الدرس 146 ‌‌حكمة الداعي وأدب المدعو

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الأحد 3 شعبان 1443هـ | عدد الزيارات: 369 القسم: تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين.

أما بعد:

* الحكمة من الداعي إلى الله لها شأن عظيم، فالداعي يتحرى في دعوته الكلمات المناسبة والأوقات المناسبة، والأسلوب المناسب، حتى يكون ذلك أقرب إلى النجاح، ومن أسماء الله جل وعلا الحكيم العليم لأنه سبحانه يضع الأمور مواضعها عن علم: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (الأنعام 83) ، وهو يعلم الأشياء على ما هي عليه ويضع أفعاله وأحكامه على ما هو اللائق به سبحانه والمناسب لمنفعة العباد وصلاحهم، فهو الحكيم العليم في قوله وعمله في أمره ونهيه في كل ما يقول ويفعل سبحانه وتعالى.

‌فالحكيم هو الذي يعلم الأشياء ويضع الأعمال والأقوال مواضعها، وهذا الوصف على الكمال إنما يصدق على الله عز وجل؛ لأنه العالم بكل شيء والحكيم في كل شيء سبحانه وتعالى، ومن حكمة الداعي أن يكون عنده العلم بما يدعو إليه وما ينهى عنه، كما قال عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} (النحل 125) يعني: بالعلم قال الله وقال رسوله.

ومن حكمة الداعي أن يأتي بالأسلوب المناسب والبيان المناسب ويخاطب كل قوم بما يعقلون ويفهمون، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} (يوسف 108) يعني على علم، وقال تعالى في أهل الكتاب: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت 46) وهم اليهود والنصارى، فلا يجوز جدالهم إلا بالتي هي أحسن، إلا الذين ظلموا منهم فمن ظلم له شأن آخر.

وإذا كان هذا التوجيه من المولى سبحانه في جدال أهل الكتاب فالمسلمون من باب أولى،{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران 159) ، وقال لموسى وهارون عليهما الصلاة والسلام لما بعثهما إلى فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه 44) وهذا توجيه من الله سبحانه لرسوليه موسى وهارون لما بعثهما إلى فرعون، ليتأسى بذلك الدعاة ويتخلقوا به في دعوتهم إلى الله لا سيما مع الرؤساء والعظماء، ولا سيما في عصرنا هذا، فإن الحكمة والأسلوب الحسن والرفق من أهم المهمات في كل وقت وفي هذا الوقت بوجه أخص، لكثرة الجهل وغلبة الهوى على أكثر الخلق، وبالشدة ينفر منك الناس ويبتعدون عنك ولا يقبل الحق إلا من رحم الله.

وهكذا المدعو له آداب: منها الإنصات والإقبال على ما يسمع من الدعوة والتذكير ليستفيد ويفهم، ومنها إخلاص النية، وأن يكون قاصدا للفائدة وللعلم والمعرفة والعمل، ومنها حسن السؤال إذا سأل، هذا كله من أدب المدعو: الإنصات، والإقبال على الناصح، والإخلاص في ذلك، وحسن الرغبة، وطلب الحق، والعزم على فعل الخير، والأخذ بالنصيحة، قال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ} (الزمر 17) {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} (الزمر 18) ، فالمدعو مشروع له أن يُقبل بقلبه وقالبه على الدعوة، وأن يريدَ وجْهَ الله والدارَ الآخرة، وأن يؤسس بقلبه ونيته قبول الحق والعمل بالحق متى عرفه ومحاربة الهوى والشيطان، وإن أهم الأمور التي يجب التنبيه عليها دائما هو إخلاص العبادة لله وحده، وأن يحاسب العبد نفسه حتى تكون أعماله وأقواله لله وحده في جميع تصرفاته في صلاته وفي صومه ودعوته إلى الله وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر إلى غير ذلك فيخلص لله في جميع أعماله، وأن يكون هدفه طاعة الله ورسوله وإرضاءه سبحانه، والفوز بكرامته، وأداء الحق الذي على العبد.

* وأساس الدين وأصله توحيد الله والإخلاص له سبحانه كما قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (الإسراء 23) ، والنبي صلى الله عليه وسلم مكث ثلاث عشرة سنة في مكة يدعو الناس إلى توحيد الله والإخلاص له، وينهاهم عن الشرك بالله ويبين لهم بطلان دعوة الأصنام، وفي الأحاديث الصحيحة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله » (أخرجه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر)، يعني حتى يشهدوا بها قولا وعملا واعتقادا فيعتقدون معناهما ويعملون به وذلك بتوحيد الله والإخلاص له وترك الإشراك به سبحانه وتعالى، ثم يؤدون ما أمروا به من صلاة وصوم وزكاة وغير ذلك ويجتنبون ما نهوا عنه.

فجميع المكلفين من جن وإنس مأمورون بتوحيد الله والإخلاص له في العبادة، وأن يصدقوا رسوله عليه الصلاة والسلام ويؤمنوا بما جاء به من الهدى، وأن يعتقدوا أنه عبد الله ورسوله أرسله الله إلى الناس كافة من الجن والإنس وجعله خاتم الأنبياء، وأوجب على جميع المكلفين الإيمان به وتصديقه واتباع شريعته عليه الصلاة والسلام.

ثم على كل فرد أن يؤدي الحقوق التي عليه بعد توحيد الله، والإخلاص له، وترك الإشراك به، والإيمان برسوله محمد عليه الصلاة والسلام وبكل ما أخبر به الله ورسوله، يجب أن تؤدي الحقوق التي أوجب الله عليك من صلاة وزكاة وصوم وحج وبر الوالدين وصلة الرحم وصدق الحديث وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر والدعوة إلى الله والجهاد في سبيله إلى غير ذلك مع الحذر من كل ما نهى الله عنه، وأعظم ذلك الشرك بالله فإنه أعظم الذنوب، وهكذا جميع المعاصي عليك أن تحذرها

* على المؤمن أن يقوم على أهل بيته بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من زوجة وأولاد وغيرهم، ينصحهم جميعا ويحذرهم من معاصي الله ويحثهم على الصلاة والمحافظة عليها في أوقاتها، ويحثهم على كل ما أوجب الله، وينهاهم عما حرم الله عليهم ويحذرهم من الغيبة والنميمة ومن إيذاء بعضهم لبعض ومن إيذاء الجيران ومن تخلف الرجال عن الصلاة في الجماعة إلى غير هذا، عملا بهذه الآية الكريمة وهي قوله سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (التوبة 71) الآية، فأنت يا عبد الله عليك أهلك جاهدهم في الله بالحكمة والكلام الطيب والشدة تارة والرخاء تارة أخرى من لم ينفع فيه اللين والكلام الطيب ينتقل معه إلى القوة والتأديب كما قال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (العنكبوت 46) فمن ظلم يعاقب بما يستحق حسب الطاقة وفي حدود الشرع المطهر، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: « مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع » (الحديث في صحيح أبي داود للألباني بهذا اللفظ" مُروا أولادَكم بالصلاةِ وهم أبناءُ سبعِ سنينَ واضربوهُم عليها وهمْ أبناءُ عشرٍ وفرِّقوا بينهُم في المضاجعِ ")، فإذا ما نفع الكلام يضرب، هكذا مع الفساق والعصاة إذا لم تجد فيهم النصيحة والتوجيه إلى الخير وجب على المسئولين أن يؤدبوا ويزجروا بما يردع عن الباطل ويقيم الحق.

وعليهم أن يقيموا الحدود الشرعية على أهلها حسب الطاقة لقول الله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن 16) ؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «مَن رَأَى مِنكُم مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بيَدِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسانِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وذلكَ أضْعَفُ الإيمانِ. » (أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري).

عليك يا عبد الله بالحرص على قبول الحق وعلى الأخذ بأسبابه وعلى الإقبال بقلبك عند الموعظة والذكرى، وأن يكون همُّكَ وقصدُكَ أن تفهمَ حكمَ اللهِ، وأن تعرف مراد الله وتعمل به، وأن تعرف ما يغضب الله حتى تجتنبه، والله سبحانه يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (الطلاق 3،2) ويقول سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (الطلاق 4 ) ويقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (الأنفال 29) الآية.

أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.

1443/8/3 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

5 + 3 =

/500
جديد الدروس الكتابية
 الدرس 146 الجزء الرابع  الاستسلام لشرع الله - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 145 الجزء الرابع: وجوب طاعة الله ورسوله - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 144  الجزء الرابع الحلف بغير الله - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 143 الجزء الرابع تأويل الصفات - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 142 الجزء الرابع التحدث بالنعم والنهي عن الإسراف - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 141 الجزء الرابع ‌‌أخلاق أهل العلم  . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر