الدرس 119 الجزء الثالث ‌‌القول بإباحة تحديد النسل مخالف للشريعة والفطرة ومصالح الأمة

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الأحد 13 شوال 1445هـ | عدد الزيارات: 40 القسم: تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه
أما بعد:
فقد نشرت بعض الصحف المحلية منذ أمد قريب خبرا مفاده أن فضيلة المفتي العام في الأردن قد أفتى بإباحة تحديد النسل وأن الحكومة إذا قررته لزم العمل به، واشتهر هذا الخبر بين الناس وصار حديث المجالس لاستغرابه واستنكار المسلمين له، ومن أجل ذلك كثر السؤال عن حكم هذه المسألة وهل هذه الفتوى صواب أم خطأ فرأيت أن من الواجب على أمثالي بيان ما يدل عليه شرع الله عز وجل في هذه المسألة فأقول: اعلم أيها القارئ وفقني الله وإياك لإصابة الحق أني اطلعت على الفتوى المذكورة وتأملت ما اعتمد عليه فضيلة المفتي العام في الأردن في إصداره هذه الفتوى المشتملة على القول بإباحة تحديد النسل، .. فألفيته قد ركز فتواه على قوله عز وجل: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (النور الآية 33) وعلى قول النبي صلى الله عليه وسلم «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء » (صحيح البخاري النكاح (5066) ، صحيح مسلم النكاح (1400)) ، وعلى الأحاديث الدالة على إباحة العزل، هذه أدلة المفتي التي اعتمد عليها في هذه الفتوى العظيمة.
وكل من تأمل ما اعتمده المفتي في هذه الفتوى من ذوي العلم والبصيرة يعلم أنه أبعد النجعة وخالف الصواب ورمى في غير مرمى .
أما الآية الكريمة فقد ذكرها الله سبحانه بعد قوله عز وجل {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (النور 32) ثم قال تعالى {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (النور 32) فأمر الله تعالى بالنكاح ورغب فيه ووعد المتزوج بالغنى إن كان فقيرا ترغيبا له في النكاح وتشجيعا له على الإقدام عليه واثقا بالله معتمدا على فضله وسعة جوده وعلمه بأحوال عباده ثم أمر من لا حيلة له في النكاح أن يستعفف حتى يغنيه الله من فضله، فأي حجة في هذه الآية على قطع النسل أو تحديده
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير هاتين الآيتين ما نصه (هذا أمر بالتزويج وقد ذهب طائفة من العلماء إلى وجوبه على كل من قدر واحتجوا بظاهر قوله عليه الصلاة والسلام «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء » أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن مسعود ...) وقد جاء في السنن من غير وجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح يريد العفاف والمكاتب يريد الأداء والغازي في سبيل الله » رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه. (قلت: الحديث حسنه الألباني في غاية المرام).

وبما ذكرناه آنفا وما نقلناه عن الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير الآيتين يتضح للقراء حقيقة معناهما وأنهما يدلان على شرعية النكاح والحث عليه لما فيه من المصالح العظيمة التي منها قضاء الوطر وعفة الفرج وغض البصر وتكثير النسل أما الاستدلال بهما على جواز قطع الحمل وتحديد النسل ففي غاية من الغرابة والبعد عن الصواب.
وأما حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء (قلت : جاء الحديث في صحيح البخاري النكاح (5066) ، صحيح مسلم النكاح (1400)) » فهو دال على ما دلت عليه الآيتان من الحث على النكاح والترغيب فيه وبيان بعض حكمه وأسراره، ودال أيضا على أن من عجز عن النكاح يشرع له الاشتغال بالصوم؛ لأنه يضعف الشهوة ويضيق مجاري الشيطان، فهو من أسباب العفة وغض البصر وليس فيه حجة بوجه ما على إباحة قطع الحمل أو تحديد النسل وإنما فيه تأخير عند العجز إلى زمن القدرة وشرعية تعاطي أسباب العفة حتى لا يقع في الحرام

ومن تأمل ما ذكرناه، وما نقلناه عن أهل العلم يعلم أن القول بإباحة تحديد النسل قول مخالف للشريعة الكاملة التي جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها ومخالف للفطرة السليمة فإن الله سبحانه فطر العباد علي محبة الأولاد وبذل الأسباب في تكثير النسل وقد امتن الله بذلك في كتابه وجعله من زينة الدنيا.
فقال تعالى {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} (النحل 72) وقال تعالى {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الكهف 46) ومن تأمل المقام أيضا عرف أن القول بتحديد النسل مخالف لمصالح الأمة فإن كثرة النسل من أسباب قوة الأمة وعزتها ومنعتها وهيبتها وتحديد النسل بضد ذلك يفضي إلي قلتها وضعفها بل إلى فنائها وانقراضها، وهذا واضح لجميع العقلاء لا يحتاج إلى تدليل وأما تخوف المفتي من كثرة السكان وقول الخبراء إن ذلك ينذر بالويل والثبور فهذا شيء لا ينبغي للعاقل، فضلا عن العالم أن يلتفت إليه بأن يعلق به أحكاما تخالف الشريعة وعلم الغيب إلى الله سبحانه هو خالق العباد ورازقهم وهو القائل في كتابه الكريم: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات 56) {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} (الذاريات 57) {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (الذاريات 58) وأما قول المفتي في آخر الفتوى (وإذا قررت الدولة ذلك يكون العمل به لازما؛ لأن من المتفق عليه أن ولي الأمر إذا أخذ بقول ضعيف يكون حتما) فهذا القول في غاية السقوط بل هو ظاهر البطلان لأن الحكومة إنما تطاع في المعروف لا فيما يضر الأمة ويخالف الشرع المطهر والقول لتحديد النسل مخالف للشرع ومصلحة الأمة فكيف تلزم طاعتها فيه قال الله عز وجل في حق نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} (الممتحنة 12) وهو صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بالمعروف ولكن الله عز وجل أراد إعلام الأمة وإرشادها إلى أن طاعة ولاة الأمور، إنما تكون في المعروف وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما الطاعة في المعروف » (قلت جاء الحديث في صحيح البخاري الأحكام (7145) ، صحيح مسلم الإمارة (1840))

ونسأل الله أن يوفقنا وسائر المسلمين لما فيه رضاه وأن يمن على الجميع بالفقه في دينه والثبات عليه، وأن يعيذ الجميع من مضلات الفتن ونزغات الشيطان إنه على كل شيء قدير وصلى وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه

١٢ شوال ١٤٤٥ هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

7 + 7 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 132 الجزء الثالث : شروط قبول الدعاء - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 131 الجزء الثالث ‌‌وجوب النهي عن المنكر على الجميع - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر