{قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) }.
قوله:(قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ) أراد به في النوم يقول: لا يأتيكما طعام ترزقانه في نومكما، ( إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ ) في اليقظة. ( قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ) قبل أن يصل إليكما، (ذَلِكُمَا) العلم، (مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) إني اجتنبت ملة الكافرين بالله واليوم الآخر، وتكرار قوله: (هُمْ) على التأكيد.
{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38)}
قوله:(وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ) أظهر أنه من ولد الأنبياء (مَا كَانَ لَنَا) لا يجوز في حقنا، (أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ) معناه: أن الله قد عصمنا من الشرك، (ذَلِكَ) التوحيد والعلم، (مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ) مما تفضل الله به علينا وعلى الناس ، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ). يجحدون نعمة الله بإرسال الرسل إليهم.
{ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ( 39 ) }.
قوله: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ) جعلهما صاحبي السجن لكونهما فيه، كما يقال لسكان الجنة: أصحاب الجنة، ولسكان النار: أصحاب النار، ( أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ ) أي: آلهة شتَّى، هذا من ذهب، وهذا من فضة، وهذا من حديد، وهذا أعلى، وهذا أوسط، وهذا أدنى، متباينون لا تضر ولا تنفع، (خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ) الذي لا ثاني له. (الْقَهَّارُ): الغالب على الكل. ثم بيَّن عجز الأصنام فقال:
{مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40)}
قوله:(مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ ) أي: من دون الله، وإنما ذُكر بلفظ الجمع وقد ابتدأ الخطاب للاثنين لأنه أراد جميعَ أهل السجن، وكل من هو على مثل حالهما من أهل الشرك، (إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا) آلهة وأربابا خالية عن المعنى لا حقيقة لتلك الأسماء، (أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنـزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ) حجة وبرهان، (إِنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ) ما القضاء والأمر والنهي إلا لله وحده لا شريك له، (أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ) أي لا تخضعوا لغيره (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) المستقيم الذي لا عوج فيه، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ )يجهلون ذلك فلا يعلمون حقيقته ، ثم فسَّر رؤياهما فقال:
{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)}.
قوله: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا) وهو الذي رأى أنه يعصر خمرا ،لكنه لم يعينه لئلا يحزن ذاك، ولهذا أبهمه في قوله: (فَيَسْقِي رَبَّهُ) يعني الملك (خَمْرًا) (وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ).وهو الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا (قُضِيَ الأمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ) ، أي: فُرغ من الأمر الذي عنه تسألان.
{وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) .}
قوله:(وَقَال) يعني: يوسف عند ذلك، (لِلَّذِي ظَنَّ) علم ( أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا ) وهو الساقي، (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) يعني: سيدك الملك، وقل له: إن في السجن غلاما محبوسا ظلما طال حبسه.
(فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) أنسى الشيطان الساقي ذكر يوسف للملك، تقديره: فأنساه الشيطان ذكره لربه.
(فَلَبِث) فمكث، (فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) البضع في هذه الآية سبع سنين.
{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ( 43 )}
قوله: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} أي رأيت في منامي سبع بقرات سمان يأكلهن سبع بقرات هزيلات ، ورأيت { سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} {يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} يا أيها السادة والكبراء أخبروني عن هذه الرؤيا إن كنتم للرؤيا تفسرون، وقد كانت هذه الرؤيا مقدرة من الله تعالى كي يخرج يوسف من سجنه معززا مكرما ، وقد عجز الكهنة، وكبراء دولته بعد أن جمعهم، عن تفسير هذه الرؤيا.
{قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ (44)} .
قوله: (قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ) أخلاط أحلام، واحدها ضغث، ، والأحلام جمع الحُلْم. (وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحْلامِ بِعَالِمِينَ) وما نحن بتفسير الأحلام بعارفين.
{ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ( 45 ) }
قوله:(وَقَالَ الَّذِي نَجَا) من القتل، (مِنْهُمَا) من الفتيين وهو الساقي، ( وَادَّكَرَ ) أي: تذكر قول يوسف اذكرني عندَ ربّك، (بَعْدَ أُمَّةٍ) بعد حين وهو سبع سنين. ( أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ) أنا أخبركم بتفسير هذه الرؤيا، (فَأَرْسِلُونِ) فابعثوني إلى يوسف لآتيكم بتفسيرها
{يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ(46)}
قوله: (يُوسُف) يعني: يا يوسف، (أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) والصديق الكثير الصدق، (أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ) فإن الملك رأى هذه الرؤيا، (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ) الملك وملأه، (لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) تأويل الرؤيا. ويعلمون منـزلتك في العلم.
{قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلا قَلِيلا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلا قَلِيلا مِمَّا تُحْصِنُونَ ( 48 ) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ( 49 )} .
قوله: (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا) هذا خبر بمعنى الأمر، يعني: ازرعُوا سبعَ سنين متتالية جادين؛ ليكثر العطاء. (فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ)فما حصدتم منه في كل مرة فادخروه واتركوه في سنبله ليتم حفظه من التسوس (إِلا قَلِيلا مِمَّا تَأْكُلُونَ) إلا المقدار الذي تأكلونه وليكن قليلا؛ لتنتفعوا في السبع الشدائد .
(ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ) سمى السنين المجدبة شدادا لشدّتها على الناس، (يَأْكُلْنَ) أي: يفنين ويُهلكن، (مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ) أي: يؤكل فيهن ما أعددتم لهن من الطعام، أضاف الأكل إلى السنين على طريق التوسع ( إِلا قَلِيلا مِمَّا تُحْصِنُونَ) تُحْرِزُونَ وتدَّخرون للبذر. (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ ) أي: يُمْطرون، من الغيث: وهو المطر. (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) معناه: يعصرالناس ما كانوا يعصرون على عادتهم من زيت ونحوه، وأراد به كثرة الثمار.
{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)}.
قوله: (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) وذلك أن الساقي لما رجع إلى الملك وأخبره بما أفتاه يوسف من تأويل رؤياه، وعرف الملك أن الذي قاله كائن، قال: ائتوني به. ( فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ ) وقال له: أجب الملك، أبى أن يخرج مع الرسول حتى تظهر براءته ثم (قَالَ) للرسول: ( ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ ) يعني: سيدك الملك، ( فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ) ولم يصرح بذكر امرأة العزيز أدبا واحتراما. قال النبي صلى الله عليه وسلم: « لو لَبِثْتُ في السِّجْنِ طُولَ ما لَبِثَ يُوسُفُ، لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَ » (صحيح البخاري). (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) أي: إن الله بصنيعهن عالم، وإنما أراد يوسف بذكرهن بعد طول المدة حتى لا ينظر إليه الملك بعين التهمة، ويصير إليه بعد زوال الشك عن أمره، فرجع الرسول إلى الملك من عند يوسف برسالته، فدعا الملكُ النسوةَ وامرأة العزيز.
{قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 53 ) }
قوله: (قَالَ) الملك للنسوة اللاتي حززن أيديهنَّ عند امرأة العزيز (مَا خَطْبُكُنَّ) ما شأنكن وأمركن، (إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ) يوم الضيافة . (قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ) معاذ لله، (مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) خيانة. (قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ ) ظهر وتبين. (أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) في قوله: هي راودتني عن نفسي، (ذَلِك) القول الذي قلته في تنزيه يوسف والإقرار على نفسي (لِيَعْلَم) زوجي(أَنِّي لَمْ أَخُنْه بِالْغَيْبِ )،بالكذب عليه، ولم تقع مني الفاحشة (وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ) وأن الله لا يوفق أهل الخيانة. (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي) من الخطأ والزلل فأزكيها، (إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ) بالمعصية (إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي) أي: إلا من رحم ربي فعصمه، (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ) غفورلذنوب من تاب من عباده، رحيم بهم.
{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)}.
قوله: (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) يقول الملك حين تحقق براءة يوسف عليه السلام ونزاهة عرضه مما نسب إليه - : {ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} أي: أجعله من خاصتي وأهل مشورتي، (فَلَمَّا كَلَّمَهُ) عرفَ خلقَه ورجاحةَ عقله، وفضلَه، وحسنَ منطقه (قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ) عظيم المكانة، ومؤتمن.
{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)}.
قوله: (قَالَ)أي: يوسف عليه السلام، (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرْضِ) الخزائن: جمع خزانة، وأراد خزائن الطعام والأموال، والأرض: أرض مصر. (إِنِّي حَفِيظٌ)أي: إني خازن أمين( عَلِيمٌ)، ذو علم وبصيرة لما أتولاه، .
{وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ( 56 ) وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)}
قوله: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ) وكما أنعم الله على يوسف بالخلاص من السجن وإظهار براءته مما اتهم به مكَّن له في أرض مصر، ( يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ) أي: يتخذ منها منزلا حيث يشاء . (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ) من عبادنا المتقين ، (وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) ولا نضيع أجر من أحسن شيئا من العمل الصالح. (وَلأجْرُ الآخِرَةِ) ثواب الآخرة، (خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) أعظم من ثواب الدنيا لأهل الإيمان،(وَكَانُوا يَتَّقُونَ) يخافون عقاب الله ويطيعونه في أمره ونهيه.
{وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ( 58 )} .
قوله:(وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ) وكانوا عشرة، وكان منـزلهم بالعرنات من أرض فلسطين، بغور الشام، وكانوا أهل بادية وإبل وشاة، فدعاهم يعقوب عليه السلام وقال: يا بني بلغني أن بمصر ملكا صالحا يبيع الطعام، فتجهزوا لتشتروا منه الطعام، فأرسلهم فقدموا مصر، (فَدَخَلُوا عَلَيْهِ) على يوسف، (فَعَرَفَهُمْ) يوسف، عليه السلام، بفراسته وذكائه بأول ما نظر إليهم. (وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) أي: لم يعرفوه، وكان بين أن قذفوه في البئر وبين أن دخلوا عليه أربعون سنة، فلذلك أنكروه.
{وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ ۚ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ(59)}
قوله:(ولما جهزهم بجهازهم) أي : حمل لكل واحد بعيرا بعدتهم ( قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ) يعني بنيامين، وكانوا قد أخبروه بأن لهم أخا من أبيهم لم يحضروه معهم، (ألا ترون أني أوفي الكيل) أي : أتمه ولا أبخس الناس شيئا ، فأزيدكم حمل بعير لأجل أخيكم ، وأكرم منزلتكم وأحسن إليكم (وأنا خير المنزلين) أي: خير المضيفين، وكان قد أحسن ضيافتهم .
{فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60)}
قوله:( فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ) ليس لكم عندي طعام أكيله لكم ( ولا تقربون ) ولاتأتوا إليَّ، وهو جزم على النهي .
{قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61)
قوله:( قالوا سنراود عنه أباه ) أي: نطلبه ونسأله أن يرسله معنا ( وإنا لفاعلون ) ما أمرتنا به .
{وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)}
قوله: (وقال لفتيانه) يريد لغلمانه، (اجعلوا بضاعتهم) ثمن طعامهم وكانت دراهم .(في رحالهم) أي: اجعلوها خفية في أوعيتهم (لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا) إذا رجعوا ( إلى أهلهم لعلهم يرجعون) إلينا طمعا في عطائنا.
{فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَىٰ أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63)}
قوله:{فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَىٰ أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} فلما عادوا إلى أبيهم قصُّوا له ما كان من كرم العزيز لهم ، وقالوا إنه لن يعطينا مستقبلا إلا إذا كان معنا أخونا بنيامين الذي أخبرناه به ، (فأرسل معنا أخانا نكتل )، لنحضر الطعام وافيا (وإنا له لحافظون ) ونتعهد لك بحفظه.
{قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَىٰ أَخِيهِ مِن قَبْلُ ۖ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)}
قوله: ( قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه ) يوسف (من قبل) أي: كيف آمنكم على بنيامين وقد فعلتم بيوسف ما فعلتم ؟ (فالله خير حافظا) حفظه خير من حفظكم . (وهو أرحم الراحمين) بي ، وسيرحم كِبَري، وضعفي، ووُجْدي بابني.
{وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ ۖ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي ۖ هَٰذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا ۖ وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ۖ ذَٰلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)}
قوله:(ولما فتحوا متاعهم) الذي حملوه من مصر (وجدوا بضاعتهم) ثمن الطعام ( ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي ) أي: ماذا نبغي وأي شيء نطلب ؟ وذلك أنهم ذكروا ليعقوب عليه السلام إحسان الملك إليهم ، وحثوه على إرسال بنيامين معهم ، فلما فتحوا المتاع ووجدوا البضاعة (هذه بضاعتنا ردت إلينا) أي شيء نطلب بالكلام ، فهذا هو العيان من الإحسان والإكرام ، أوفى لنا الكيل ورد علينا الثمن . أرادوا تطييب نفس أبيهم (ونمير أهلنا) أي: نشتري لهم الطعام فنحمله إليهم . يقال : مار أهله يمير ميرا : إذا حمل إليهم الطعام من بلد. ومثله : امتار يمتار امتيارا. (ونحفظ أخانا ) بنيامين أي: مما تخاف عليه. (ونزداد) على أحمالنا (كيل بعير) أي : حمل بعير يكال لنا من أجله ، لأنه كان يعطي باسم كل رجل حمل بعير (ذلك كيل يسير) إن هذا يسير في مقابلة أخذ أخينا بنيامين.
{قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّىٰ تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَن يُحَاطَ بِكُمْ ۖ فَلَمَّا ءاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)}
قوله: (قال) لهم يعقوب (لن أرسله معكم حتى تؤتون) تعطوني (موثقا) ميثاقا وعهدا (من الله) والعهد الموثق : المؤكد بالقسم .(لتأتنني به) وأدخل اللام فيه لأن معنى الكلام اليمين ( إلا أن يحاط بكم ) إلا أن تغلبوا حتى لا تطيقوا ذلك .
وفي القصة : أن الإخوة ضاق الأمر عليهم وجهدوا أشد الجهد ، فلم يجد يعقوب بدا من إرسال بنيامين معهم .(فلما ءاتَوْه موثقهم) أعطوه عهودهم (قال) يعقوب (الله على ما نقول وكيل ) تكفينا شهادته علينا وحفظه لنا.
{وَقَالَ يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68) .}
قوله: (وَقَال) لهم يعقوب لما أرادوا الخروج من عنده، (يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) وذلك أنه خاف عليهم العين؛ لأنهم كانوا أعطوا جمالا وهيئةً حسنةً ومنظرًا وبهاءً وقوةً وامتدادَ قامةٍ، وكانوا ولد رجل واحد، فأمرهم أن يتفرقوا في دخولهم لئلا يصابوا بالعين، فإن العين حق، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم "الْعَيْنُ حَقٌّ، ولو كانَ شيءٌ سابَقَ القَدَرَ سَبَقَتْهُ العَيْنُ،" (صحيح مسلم) ثم قال: (وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) معناه: إن كان الله قضى فيكم قضاء فيصيبكم مجتمعين كنتم أو متفرقين، فإن المقدور كائن والحذر لا ينفع من القدر، (إِنِ الْحُكْمُ) ما الحكم، (إِلا لِلَّهِ) هذا تفويض يعقوب أموره إلى الله، (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) اعتمدت، (وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) وعليه وحدَه يعتمد المؤمنون .
(وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ) أي: من الأبواب المتفرقة. (مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ) ما كان ذلك ليدفع قضاء الله عنهم (إِلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا) إلا شفقة عليهم في نفس يعقوب أن تصيبهم العين (وَإِنَّهُ) يعني: يعقوب عليه السلام، ( لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ) أي: صاحب علم يعمل بما علمناه إياه. (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي: لا يعلمون ما يعلم يعقوب من أمر دينه.
{وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)}.
قوله : (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ) ولما دخل إخوة يوسف عليه في منزل ضيافته ومعهم شقيقه بنيامين، (آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ ) اختلى باخيه قائلا له: (إِنِّي أَنَا أَخُوكَ) الشقيق( فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) فلا تغتم بسبب ما صنعوا بي.
{فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) }.
قوله: (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ) وهي إناء من فضة ، وجعلت في وعاء طعام بنيامين، ثم ارتحلوا وأمهلهم يوسف حتى انطلقوا(ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ)، مناديا فيهم، (أَيَّتُهَا الْعِيرُ) وهي القافلة التي فيها الأحمال. (إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ).
{قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)}.
قوله: (قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ) عطفوا على المؤذن وأصحابه، ( مَاذَا تَفْقِدُونَ ) ما الذي ضلّ عنكم. والفقدان: ضدّ الوجد. (قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ) صاعه الذي يكيل به( وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِير ) من الطعام، وهذا من باب المكافأة (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) كفيل، وهذا من باب الضمان.
{قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73)}
قوله: (قَالُوا) يعني: إخوة يوسف، (تَاللَّه) أي: والله، وخصت هذه الكلمة بأن أبدلت الواو فيها بالتاء في اليمين دون سائر أسماء الله تعالى. (لَقَدْ عَلِمْتُمْ) من حالنا وسلوكنا وأخلاقنا، أننا (مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرْضِ) ما جئنا لأرض مصر من أجل الإفساد فيها، (وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ )وليس من صفاتنا أن نكون سارقين.
{قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)}.
(قَالُوا) يعني المنادي وأصحابه (فَمَا جَزَاؤُهُ) أي: جزاء السارق إن كان فيكم، ( إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ ) في قولكم « وما كنا سارقين ». (قَالُوا) يعني: إخوة يوسف ، (جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ ) أي: فالسارق جزاؤه أن يسلَّم السارق بسرقته إلى المسروق منه فيسترقه سنة، وكان ذلك سُنَّة آل يعقوب في حكم السارق، وكان حكم ملك مصر أن يضرب السارق ويغرم ضعفي قيمة المسروق، فأراد يوسف أن يحبس أخاه عنده، فرد الحكم إليهم ليتمكن من حبسه عنده على حكمهم. (كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) الفاعلين ما ليس لهم فعله من سرقة مال الغير. فقال الرسول عند ذلك: لا بدّ من تفتيش أمتعتكم. فردهم إلى يوسف عليه السلام فأمر بتفتيش أوعيتهم بين يديه. (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ ) توريةً، ونفيًا للشبهة (قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ) فكان يفتش أوعيتهم واحدا واحدا. (ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ) وإنما أَنَّث الكناية في قوله « ثم استخرجها » والصُّوَاع مذكر، بدليل قوله: « وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ » ؛ لأنه ردّ الكناية ها هنا إلى السقاية. (كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ) والكيد ها هنا جزاء الكيد، يعني: كما فعلوا في الابتداء بيوسف من الكيد فعلنا بهم. وقد قال يعقوب عليه السلام ليوسف: « فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا »، فكدنا ليوسف في أمرهم. والكيد من الخلق: الحيلة، ومن الله تعالى التدبير بالحق، (مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ) فيضمه إلى نفسه، (فِي دِينِ الْمَلِكِ) أي: في حكمه. (إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) يعني: إن يوسف لم يكن يتمكن من حبس أخيه في حكم الملك- القاضي بضرب السارق وتغريمه ضعفي قيمة المسروق - لولا ما كِدْنَا له بلطفنا حتى وجد السبيل إلى ذلك، وهو ما أجرى على ألسنة الإخوة أن جزاء السارق الاسترقاق، فحصل مراد يوسف بمشيئة الله تعالى. (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ) بالعلم كما رفعنا درجة يوسف على إخوته. (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) فوق كل عالمٍ عالمٌ إلى أن ينتهي العلم إلى الله تعالى. فالله تعالى فوق كل عالم.
{قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)} .
قوله: (قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) يريدون أخاً له من أمه راحيل، وهو يوسف عليه السلام (فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ ) فأخفى في نفسه ما سمعه من بهتانهم من أن يوسف قد سرق، وحدَّثَ نفسه قائلا:(أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا) أنتم أسوأ من نزلَ هذا المكان، فقد عققتم الوالد ، وضيعتم الأخ وعصيتم الخالق. (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ)من الكذب والافتراء عليّ بالسرقة، ولا تخفى على الله خافية.
{قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) }.
قوله: (قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا)
فلما صار أمرهم إلى هذا قالوا مستعطفين ليوفوا بعهد أبيهم: يا أيها العزيز إنّ له أباً شيخاً كبيراً يحبه ولا يطيق بعده، (فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ) بدلا من بنيامين، (إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) من العادلين المنصفين القابلين للخير .
{قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)}.
قوله:(قال) يوسف، (مَعَاذَ اللَّهِ) أعوذ بالله، ( أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ ) ولم يقل إلا من سرق تحرزا من الكذب، (إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ) إن أخذنا بريئا بمجرم.
{فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) }.
قوله: (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ) أي: يئسوا من يوسف أن يجيبهم إلى ما سألوه. (خَلَصُوا نَجِيًّا) أي: خلا بعضهم ببعض يتناجون ويتشاورون لا يخالطهم غيرهم.(قَالَ كَبِيرُهُمْ)، وهو روبيل، وكان أكبرَهم في السن، وهو الذي نهى الإخوةَ عن قتل يوسف .(أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا) عهدا. (مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) قصّرتم ، يعني: ألم تعلموا من قبلُ هذا تفريطَكُم في يوسف. (فَلَنْ أَبْرَحَ الأرْضَ) التي أنا بها وهي أرض مصر (حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) بالخروج منها ويدعوني، (أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي) بردِّ أخي إليّ. (وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) أعدل مَنْ فَصَل بين الناس.
{ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81)}.
قوله: (ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ ) يقول الأخ المحتبس بمصر-وهو روبيل- لإخوته ارجعوا إلى أبيكم، (فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) أي: بنيامين، (وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا) فإنّا رأينا إخراج الصاع من متاعه. (وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ) ما كنا نعلم أن ابنك سيسرق ويصير أمرنا إلى هذا ، وإنما قلنا:(وَنَحْفَظُ أَخَانَا) مما لنا إلى حفظه سبيل.
{وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)}
قوله: (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا) أي: أهل القرية وهي مصر. (وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا) أي: القافلة التي كنا فيها. (وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) فيما أخبرناك به، وإنما عمل يوسف ذلك بأمر الله سبحانه وتعالى، أمره بذلك، ليزيد في بلاء يعقوب، فيضاعف له الأجر.
{قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) )}
قوله: (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا)، أي زيَّنت لكم أنفسكم الأمارة بالسوء مكيدة دبرتموها كما فعلتم من قبل مع يوسف. (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ )لا جزع فيه ولا شكوى معه،(عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا) يعني: يوسف، وبنيامين، وأخاهما الكبير روبيل المقيم بمصر ينتظر أمر الله فيه. (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) بحزني ووجدي على فقدهم، (الْحَكِيمُ) في تدبير خلقه.
{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84}
قوله تعالى: (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ) وذلك أن يعقوب عليه السلام لما بلغه خبر بنيامين تتامَّ حزنه وبلغ جهده، وتهيج حزنه على يوسف فأعرض عن بنيه، (وَقَالَ يَا أَسَفَى) يا حزناه، (عَلَى يُوسُفَ) والأسفُ أشدُّ الحزن، (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ) عمي بصره. (فَهُوَ كَظِيمٌ) أي: مكظوم مملوء من الحزن ممسك عليه لا يبثه.
{قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ( 85 ) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (86)} .
قوله:(قَالُوا) يعني: أولاد يعقوب، (تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُف) أي: لا تزال تذكر يوسف، لا تفتر من حبه (حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا). تشرف على الهلاك ( أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ) أو تهلك فعلًا. (قَالَ) يعقوب عليه السلام عند ذلك لما رأى غِلظتهم ( إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ ) البثّ: ما أبداه الإنسان وأظهره، والحزن: ما أخفاه بنفسه، لأنّ الحزن يستقر في القلب. (وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) يعني: أعلم من حياة يوسف ما لا تعلمون.
{يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)}
قوله عز وجل: (يابنيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) استقصوا أخبار يوسف وأخيه بنيامين ،(وَلا تَيْأَسُوا) ولا تقنطوا (مِنْ رَوْحِ اللَّهِ) أي: من رحمة الله، (إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) . الجاحدون لقدرته الكافرون به
{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)}
قوله: (فلما دخلوا عليه) وفيه إضمار تقديره : فخرجوا راجعين إلى مصر حتى وصلوا إليها فدخلوا على يوسف عليه السلام . (قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر ) أي : الشدة وقلة الطعام (وجئنا ببضاعة مزجاة) أي: قليلة رديئة كاسدة ، لا تنفق في ثمن الطعام إلا بتجوز من البائع فيها.( فأوف لنا الكيل ) أي: أعطنا ما كنت تعطينا قبل بالثمن الجيد الوافي .(وتصدق علينا) أي: تفضل علينا بما بين الثمنين الجيد والرديء ولا تنقصنا.(إن الله يجزي) يثيب (المتصدقين) . ولم يقولوا إن الله يجزيك؛ لأنهم لم يعلموا أنه مؤمن .
{قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ (89)}
قوله:( قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون ) قال لهم يوسف - عليه السلام - على سبيل التعريض بهم ، والتذكير بأخطائهم: هل علمتم ما فعلتموه بيوسف وأخيه من أذىً وعدوان عليهما ، وقتَ أن كنتم تجهلون سوء عاقبة هذا الأذى والعدوان. وقوله (وأخيه) أي بنيامين فقد وقع عليه الأذى بأمرين: المعاملة السيئة التي تنافي الأخوة، والتفريق بينه وبين يوسف أخيه الشقيق.
{ قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ ۖ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَٰذَا أَخِي ۖ قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ۖ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)}
قوله: (قالوا أئنك لأنت يوسف) أي تعجبوا من ذلك؛ أنهم يترددون إليه من أكثر من عامين، وهم لا يعرفونه، ومع هذا يعرفهم، ويكتم نفسه؛ فلهذا قالوا على سبيل الاستفهام: (أئنك لأنت يوسف).
(قال : أنا يوسف وهذا أخي ) بنيامين (قد من الله علينا) أنعم علينا بأن جمع بيننا. (إنه من يتق ) بأداء الفرائض واجتناب المعاصي (ويصبر) عما حرم الله عز وجل عليه . (فإن الله لا يضيع أجر المحسنين). لا يضيع أجر من أحسن عملا ، وتلك سنته - سبحانه - التى لا تتخلف.
{قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91)}
قوله:(قالوا) معتذرين (تالله لقد آثرك الله علينا) أي : اختارك الله وفضلك علينا (وإن كنا لخاطئين ) أي: وما كنا في صنيعنا بك إلا مخطئين مذنبين.
{قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ۖ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)}
قوله:(قال) يوسف وكان حليما (لا تثريب عليكم اليوم) أي: لا لوم ولا تأنيب ولا تعيير عليكم اليوم ، فقد عفوت عما صدر منكم فى حقى وفى حق أخى من أخطاء وآثام. (يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) وأرجو الله - تعالى - أن يغفر لكم ما فرط منكم من ذنوب وهو - سبحانه - أرحم الراحمين بعباده . .
فلما عرفهم يوسف نفسه سألهم عن أبيه ، فقال : ما فعل أبي بعدي قالوا : ذهبت عيناه فأعطاهم قميصه ، وقال :
{اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)}
قوله:( اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا ) أي : يعد مبصرا، وكان قد عمي من كثرة البكاء ( وأتوني بأهلكم أجمعين ) : أي بني يعقوب.
{وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ۖ لَوْلَا أَن تُفَنِّدُونِ (94)}
قوله:(ولما فصلت العير) أي خرجت من عريش مصر متوجهة إلى كنعان بأرض فلسطين ( قال أبوهم ) أي : قال يعقوب لمن حضره (إني لأجد ريح يوسف) . إني لأشم رائحة يوسف .( لولا أن تفندون ) تسفهوني.
{قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95)}
قوله:(قالوا) يعني: من حضره (تالله إنك لفي ضلالك القديم) أي: خطئك القديم من ذكر يوسف لا تنساه، والضلال هو الذهاب عن طريق الصواب، فإن عندهم أن يوسف قد مات ويرون يعقوب قد لهج بذكره.
{فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا ۖ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96)}
قوله:(فلما أن جاء البشير) البشير: هو من بَشَّر يعقوبَ أن يوسف عليه السلام حيٌّ وهو يهوذا.
(ألقاه على وجهه) طرح يهوذا قميص يوسف على وجه أبيه يعقوب. (فارتد بصيرا) فعاد بصيرا بعدما كان عمي وعادت إليه قوتُه بعد الضعف ، وسرورُه بعد الحزن .
( قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون) من رحمته وفضله وإحسانه .
{قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97)}
قوله:(قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين) فيما فعلناه بيوسف، قالوا ذلك مستعطفين لأبيهم.
{قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ۖ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)}
قوله:(قال سوف أستغفر لكم ربي) . قال يعقوب: سوف أسأل ربي أن يعفو عنكم ذنوبكم التي أذنبتموها.
{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99)}
قوله تعالى : ( فلما دخلوا على يوسف آوى إليه ) أي : ضم إليه ( أبويه ).
(وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين) أي : بمشيئة الله آمنين مما كنتم فيه من الجَهد والقحط.
{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)}
قوله: ( ورفع أبويه على العرش) أي: على سرير ملكه أجلسهما . والرفع : هو النقل إلى العلو .( وخروا له سجدا ) يعني : يعقوب وإخوته وأمه.
وكانت تحية الناس يومئذ السجود، وكان ذلك على طريق التحية والتعظيم ، لا على طريق العبادة . وكان ذلك جائزا في الأمم السالفة فنسخ في هذه الشريعة .
(وقال) يوسف عند ذلك: (يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا) أي : صحيحة ، صدقًا، وذلك لمَّا قال: { إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين } .
(وقد أحسن بي) أي : أنعم علي ربي (إذ أخرجني من السجن)، وقد تفضل عليَّ حين أخرجني من السجن، ورفع مكانتي .
( وجاء بكم من البدو) البدو بسيط من الأرض يسكنه أهل المواشي بماشيتهم ، وكانوا أهل بادية ومواشٍ ، يقال: بدا يبدو إذا صار إلى البادية.وكانوا يسكنون بالعريات من أرض فلسطين من غور الشام (من بعد أن نزغ الشيطان) أفسد الشيطان رابطة الأخوة ( بيني وبين إخوتي ) بالحسد .
(إن ربي لطيف لما يشاء) أي: ذو لطف، يوصل الإحسان إلى غيره . (إنه هو العليم الحكيم) .العليم بمصالح عباده الحكيم في أقواله وأفعاله.
قال أهل التاريخ : أقام يعقوب بمصر عند يوسف أربعا وعشرين سنة في أغبط حال وأهنإ عيش ، ثم مات بمصر فلما حضرته الوفاة أوصى إلى ابنه يوسف أن يحمل. جسده حتى يدفنه عند أبيه إسحاق ، ففعل يوسف ذلك ، ومضى به حتى دفنه بالشام ، ثم انصرف إلى مصر
{۞ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)}
قوله:(رب قد آتيتني من الملك) يعني: ملك مصر والملك: اتساع المقدور لمن له السياسة والتدبير. (وعلمتني من تأويل الأحاديث) يعني: تعبير الرؤيا، وغير ذلك من العلم (فاطر) أي: يا فاطر (فاطر السماوات والأرض) أي: خالقهما (أنت وليي) أي: معيني ومتولي أمري (في الدنيا والآخرة توفني مسلما) يقول: اقبضني إليك مسلما (وألحقني بالصالحين) من الأنبياء الأبرار، والأصفياء الأخيار ..
{ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۖ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)}
قوله: (ذلك)أي: المذكور من قصة يوسف (مِنْ أَنْبَآءِ الغيب) أى : من الأخبار الغيبية التى لا يعلمها علماً تاما شاملاً إلا الله - تعالى - وحده، ونحن (نُوحِيهِ إِلَيْك) ونعلمك به لما فيه من العبر والعظات( وما كنت لديهم ) أي: ما كنت يا محمد عند أولاد يعقوب (إذ أجمعوا أمرهم) أي: عزموا على إلقاء يوسف في الجب (وهم يمكرون ) بيوسف.
{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)}
قوله:(وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) وما أكثر المشركين من قومك أيها الرسول بمصدقيك ولا متبعيك ولو حرصت على إيمانهم، فلا تحزن على ذلك.
{وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (104)}
قوله:(وما تسألهم عليه من أجر) أي : على تبليغ الرسالة والدعاء إلى الله تعالى ( من أجر ) جعل وجزاء ( إن هو ) ما هو يعني القرآن ( إلا ذكر للعالمين) عظة وتذكير .
{وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)}
قوله:( وكأين من آية في السماوات والأرض) كم من العبر والعظات ( يمرون عليها) يشاهدونها، ( وهم عنها معرضون ) لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها.
{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ (106)}
قوله: ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) فكان من إيمانهم إذا سئلوا : من خلق السماوات والأرض ؟ قالوا : الله ، وإذا قيل لهم : من ينزل القطر ؟ قالوا : الله ، ثم مع ذلك يعبدون الأصنام ويشركون .
{أَفَأَمِنُوا أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)}
قوله:(أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله) أي: عقوبة مجللة. (أو تأتيهم الساعة بغتة ) فجأة (وهم لا يشعرون) لا يحسون بذلك.
{قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)}.
قوله (قل) يا محمد (هذه) الدعوة التي أدعو إليها والطريقة التي أنا عليها ( سبيلي ) سنتي ومنهاجي . ( أدعو إلى الله على بصيرة ) على يقين . والبصيرة : هي المعرفة التي تميز بها بين الحق والباطل ( أنا ومن اتبعني ) أي: ومن آمن بي وصدقني أيضا يدعو إلى الله .
قوله تعالى:(وسبحان الله) وأنزه الله ، وأجله وأعظمه وأقدسه عن أن يكون له شريك .(وما أنا من المشركين ).وأنا بريءٌ من أهل الشرك به ، لست منهم ولا هم منّي.
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ ۗ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۗ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)}
قوله: (وما أرسلنا من قبلك) يا محمد (إلا رجالا)لا نساءً، ( نوحي إليهم )ننزل عليهم وحينا (من أهل القرى) يعني : من أهل الأمصار دون البوادي، لأن أهل الأمصار أصفى عقولاً وأكثر حلما ؛ لذا لم يبعث الله نبيا من البدو .(أفلم يسيروا في الأرض) يعني: هؤلاء المشركين المكذبين (فينظروا كيف كان عاقبة ) آخر أمر ( الذين من قبلهم ) يعني : الأمم المكذبة فيعتبروا . ( ولدار الآخرة خير للذين اتقوا ) يقول جل ذكره: هذا فعلنا بأهل ولايتنا وطاعتنا أن ننجيهم عند نزول العذاب ، وما في الدار الآخرة خير لهم . (أفلا تعقلون) أفلا تتفكرون فتعتبروا.
{حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)}
قوله:( حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا ) لما أيست الرسل أن يستجيب لهم قومهم ، وظن قومهم أن الرسل قد كذبوهم جاءهم النصر على ذلك . ( فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ۖ) أي: فننجي من نشاء من الرسل وأتباعهم. (وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) ولا يرد عذابنا عمن أجرم وتجرأ على الله.
{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)}
قوله:( لقد كان في قصصهم ) أي :لقد كان في خبر المرسلين مع قومهم ، وكيف أنجينا المؤمنين وأهلكنا الكافرين (عبرة لأولي الألباب) عظة لأهل العقول السليمة (ما كان) يعني: القرآن ( حديثا يفترى ) أي : يختلق (ولكن تصديق الذي) أي : ولكن كان تصديق الذي (بين يديه) من التوراة والإنجيل (وتفصيل كل شيء) مما يحتاج العباد إليه من الحلال والحرام والأمر والنهي ( وهدى ورحمة ) بيانا ونعمة (لقوم يؤمنون) لأهل الإيمان تهتدي به قلوبهم من الغي إلى الرشد.
تم بحمد الله الانتهاء من تفسير سورة يوسف.