مفهوم الأخوة والحب في الله

الخطب
التصنيف : تاريخ النشر: الأحد 14 محرم 1435هـ | عدد الزيارات: 2414 القسم: خطب الجمعة

إن الحمد لله نحمده ، و نستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .وأ شهد أ ن محمداً عبدُه و رسولُه
يَاأَيها الذين آ مَنُوا اتقُوا اللهَ حَق تُقَا ته ولاتموتن إلا وأنتم مُسلمُون آل عمران:102
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً النساء:1
يَا أ يها الذين آ منوا اتقوا الله وقولوا قَو لاً سَديداً يُصلح لَكُم أَ عما لكم وَ يَغفر لَكُم ذُ نُو بَكُم وَ مَن يُطع الله وَ رَسُولَهُ فَقَد فَازَ فَوزاً عَظيماً الأحزاب:70

أما بعد

عباد الله: اتقوا الله واعلموا أن الصحبة تنقسم إلى ما يقع بالاتفاق، كالصحبة بسبب الجوار أو بسبب الاجتماع في المكتب أو في المدرسة أو في السوق وإلى ما ينشأ اختياراً ويقصد، وهو الذي نريد بيانه إذ الأخوة في الدين واقعة في هذا القسم لا محالة إذ لا ثواب إلا على الأفعال الاختيارية ولا ترغيب إلا فيها

والصحبة عبارة عن المجالسة والمجاورة

واعلموا أن الحب إما أن يكون مقصوراً على الدنيا وحظوظها، وإما أن يكون متعلقاً بالآخرة، وإما أن يكون متعلقاً بالله تعالى فهذه لها أربعة أقسام أما القسم الأول وهو حبك الإنسان لذاته فذلك ممكن وهو أن يكون في ذاته محبوباً عندك على معنى أنك تلتذ برؤيته ومعرفته ومشاهدة أخلاقه لاستحسانك له، فإن كل جميل لذيذ في حق من أدرك جماله وكل لذيذ محبوب واللذة تتبع الاستحسان والاستحسان يتبع المناسبة والملاءمة والموافقة بين الطباع، ثم ذلك المستحسن إما أن يكون هو الصورة الظاهرة أعني حسن الخلقة، وإما أن يكون هو الصورة الباطنة أعني كمال العقل وحسن الأخلاق ويتبع حسن الأخلاق حسن الأفعال لا محالة ويتبع كمال العقل غزارة العلم، وكل ذلك مستحسن عند الطبع السليم والعقل المستقيم، وكل مستحسن فمستلذ به ومحبوب، بل في ائتلاف القلوب أمر أغمض من هذا فإنه قد تستحكم المودة بين شخصين من غير ملاحة في صورة ولا حسن في خَلْق وخُلُق، ولكن لمناسبة توجب الألفة والموافقة فإن شبه الشيء ينجذب إليه بالطبع، والأشياء الباطنة خفية ولها أسباب دقيقة ليس في قوة البشر الاطلاع عليها، عبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك حيث قال "الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف"رواه البخاري. فالتناكر نتيجة التباين والائتلاف نتيجة التناسب الذي عبر عنه بالتعارف

فقد ظهر من هذا أن الإنسان قد يحب لذاته لا لفائدة تنال منه بل لمجرد المجانسة والمشابهة في الطباع الباطنة والأخلاق الخفية وهذا الحب لا يدخل فيه الحب لله بل هو حب بالطبع إذ الحب إما محمود وإما مذموم وإما مباح لا يحمد ولا يذم

القسم الثاني: أن يحبه لينال من ذاته فيكون وسيلة إلى محبوب غيره والوسيلة إلى المحبوب محبوب والطريق إلى المحبوب محبوب ولذلك أحب الناس الذهب والفضة لأنها وسيلة إلى المحبوبات إذ يتوصل به إلى نيل جاه أو مال أو علم

فالمتوسل إليه إن كان مقصور الفائدة على الدنيا لم يكن حبه من جملة الحب في الله فالتلميذ إن أحب استاذه لأنه يعلمه وهذا العلم يريد أن ينال به الجاه والمال والقبول عند الناس فهذا الحب وسيلة إلى العلم والعلم وسيلة إلى المال فيكون حبه لأستاذه يوصله إلى مقاصد دنيوية فلا يكون حبه في الله

القسم الثالث: أن يحب لا لذاته بل لغيره وذلك الغير ليس راجعاً إلى حظوظه في الدنيا بل يرجع إلى حظوظه في الآخرة فهذا أيضاً ظاهر لا غموض فيه، وذلك كمن يحب أستاذه وشيخه لأنه يتوصل به إلى تحصيل العلم وتحسين العمل ومقصوده من العلم والعمل الفوز في الآخرة،فهذا من جملة المحبين في الله، وكذلك من يحب تلميذه لأنه يتلقف منه العلم وينال بواسطته رتبة التعليم ويرقى به إلى درجة التعظيم في ملكوت السماء و نزيد على ذلك ونقول من نكح امرأة صالحة ليتحصن بها عن وسواس الشيطان ليصون بها دينه أو ليولد منها ولد صالح يدعوا له وأحب زوجته لأنها آلة إلى هذه المقاصد الدينية فهو محب في الله

ولذلك وردت الأحاديث بموفور الأجر والثواب على الإنفاق على العيال حتى اللقمة يضعها الرجل في فم امرأته فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في فم امرأتك.رواه البخاري.

عباد الله: ليس من شرط الحب في الله أن لا يحب في العاجل حظاً البتة إذ الدعاء الذي أمر به الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه فيه جمع بين الدنيا والآخرة ومن ذلك قولهم "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة"البقرة:201. وقال عيسى عليه السلام في دعائه: اللهم لا تشمت بي عدوي ولا تسؤ بي صديقي ولا تجعل مصيبتي في ديني ولا تجعل الدنيا أكبر همي فدفْع شماتة الأعداء من حظوظ الدنيا، ولم يقل: ولا تجعل الدنيا أصلاً من همي، بل قال: لا تجعلها أكبر همي، وقال نبينا صلى الله عليه وسلم في دعائه "اللهم إني أسألك رحمة أنال بها شرف كرامتك في الدنيا والآخرة"رواه ابن خزيمة، وقال "اللهم عافني من بلاء الدنيا وبلاء الآخرة"رواه احمد.

القسم الرابع: أن يحب في الله لا لينال منه علماً أو عملاً أو يتوسل به إلى أمر وراء ذاته وهذا أعلى الدرجات وهو أدقها وأغمضها، فإن من أحب إنساناً حباً شديداً أحب محب ذلك الإنسان وأحب محبوبه وأحب من يثني عليه

وما من محب في الله إلا إذا أُخبر عن حال رجلين أحدهما عالم عابد والآخر جاهل فاسق إلا وجد في نفسه ميلاً إلى العالم العابد، ويضعف ذلك الميل ويقوى بحسب ضعف إيمانه وقوته وبحسب ضعف حبه لله وقوته وهذا الميل حاصل وإن كانا غائبين عنه بحيث يعلم إنه لا يصيبه منهما خير ولا شر في الدنيا ولا في الآخرة، فذلك الحب في الله من غير حظ فإنه إنما يحبه لأن الله يحبه ولأنه مرضي عند الله تعالى ولأنه مشغول بعبادة الله، ولو كان الحب مقصوراً على حظ ينال من المحبوب في الحال أو المآل لما تصور حب الموتى من العلماء والعباد ومن الصحابة والتابعين، بل من الأنبياء وحب جميعهم مكنون في قلب كل مسلم متدين، ويتبين ذلك بغضبه عند طعن أعدائهم في واحد منهم وبفرحه عند الثناء عليهم

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيماً لشأنه وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم

أما بعد

عباد الله: إذا أردت أن تحب في الله فيجب أن تعلم أنه لا يصلح للصحبة كل إنسان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل"رواه أحمد وابو داود والترمذي بإسناد صحيح. فينبغي أن يكون فيمن تؤثر صحبته خمس خصال أن يكون عاقلاً حسن الخلق غير فاسق ولا مبتدع ولا حريص على الدنيا.

والعاقل الذي يفهم الأمور على ما هي عليه إما بنفسه وإما إذا فهم، وأما الفاسق المصر على الفسق فلا فائدة في صحبته لأن من يخاف الله لا يصر على كبيرة ومن لا يخاف الله لا تؤمن غائلته قال تعالى "ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه"الكهف:28. وأما المبتدع ففي صحبته خطر سراية البدعة وقال بعض الأدباء: لا تصحب إلا من يكتم سرك ويستر عيبك فيكون معك في النوائب ويؤثرك بالرغائب وينشر حسنتك ويطوي سيئتك فإن لم تجده فلا تصحب إلا نفسك، وقال بعض العلماء:لا تصحب إلا أحد رجلين: رجل تتعلم منه شيئاً في أمر دينك فينفعك، أو رجل تعلمه شيئاً في أمر دينه فيقبل منك، والثالث فاهرب منه، وقال بعضهم: الناس أربعة: فواحد حلو كله فلا يشبع منه وآخر مر كله فلا يؤكل منه، وآخر فيه حموضة فخذ من هذا قبل أن يأخذ منك، وآخر فيه ملوحة فخذ منه وقت الحاجة، وقال جعفر الصادق رضي الله عنه: لا تصحب خمسة: الكذاب فإنك منه على غرر وهو مثل السراب يقرب لك البعيد ويبعد عنك القريب، والأحمق لست منه على شيء يريد أن ينفعك فيضرك والبخيل يقطع بك أحوج ما تكون إليه، والجبان يسلمك ويفر عند الشدة، والفاسق يبيعك بأكلة أو أقل منها، فقيل: وما أقل منها؟ قال: الطمع فيها ثم لا ينالها، وقد قال المأمون: الإخوان ثلاثة: أحدهم مثله مثل الغذاء لا يستغنى عنه، والآخر مثله مثل الدواء يحتاج إليه في وقت دون وقت، والثالث مثله مثل الداء لا يحتاج إليه قط ولكن العبد قد يبتلى به وهو الذي لا أنس فيه ولا نفع وقد قيل مثل جملة الناس كمثل الشجر والنبات، فمنها ما له ظل وليس له ثمر وهو مثل الذي ينتفع به في الدنيا دون الآخرة فإن نفع الدنيا كالظل السريع الزوال، ومنها ما له ثمر وليس له ظل وهو مثل الذي يصلح للآخرة دون الدنيا، ومنها ما له ثمر وظل جميعاً، ومنها ما ليس له واحد منهما

فإن لم يجد رفيقاً يؤاخيه ويستفيد به هذه المقاصد فالوحدة أولى به، وأما الحريص على الدنيا فصحبته سم قاتل لأن الطباع مجبولة على التشبه والإقتداء فمجالسة الحريص على الدنيا تحرك الحرص ومجالسة الزاهد تزهد في الدنيا فلذلك تكره صحبة طلاب الدنيا ويستحب صحبة الراغبين في الآخرة قال علي رضي الله عنه: أحيوا الطاعات بمجالسة من يُستحيا منه، وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: ما أوقعني في بلية إلا صُحبة من لا أحتشمه، وقال لقمان يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإن القلوب لتحيا بالحكمة كما تحيا الأرض الميتة بوابل القطر

هذا وصلوا على نبيكم كما أمركم الله بذلك في محكم كتابه بقوله "إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليما"الأحزاب:56. وقال عليه الصلاة والسلام من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا .رواه مسلم. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين وانصر عبادك الموحدين وأعل بفضلك كلمة الحق والدين اللهم اجعلنا ممن يفقهون الأخوة والحب في الله فيحبون في الله ويبغضون في الله

اللهم احفظ لنا ولي أمرنا وجنودنا على حدودنا.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار البقرة:201. وأدخلنا الجنة مع الأبرار واغفر لنا ولوالدينا ووالدي والدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين

عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون النحل:90. فاذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون العنكبوت:45.

1435-1-14

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

7 + 6 =

/500
جديد الخطب الكتابية
روابط ذات صلة
الخطب السابق
الخطب الكتابية المتشابهة الخطب التالي