1 الهجرة

الخطب
التصنيف : تاريخ النشر: السبت 20 شهر رمضان 1434هـ | عدد الزيارات: 2226 القسم: خطب الجمعة

الحمد لله كتب النصر والتأييد لعباده المخلصين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأشهد أن سيدنا محمداً رسول الله أوذي في سبيل الله وهو بمكة فصبر وأمره الله بالهجرة إلى المدينة فهاجر وكافح في سبيل تمكين العقيدة ونشر دعوة الإسلام، اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه.

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون؛

في تاريخ الأمم أحداث تطرأ عليها ويكون لها أثر بالغ في تطور حياتها وبقدر ما يكون لهذه الأحداث من أثر يكون شأنها وخطرها والمجتمعات لا يمكن أن تعيش في ضعف أبدا ولا يمكن أن تحيا مغلوبة على أمرها دائماً فالضعف ليس من صفات الإنسان الكامل والذلة يأنف منها الرجل الفاضل ولأن الإسلام لا يرضى لأبنائه حياة الضعف والهوان فهو ينعى عليهم الإخلاد إلى الأرض والتعلق بها والرضا بالواقع والاستسلام للظلم والأذى لذلك نرى القرآن الكريم يسجل بسوء العاقبة على من يرضون بالحياة الذليلة فيقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَٰئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ } [النساء:97- 100]

وإن من الأحداث التي أثرت في مسار الدعوة الإسلامية وغيرت من وجه التاريخ هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة فلقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث عشرة سنة يدعو إلى الله على بصيرة ويهدي الناس إلى الحق في تؤدة ومهل ويمحو آثار الجاهلية الطامة وما خلفته في العقول من خرافة وما تركته في القلوب من زيغ وهوى وفي الأعمال من رجس وفساد وظل هذا النبي الكريم يفك أغلال القرون الأولى ويعلي قدر الإنسان والإنسانية لا يعلوا قدرها بمظاهر فارغة ولا دعاوى تدعى بدون مضمون إنما يعلو قدر الإنسان إذا صفت نفسه واستنار طريقه وعمل لربه كما يعمل لنفسه وسعى لدينه كما يسعى إلى دنياه وتلك هي أهداف الإسلام التي يعمل من أجل تحقيقها وتوجيه الناس إليها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلفاً مألوفاً سهلاً واضحاً إلا أن خصوم الإسلام لجئوا إلى وسائل رخيصة في النيل من الدعوة وصاحبها لجَئُوا أولاً إلى التشويش على القرآن الكريم وإثارة الشغب في مجالس قراءته، {وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَا تَسْمَعُواْ لِهَٰذَا ٱلْقُرْءَانِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [فصلت 26]، ثم لجئوا إلى السخرية والاستهزاء من المسلمين {إنَّ الَّذِينَ أجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ(29) وإذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30)} [المطففين 29- 30]

ويتنوع الأذى على صحابة رسول الله وهم صابرون محتسبون حتى ارتفعت صرخاتهم إلى السماء { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا } [النساء:75]. وكانت خاتمة الصراع بين جبابرة الوثنية وبين الحنيفية السمحة أن يدبروا مؤامرة لاغتيال محمد واجتمعوا في ليلة حالكة لانفاذ الفكرة الغادرة فترصدوا له بسيوفهم الآثمة فيا ألله ! ما أجرَمَ القومَ! وما أهولَ الموقفَ !

لقد كان قلب الدهر خافقاً وعينُ الزمان ساهرةً ولو تم للمشركين ما أرادوه تلك الليلة لقضي على هذه الدعوة وهي ما تزال في أول خطواتها، ولانْطَفَأَ ذلك النورُ الذي انبثق ليبدد ظلامَ العالم، ولينشر الهدى والأمن والسلام لكن الله غالب على أمره وأين مكر القوم من رقابة الله، {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] علم الرسول بما بيته القوم المشركون فخرج ومعه صاحبه أبو بكر الصديق إلى غار في الجبل بأسفل مكة فدخلاه وبقيا به ثلاث ليال وقريش قد اسقط في يدها إذ لم تنجح حيلتها ولم تصل إلى ما تريد فجعلت مائة ناقة لمن يظفر بمحمد وصاحبه وكانت الفتاة الصغيرة أسماء بنت أبي بكر تروح عليهما كل مساء في خفاء تقطع في جوف الليل الطريق الشاق تحمل إليهما الزاد والماء وبلغ من شجاعة الفتاة أن يقابلها أبو جهل الأحمق فسألها ما شأن أبيها وأين هو فتتجاهل الأمر فيلطمها الأثيم على وجهها لطمة يطير لها قرطها من أذنها وهي مع هذا لا تبوح بمكنون سرها انطلق المشركون في كل مكان في الصحراء يبحثون عن محمد وصاحبه وعند الغار تنتهي آثار السير فأحدقوا به من كل جانب ويسمع أبو بكر رضي الله عنه وقع أقدامهم فيضطرب قلبه ويهمس في أذن الرسول صلى الله عليه وسلم إن قتلت أنا فإنما أنا رجل واحد وإن قتلت أنت هلكت الأمة إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم يبقى ثابت الجنان واثقاً بنصر الله وتأييده معلقاً قلبه ببارئه وخالقه ويقول لصاحبه "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟ لا تحزن إن الله معنا "رواه البخاري وفي ذلك يقول القرآن الكريم { إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِىَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٍۢ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِىَ ٱلْعُلْيَا ۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [التوبة:40] ورد الله الذين كفروا يغيظهم لم ينالوا خيراً فحيل بينهم وبين ما كانوا يريدون وارتدوا على أعقابهم خائبين ووصل الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه إلى المدينة في حفظ الله ورعايته ويستقبله أهلها أكرم استقبال ويجد فيها قلوباً تفتحت لدعوة الحق فآزرتها وأيدتها وتكونت الدولة المؤمنة المجاهدة والأمة المتحابة المؤتلفة التي لا تعرف عصيبة لجنس أو لقبيلة فالجميع قد انصهر في بوتقة واحدة وأصبحوا جسماً واحداً وبناء متراصاً متحداً يعمل كل فرد فيه لخير هذا المجتمع ولإعزاز هذا الدين وأحب أهل المدينة إخوانهم المهاجرين وآثروهم على أنفسهم وزكى القرآن الكريم صنيعهم حيث قال تعالى: {وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلْإِيمَٰنَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ}[الحشر:9]

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروا إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

عباد الله؛ إذا أمعنا النظر قليلاً في حادث الهجرة وسألنا أنفسنا هل كانت هذه الهجرة فراراً من الموت أو طلباً للنجاة ؟ كانت الإجابة : كلا بل إنها كانت انتقالاً بالعقيدة من وطن كثر فيه الباغي وقل فيه الناصر إلى وطن آخر يستطيع المؤمنون أن يجدوا فيه تربة طيبة يغرسوا فيها شجرة التوحيد.

لم تكن الهجرة فراراً بل كانت انتصاراً؛ لأنها كانت انتقالاً بالدعوة إلى آفاق واسعة وإلى مجال تستطيع فيه أن تنموا وتنتشر وأن تبث هدايتها إلى الناس في مشارق الأرض ومغاربها حتى تعلو كلمةُ الله، تسود رايتُه وينتصر جنده كما قال تعالى: { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ* وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ*} [171-173]

عباد الله: إن سلفكم الصالح حينما أرادوا أن يجعلوا لأمتهم تاريخاً استعرضوا أعظم ذكرياتهم حادثةً حادثةًن فلم يجدوا إلا الهجرة بدءاً للتاريخ ومفتتحاً لكل عام جديد كانوا يستطيعون أن يؤرخوا بميلاد النبي أو بيوم بعثته إلى الناس كافة ولكنهم ادركوا فقه الإسلام حينما جعلوا الهجرة بداية تاريخهم الحافل بأمجد الذكريات فهي لا تكرم بوصفها سفراً من بلد إلى بلد فالموظف يسافر أكثر من هذه المسافة والتاجر يقطع أضعافها سعياً وراء الربح قد يكون جزيلاً أو قليلاً وإنما كرمت الهجرة لأن المسلمين أرخصوا مصالحهم الخاصة إلى جانب العقيدة فكان هذا معناه أن الفرد لا يعيش لنفسه فحسب بل عليه أن يحيا لأمته ولدينه وأن يكافح لتثبت ما تقدسه الأمة من قضاء ومن يحث عليه الدين من عزة وحرية وكرامة وهذا معنى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة:218] وإن ذكريات الهجرة تفد علينا وداخل إطارها صور للشرف العالي والتضحية الكريمة تعرض علينا نماذج رفيعة للأمانة والوفاء والشجاعة والإصرار على مرضاة الله مهما يجد الإنسان من مشاق تفد علينا لتعلمنا أن الأمم بحاجة إلى أن ترخص مالها وروحها في سبيل عقيدتها.

أيها الناس إن أول عمل قام به الرسول صلى الله عليه وسلم حين وصوله المدينة هو بناء المسجد وهذا يدل على أهمية المساجد في الإسلام

هذا وصلوا على نبيكم كما أمركم الله بذلك في محكم كتابه بقوله:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] وقال عليه الصلاة والسلام "مَنْ صلَّى عليَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشْرًا " (صحيح مسلم )، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين وانصر عبادك الموحدين وأعل بفضلك كلمة الحق والدين وانصرالمظلومين في كل مكان وانصر من نصرهم واخذل من خذلهم، وعاد من عاداهم، ووال من والاهم، واجمع شمل المسلمين على كلمة التوحيد، وأوقف نزيف دمائهم، اللهم كن لإخواننا المستضعفين في كل مكان، اللهم من أرادهم بسوء فاجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميراً له، اللهم ولِّ على المسلمين خيارَهم، واكفف عنهم شرارهم، اللهم اغفر ذنب المذنبين، واقبل توبة التائبين، واغفر اللهم لنا ولوالدينا ووالدي والدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين.

عباد الله: اذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45]

1434/9/18 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

6 + 8 =

/500
جديد الخطب الكتابية