مستمرين، فلا خروج لهم منها ولا زوال لهم عنها، (لا يجدون وليا ولا نصيرا) أي: وليس لهم مغيث ولا معين ينقذهم مما هم فيه .

ثم قال: (يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا) أي: يسحبون في النار على وجوههم، وتلوى وجوههم على جهنم، يقولون وهم كذلك، يتمنون أن لو كانوا في الدار الدنيا ممن أطاع الله وأطاع الرسول .

(وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا) أي: اتبعنا السادة والكبراء، وخالفنا الرسل واعتقدنا أن عندهم شيئا، وأنهم على شيء فإذا هم ليسوا على شيء .

(ربنا ءاتهم ضعفين من العذاب) ربنا عذبهم من العذاب مثلي عذابنا الذي تعذبنا به (والعنهم لعنا كبيرا) واطردهم من رحمتك طردا شديدا .

يا أيها الذين ءامنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها (69)

يحذر تعالى عباده المؤمنين عن أذية رسولهم محمد صلى الله عليه وسلم النبي الكريم الرءوف الرحيم، لئلا يقابلوه بضد ما يجب له من الإكرام والاحترام، وألا يتشبهوا بحال الذين آذوا موسى بن عمران كليم الرحمن، فبرأه الله مما قالوا من الأذية، وأظهر الله لهم براءته، والحال أنه عليه الصلاة والسلام ليس محل التهمة والأذية فإنه كان عند الله عظيم القدر والجاه، ومن وجاهته العظيمة عند الله أنه شفع في أخيه هارون أن يرسله الله معه، فأجاب الله سؤاله، وقال (ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا) (مريم: 53) ، ومن أولي العزم من الرسل، ومن عباد الله المخلصين، فلم يزجرهم ما له من الفضائل عن أذيته والتعرض له بما يكره، فاحذروا أيها المؤمنون أن تتشبهوا بهم في ذلك .

روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن موسى، عليه السلام، كان رجلا حييا ستيرا، لا يرى من جلده شيء استحياء منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما يتستر هذا التستر إلا من عيب بجلده، إما برص وإما أدرة وإما آفة، وإن الله، عز وجل، أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى عليه السلام، فخلا يوما وحده، فخلع ثيابه على حجر، ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها، وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل، فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله، عز وجل، وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر، فأخذ ثوبه فلبسه، وطفق بالحجر ضربا بعصاه، فوالله إن بالحجر لندبا من أثر ضربه ثلاثا أو أربعا أو خمسا - قال: فذلك قوله تعالى: (يا أيها الذين ءامنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها) .

يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا (70) يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما (71)

يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بتقواه، وأن يعبدوه عبادة من كأنه يراه، وأن يقولوا (قولا سديدا) أي: مستقيما لا اعوجاج فيه ولا انحراف ووعدهم أنهم إذا فعلوا ذلك، أثابهم عليه بأن يصلح لهم أعمالهم، أي: يوفقهم للأعمال الصالحة، وأن يغفر لهم الذنوب الماضية وما قد يقع منهم في المستقبل ويلهمهم التوبة منها .

ثم قال: (ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما): وذلك أنه يجار من النار، ويصير إلى النعيم المقيم .

إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا (72) ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما (73)

يعظم تعالى شأن الأمانة، التي ائتمن الله عليها المكلفين، التي هي امتثال الأوامر، واجتناب المحارم، في حال السر والخفية، كحال العلانية، وأنه تعالى عرضها على المخلوقات العظيمة، السماوات والأرض والجبال، عرض تخيير لا تحتيم، وأنك إن قمت بها وأديتها على وجهها، فلك الثواب، وإن لم تقم بها وتؤديها فعليك العقاب .

( فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ) أي: خوفا أن لا يقمن بما حملن، لا عصيانا لربهن، ولا زهدا في ثوابه، وعرضها الله على الإنسان، فقبلها، وحملها مع ظلمه وجهله، وحمل هذا الحمل الثقيل فانقسم الناس بحسب قيامهم بها وعدمه إلى ثلاثة أقسام: منافقون، أظهروا أنهم قاموا بها ظاهرا لا باطنا، ومشركون، تركوها ظاهرا وباطنا، ومؤمنون، قائمون بها ظاهرا وباطنا .

فذكر الله تعالى أعمال هؤلاء الأقسام الثلاثة، وما لهم من الثواب والعقاب فقال:ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا للتائبين من عباده رحيما بهم .

فله الحمد تعالى، حيث ختم هذه الآية بهذين الاسمين الكريمين، الدالين على تمام مغفرة الله، وسعة رحمته، وعموم جوده .

تم تفسير سورة الأحزاب، ولله الحمد والمنة

29 - 4 - 1439هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

5 + 6 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 118 الجزء الثالث ‌‌هل الرسول أوصى بالخلافة لعلي رضي الله عنه ؟ - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 116 الجزء الثالث حكم التوسل بالموتى وزيارة القبور - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 115 الجزء الثالث ‌‌حكم ما يسمى بعلم تحضير الأرواح  . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 114 الجزء الثالث ‌‌إيضاح الحق في دخول الجني في الإنسي والرد على من أنكر ذلك  . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 113 الجزء الثالث : تابع الدروس المهمة لعامة الأمة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر