تفسير سورة البلد

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: السبت 1 جمادى الآخرة 1436هـ | عدد الزيارات: 2150 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد

سورة البلد مكية وآياتها 20

بسم الله الرحمن الرحيم

لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ * وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ * أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ * يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا * أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ * أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ * فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ

قال تعالى "لا أقسم بهذا البلد" اللام للتأكيد، لا للنفي ، فيقسم تعالى بِهَذَا الْبَلَدِ الأمين، الذي هو مكة المكرمة، أفضل البلدان على الإطلاق، خصوصًا وقت حلول الرسول صلى الله عليه وسلم فيها "وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ" حل بمعنى حال تقول حل العقدة يحلها بالضم وتقول حل بالمكان يحل بالكسر إذا أقام فيه والإحلال دون الإحرام فهو من الإحلال ضد الإحرام فيكون تأكيداً لشرف مكة إذ هي أولاً فيها بيت الله وهو شرف عظيم ثم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم حال فيها، "وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ" أي آدم وذريته، فأقسم الله بأصول الموجودات وفروعها .

والمقسم عليه قوله "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ" المراد بذلك ما يكابده ويقاسيه من الشدائد في الدنيا، وفي البرزخ، ويوم يقوم الأشهاد، وأنه ينبغي له أن يسعى في عمل يريحه من هذه الشدائد، ويوجب له الفرح والسرور الدائم، "أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ" فيطغى ويفتخر بما أنفق من الأموال على شهوات نفسه .

فـ "يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا" أي كثيًرا، بعضه فوق بعض
وسمى الله تعالى الإنفاق في الشهوات والمعاصي إهلاكًا، لأنه لا ينتفع المنفق بما أنفق، ولا يعود عليه من إنفاقه إلا الندم والخسارة والتعب والقلة، لا كمن أنفق في مرضاة الله في سبيل الخير، فإن هذا قد تاجر مع الله، وربح أضعاف أضعاف ما أنفق .

قال الله متوعدًا هذا الذي يفتخر بما أنفق في الشهوات أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ أي أيحسب في فعله هذا، أن الله لا يراه ويحاسبه على الصغير والكبير ؟
بل قد رآه الله، وحفظ عليه أعماله، ووكل به الكرام الكاتبين، لكل ما عمله من خير وشر، ثم قرره بنعمه، فقال "أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ" للجمال والبصر والنطق، وغير ذلك من المنافع الضرورية فيها، فهذه نعم الدنيا .

ثم قال في نعم الدين "وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْن" النجد الطريق أي طريقي الخير والشر، بينا له الهدى من الضلال، والرشد من الغي .
فهذه المنن الجزيلة، تقتضي من العبد أن يقوم بحقوق الله، ويشكر الله على نعمه، وأن لا يستعين بها على معاصيه ، ولكن هذا الإنسان لم يفعل ذلك .

فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ : أي لم يقتحمها ويعبر عليها، لأنه متبع لشهواته

وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ

وهذه العقبة شديدة عليه، ثم فسر هذه العقبة: فَكُّ رَقَبَةٍ أي فكها من الرق، بعتقها أو مساعدتها على أداء كتابتها، ومن باب أولى فكاك الأسير المسلم عند الكفار، "أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ" أي مجاعة شديدة، بأن يطعم وقت الحاجة أشد الناس حاجة، والساغب الجائع قاله القرطبي وأنشد أبو عبيدة :

فلو كنت جاراً يا بني قيس لعاصم *** لما بت شبعاناً وجارك ساغباً

قوله "يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ" أي جامعًا بين كونه يتيمًا وفقيرًا ذا قرابة

واليتم من حرم من أبيه قبل سن البلوغ، ويتيم الحيوان من فقد الأم وفي الطيور من فقد الأبوين

و"ذا مقربة" أي قرابة وخص به لأن الإطعام في حقه أفضل وأولى من غيره وفي الحديث " الصَّدقةَ على المسكين صَدقةٌ، وعلى ذي القرابة اثنتان: صَدَقة وصِلة" رواه ابن ماجه وصححه الألباني وفي الأحاديث عن الإحسان إلى اليتيم متضافرة ففي صحيح البخاري عن سهل بن سعد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئا "أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ" أي قد لزق بالتراب من الحاجة والضرورة.

والفرق بين الفقير والمسكين أن الفقير أشد حاجة ، ولقوله صلى الله عليه وسلم " اللهم إني أعوذ بك من الفقر" رواه النسائي وصححه الألباني ، " ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا " هذا قيد في إقتحام العقبة بتلك الأعمال، أي آمنوا بقلوبهم بما يجب الإيمان به، وعملوا الصالحات بجوارحهم من كل قول وفعل واجب أو مستحب، "وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ" والصبر ينقسم إلى ثلاثة أقسام الصبر على طاعة الله والصبر عن معصيته، والصبر على أقداره المؤلمة بأن يحث بعضهم بعضًا على الانقياد لذلك، والإتيان به كاملًا منشرحًا به الصدر، مطمئنة به النفس .
وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ للخلق، من إعطاء محتاجهم، وتعليم جاهلهم، والقيام بما يحتاجون إليه من جميع الوجوه، ومساعدتهم على المصالح الدينية والدنيوية، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه .

أولئك الذين قاموا بهذه الأوصاف، الذين وفقهم الله لاقتحام هذه العقبة أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ لأنهم أدوا ما أمر الله به من حقوقه وحقوق عباده، وتركوا ما نهوا عنه، وهذا عنوان السعادة وعلامتها .

وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا بأن نبذوا هذه الأمور وراء ظهورهم، فلم يصدقوا بالله، ولا آمنوا به، ولا عملوا صالحًا، ولا رحموا عباد الله، والذين كفروا بآياتنا همْ أَصْحَابُ الْمَشْئَمَة ، هم الذين يؤخذ بهم يوم القيامة ذاتَ الشمال على النار.

عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ أي مغلقة عليهم .

تم تفسير سورة البلد ولله الحمد والمنة

1 - 6 - 1436هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

8 + 3 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 124 الجزء الثالث ‌‌أهمية الغطاء على وجه المرأة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر