الدرس السابع عشر : إعادة الخلق

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الإثنين 27 شوال 1434هـ | عدد الزيارات: 2237 القسم: تهذيب فتاوى اللجنة الدائمة -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

وبعد

يعيد الله سبحانه خلق الناس يوم القيامة من عجب الذنب فينبتون منه سوياً كما ينبت الزرع من الحب ، والنخل من النوى ، ثم يخرجون من قبورهم حفاة عراة غرلاً ، سراعاً كأنهم جراد منتشر أو فراش مبثوث لا يضلون طريق الموقف ، بل هم أهدى إليه من القطا ، كأنهم إلى نصب يوفضون ، وأول من تنشق عنه الأرض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو أول من يفيق من الصعق ، أما أول من يكسى بعد البعث فخليل الرحمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، ويشتد الهول بجميع الناس حتى يقول كل نبي يومئذ : " نفسي نفسي " ، ومن قرأ آيات البعث من سورة القمر والمعارج والقارعة وأمثالها يتبين له الكثير مما تقدم ، وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنكم محشورون حفاةً عراةً غرلاً ثم قرأ " كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ " الأنبياء 104 ، وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم ، وإن أناساً من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال فأقول أصحابي أصحابي ، فيقول إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ، فأقول كما قال العبد الصالح " وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ " ، إلى قوله " الْحَكِيم " المائدة 117 ، 118 .

تحديد مدة ما بين النفختين من الأمور الغيبية التي لا تدرك بالعقل والاجتهاد ، بل بالسمع عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يثبت في تحديدها عنه حديث صحيح ، وإنما ثبت فيها ما رواه البخاري وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما بين النفختين أربعون ، قالوا : يا أبا هريرة ، أربعون يوماً ؟ قال : أبيت ، قالوا : أربعون شهراً ؟ قال : أبيت ، قالوا : أربعون سنة ؟ قال أبيت " ، فلم يزد على أن قال أربعون ، ولم يبين هل هي سنون أو شهور أو أيام ، ويبلى كل شيء من الإنسان إلا عجب الذنب منه يركب الخلق وأما من لا يموتون بين النفختين فالله أعلم بهم سبحانه .

إذا عبر المؤمنون عامة على الصراط أُوقف منهم من كان عليه مظالم للمؤمنين بمكان بين الجنة والنار ومنعوا من دخول الجنة حتى يُقضى للمظلوم ممن ظلمه فيؤخذ من حسنات الظالم ويعطى المظلوم ، حتى إذا نقوا وطهروا أذن لهم بدخول الجنة .

أما من لا مظلمة عليه لأحد فإن ظاهر هذا الحديث وغيره من الأحاديث الدالة على أن بعض المؤمنين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب فإنه لا يوقف ، وهذا نص الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار فيتقاضون مظالم كانت بينهم في الدنيا ، وإذا نقوا وهذبوا أذن لهم بدخول الجنة " رواه البخاري

وأما قوله تعالى " وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا " مريم 71 ، فخبر منه تعالى عن الناس مسلمهم وكافرهم بأنه لا أحد منهم إلا سيرد جهنم ، وذلك مرور كل منهم على الصراط المضروب على متن جهنم كالقنطرة مروراً متفاوتا في السرعة والبطء والنجاة من النار والسقوط فيها ، فينجي الله المؤمنين من النار ، ويدع فيها الكافرين ، كما قال تعالى عقب هذه الآية " ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا " مريم 72 ، وقد أوجب سبحانه على نفسه هذا الجزاء وقضى به عليها قضاءً مبرماً ، لا راد لقضائه تعالى ولا تبديل لحكمه .

الأصم الأخرس يحاسب لأنه مكلف بقدر ما أوتي من قوة الإدراك بالحواس الأخرى ، وما أوتي من قوة الإدراك العقلي ، ولا غرابة في ذلك فقد أنشئ في العصر الحاضر مدارس لتعليم الصم والبكم للنهوض بهم في التعليم .

ليس بمجرد العمل ينال الإنسان السعادة ، بل العمل سبب ، يدل على ذلك قوله تعالى " ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ " النحل 32 ، فهذه باء السبب ، وأما ما نفاه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " لن يدخل أحد الجنة بعمله " رواه البخاري ومسلم ، فهي باء المقابلة كما يقال : اشتريت هذه بهذا ، أي ليس العمل عوضاً وثمناً كافياً في دخول الجنة ، بل لابد مع ذلك من عفو الله وفضله ورحمته ، فبعفوه يمحو السيئات ، وبرحمته يأتي بالخيرات ، وبفضله يضاعف الحسنات .

شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعة الصالحين يوم القيامة ثابتة في القرآن ، وقد وردت فيها أحاديث صحيحة تفسر ما جاء في القرآن ، وهي أنواع ، قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله في كتاب فتح المجيد ، وذكر أيضاً رحمه الله - يعني ابن القيم - أن الشفاعة ستة أنواع :

الأول : الشفاعة الكبرى التي يتأخر عنها أولوا العزم عليهم الصلاة والسلام حتى تنتهي إليه صلى الله عليه وسلم فيقول : أنا لها ، وذلك حين يرغب الخلائق إلى الأنبياء ليتشفعوا لهم إلى ربهم حتى يريحهم من مقامهم في الموقف ، وهذه شفاعة يختص بها لا يشركه فيها أحد .

الثاني : شفاعته لأهل الجنة في دخولها ، وقد ذكرها أبوهريرة في حديثه الطويل المتفق عليه .

الثالث : شفاعته لقوم من العصاة من أمته قد استوجبوا النار بذنوبهم فيشفع لهم ألا يدخلوها .

الرابع : شفاعته في العصاة من أهل التوحيد الذين يدخلون النار بذنوبهم ، والأحاديث بها متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد أجمع عليها الصحابة وأهل السنة قاطبة وبدَّعوا من أنكرها ، وصاحوا به من كل جانب ، ونادوا عليه بالضلال .

الخامس : شفاعته لقوم من أهل الجنة في زيادة ثوابهم ورفعة درجاتهم ، وهذه مما لم ينازع فيها أحد وكلها مختصة بأهل الإخلاص الذين لم يتخذوا من دون الله ولياً ولا شفيعاً ، قال تعالى " وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ " الأنعام 51 .

السادس : شفاعته في بعض أهله الكفار من أهل النار حتى يخفف عذابه ، وهذه خاصة بأبي طالب وحده .

المسلمون لا يحكمون على غيرهم بأنهم في النار إلا بشرط وهو أن يكونوا قد بلغهم القرآن أو بيان معناه من دعاة الإسلام بلغة المدعوين لقول الله عز وجل " وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ " الأنعام 19 ، وقوله سبحانه " وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا " الإسراء 15 ، فمن بلغتهم الدعوة الإسلامية من غير المسلمين وأصرَّ على كفره فهو من أهل النار لما تقدم من الآيتين ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار " أخرجه مسلم في صحيحه ، أما الذين لم تبلغهم الدعوة على وجه تقوم به الحجة عليهم فأمرهم إلى الله عز وجل ، والأصح من أقوال أهل العلم في ذلك أنهم يمتحنون يوم القيامة فمن أطاع الأوامر دخل الجنة ومن عصى دخل النار ، وقد أوضح هذا المعنى الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره لقول الله عز وجل " وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا " الإسراء 15 ، والعلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه طريق الهجرتين في آخره تحت عنوان طبقات المكلفين ص 453 ط المصرية .

الطفل بعد موتهم حكمه في الدنيا حكم أهله ، فإن كان بين المسلمين يغسل ويصلى عليه وله حكمهم في الآخرة ، أما إن كان بين المشركين فحكمه حكمهم في الدنيا فلا يغسل ولا يصلى عليه لأنه تبعهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم فيمن يقتل من أولاد المشركين " هم منهم " ، أما في الآخرة فأمرهم إلى الله لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أولاد المشركين قال : " الله أعلم بما كانوا عاملين " .

نص الحديث : " خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعاً " ، ثم قال " اذهب فسلم على أولئك النفر ، وهم نفر من الملائكة جلوس ، فاستمع ما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك " ، فذهب فقال : السلام عليكم ، فقالوا : السلام عليك ورحمة الله ، فزادوه ورحمة الله ، فكل من يدخل الجنة على صورة آدم طوله ستون ذراعاً ، فلم يزل الخلق تنقص بعده إلى الآن " رواه البخاري ومسلم ، وهو حديث صحيح ، ولا غرابة في متنه فإن له معنيان :-

الأول : أن الله لم يخلق آدم صغيراً قصيراً كالأطفال من ذريته ثم نما وطال حتى بلغ ستين ذراعاً ، بل جعله يوم خلقه طويلاً على صورة نفسه النهائية طوله ستون ذراعاً .

الثاني : أن الضمير في قوله على صورته يعود على الله بدليل ما جاء في رواية أخرى صحيحة " على صورة الرحمن " ولا يلزم على ذلك التشبيه فإن الله سمى نفسه بأسماء سمى بها خلقه ووصف نفسه بصفات وصف بها خلقها ولم يلزم من ذلك التشبيه .

إبليس من الجن وليس من الملائكة ، قال تعالى " وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ " الكهف 50 ، وقال تعالى " خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ " الرحمن 14 ، 15 ، وقال صلى الله عليه وسلم : " خُلقت الملائكة من نور ، وخُلق إبليس من مارج من نار ، وخُلق آدم مما وصف لكم " رواه مسلم ، وقال الحسن البصري : ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط وإنه لأصل الجن ، كما أن آدم عليه السلام أصل البشر ، رواه ابن جرير بإسناد صحيح عنه ، ولكن خان إبليس الطبع ، وذلك أنه كان مع الملائكة وتشبه بهم وتعبد وتنسك معهم فلهذا دخل في خطابهم وعصى بمخالفة أمر الله بالسجود .

الإنسان مخير ومسير ، أما كونه مخيراً فلأن الله سبحانه أعطاه عقلاً وسمعاً وبصراً وإرادة فهو يعرف بذلك الخير من الشر والنافع من الضار ويختار ما يناسبه ، وبذلك تعلقت به التكاليف من الأمر والنهي واستحق الثواب على طاعة الله ورسوله ، والعقاب على معصية الله ورسوله ، وأما كونه مسيراً فلأنه لا يخرج بأفعاله وأقواله عن قدر الله ومشيئته ، كما قال سبحانه " مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ " الحديد 22 .

وبالله التوفيق

وصلِ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

26 - 10 - 1434هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

4 + 9 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 106 الجزء الثالث ‌‌نصيحة عامة لحكام المسلمين وشعوبهم - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 105 الجزء الثالث ‌‌نصيحة عامة حول بعض كبائر الذنوب - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 104 ‌‌ الجزء الثالث حكم الإسلام فيمن أنكر تعدد الزوجات - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 103 الجزء الثالث ‌‌الأدلة الكاشفة لأخطاء بعض الكتاب - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 102 الجزء الثالث : ليس الجهادللدفاع فقط - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 101 الجزء الثالث ‌‌حكم من مات من أطفال المشركين - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر