تفسير سورة الفجر

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الثلاثاء 4 جمادى الآخرة 1436هـ | عدد الزيارات: 2180 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد

سورة الفجر مكية وآياتها 30 آية

بسم الله الرحمن الرحيم

وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ * أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ * فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا ۖ بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا * كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ۚ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ * يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي "

قوله :"وَالْفَجْرِ"

أقسم تعالى بالفجر، الذي هو آخر الليل ومقدمة النهار، لما في إدبار الليل وإقبال النهار، من الآيات الدالة على كمال قدرة الله تعالى، وأنه وحده المدبر لجميع الأمور، الذي لا تنبغي العبادة إلا له ، ويقع في الفجر صلاة فاضلة معظمة، يحسن أن يقسم الله بها ، فأقسم بعده بالليالي العشر، وهي العشر الأول من ذي الحجة .

وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ: وكل شفع وفرد

وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ أي: وقت سريانه وإرخائه ظلامه على العباد، فيسكنون ويستريحون ويطمئنون، رحمة منه تعالى وحكمة .

هَلْ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ

من أعظم ما أقسم الله به قوله تعالى "هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ" أي عقل والحجر كل مادته تدور على الإحكام والقوة فالحجر لقوته والحجرة لإحكام ما فيها والعقل سمي حجراً بكسر الحاء لأنه يحجر صاحبه عما لا يليق والمحجور عليه لمنعه من تصرفه وإحكام أمره .

هَلْ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ أي: لذي عقل ؟

الجواب : نعم لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ

المراد بعاد أولاد عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام قوم هود عليه السلام سموا باسم أبيهم كما سمي بني هاشم هاشماً .

يقول تعالى: أَلَمْ تَرَ بقلبك وبصيرتك كيف فعل بهذه الأمم الطاغية

إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ

إِرَمَ القبيلة المعروفة في اليمن ذَاتِ الْعِمَادِ أي: القوة الشديدة، والعتو والتجبر

الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ

الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا أي: مثل عاد فِي الْبِلَادِ أي: في جميع البلدان في القوة والشدة .

وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ، أي: وادي القرى، نحتوا بقوتهم الصخور، فاتخذوها مساكن

فثمود عطف على عاد، وهي قبيلة مشهورة سميت باسم جدهم ثمود أخى جديس وهما ابنا عامر بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام وكانوا عرباً من العاربة يسكنون الحجر بين الحجاز وتبوك وكانوا يعبدون الأصنام كعاد "الذين جابوا الصخر بالواد" أي قطعوا صخر الجبال فاتخذوا فيها بيوتاً نحتوها من الصخر ، "وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ" أي: ذي الجنود الكثيرة الذين ثبتوا ملكه، كما تثبت الأوتاد ما يراد إمساكه بها .

الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ

الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ هذا الوصف عائد إلى عاد وثمود وفرعون ومن تبعهم، فإنهم طغوا في بلاد الله، وآذوا عباد الله، في دينهم ودنياهم، ولهذا قال: فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ وهو العمل بالكفر وسائر أجناس المعاصي، وسعوا في محاربة الرسل وصد الناس عن سبيل الله .

فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ

فلما بلغوا من العتو ما هو موجب لهلاكهم "فصب عليهم" أي أنزل إنزالاً شديداً على كل طائفة من أولئك الطوائف عقب ما فعلته من الطغيان والفساد "سوط عذاب" أي عذاب شديد لا يدرك غايته وهو عبارة عما حل بكل منهم من فنون العذاب التي شرحت في سائر السور الكريمة، والتعبير عن إنزاله بالصب للإيذان بكثرته واستمراره وتتابعه فإنه عبارة عن إراقة شيء مائع أو جار مجراه في السيلان كالرمل والحبوب وإفراغه بشده وكثرة واستمرار ونسبته إلى السوط مع أنه ليس من ذلك القبيل باعتبار تشبيهه في نزوله المتتابع المتدارك على المضروب بقطرات الشي المصبوب، "إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ" لمن عصاه يمهله قليلًا، ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر .

فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ

يخبر تعالى عن طبيعة الإنسان من حيث هو، وأنه جاهل ظالم، لا علم له بالعواقب، يظن الحالة التي تقع فيه تستمر ولا تزول، ويظن أن إكرام الله في الدنيا وإنعامه عليه يدل على كرامته عنده وقربه منه .

وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ

وأنه إذا قدر عَلَيْهِ رِزْقُهُ أي: ضيقه، فصار يقدر قوته لا يفضل منه، أن هذا إهانة من الله له .

كَلَّا ۖ بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ

فرد الله عليه هذا الحسبان: بقوله كَلَّا أي: ليس كل من نعمته في الدنيا فهو كريم علي، ولا كل من قدرت عليه رزقه فهو مهان لدي، وإنما الغنى والفقر، والسعة والضيق، ابتلاء من الله، وامتحان يمتحن به العباد، ليرى من يقوم له بالشكر والصبر، فيثيبه على ذلك الثواب الجزيل، ممن ليس كذلك فينقله إلى العذاب الوبيل .
وأيضًا، فإن وقوف همة العبد عند مراد نفسه فقط، من ضعف الهمة، ولهذا لامهم الله على عدم اهتمامهم بأحوال الخلق المحتاجين، فقال: كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ الذي فقد أباه وكاسبه، واحتاج إلى جبر خاطره والإحسان إليه .
فأنتم لا تكرمونه بل تهينونه، وهذا يدل على عدم الرحمة في قلوبكم، وعدم الرغبة في الخير .

ثم هو انتقال من بيان سوء أقوالهم إلى بيان سوء أفعالهم والالتفات إلى الخطاب للإيذان باقتضاء ملاحظة جنايته السابقة لمشافهته بالتوبيخ تشديداً للتقريع وتأكيداً للتشنيع فلكم أحوال أشد شراً مما ذكر وأدل على تهالككم على المال حيث يكرمك الله تعالى بكثرة المال فلا تؤدون ما يلزمكم فيه من إكرام اليتيم بالمبرة به ومعلوم أن اليتيم من مات أبوه ولم يبلغ، " وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِين " تحاضون بحذف إحدى التائين من تتحاضون أي: لا يحض بعضكم بعضًا على إطعام المحاويج من المساكين والفقراء، وذلك لأجل الشح على الدنيا ومحبتها الشديدة المتمكنة من القلوب .

وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا

وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أي: الميراث وأصله وارث، "أَكْلًا لَمًّا" أي: ذا لماً أي جمع بين الحلال والحرام

وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا أي: كثيرًا شديدًا .

كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا

كَلَّا أي: ليس كلما أحببتم من الأموال، وتنافستم فيه من اللذات، بباق لكم، بل أمامكم يوم عظيم، وهول جسيم، تدك فيه الأرض والجبال وما عليها حتى تجعل قاعًا صفصفًا لا عوجا فيه ولا أمتا .

فمعنى دكا دكا أي متتابعاً وذهب كل ما على وجهها من جبال وأبنية وقصور حين زلزلة وصارت هباءاً منبثاً .

وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا

ويجيء الله تعالى لفصل القضاء بين عباده في ظلل من الغمام، وتجيء الملائكة الكرام، أهل السماوات كلهم، صفًا صفا أي: صفًا بعد صف، كل سماء يجيء ملائكتها صفا، يحيطون بمن دونهم من الخلق، وهذه الصفوف صفوف خضوع وذل للملك الجبار، وهذا المجيء بعد ما يستشفعون إليه بسيد ولد آدم على الإطلاق محمد صلى الله عليه وسلم بعد ما يسألون أولي العزم من الرسول واحداً بعد واحد حتى تنتهي النوبة إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيقول أنا لها أنا لها فيذهب فيشفع عند الله في أن يأتي لفصل القضاء فيشفعه الله في ذلك وهي أول الشفاعات وهي المقام المحمود فيجيء الرب تعالى لفصل القضاء كما يشاء والملائكة يجيؤن بين يديه صفوفاً صفوفاً كما أوضحت ذلك آنفاً

وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ وتجيء الملائكة في ذلك اليوم العظيم بجهنم ، روى الإمام مسلم عن عبد الله "ابن مسعود" قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بجهنم يؤمئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها "
فإذا وقعت هذه الأمور فـ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ ما قدمه من خير وشر
وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى فقد فات أوانها، وذهب زمانها

يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي

يقول متحسرًا على ما فرط في جنب الله: يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي الدائمة الباقية، عملًا صالحًا .
وفي الآية دليل على أن الحياة التي ينبغي السعي في أصلها وكمالها ، وفي تتميم لذاتها، هي الحياة في دار القرار، فإنها دار الخلد والبقاء .

فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ: أي ليس أحد أشد عذاباً من تعذيب الله لمن عصاه .

وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ: وليس أحد أشد قبضاً ووثقاً من الزبانية لمن كفر بربه عز وجل .

يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ .

وأما من اطمأن إلى الله وآمن به وصدق رسله، فيقال له: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ إلى ذكر الله، الساكنة إلى حبه، التي قرت عينها بالله .

ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً

ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ الذي رباك بنعمته، وأسدى عليك من إحسانه ما صرت به من أوليائه وأحبابه رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً أي: راضية عن الله، وعن ما أكرمها به من الثواب، والله قد رضي عنها .

فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي : وهذا تخاطب به الروح يوم القيامة، وتخاطب به حال الموت، كما أن الملائكة يبشرون المؤمن عند احتضاره وعند قيامه من قبره وكذلك ها هنا .

تم تفسير سورة الفجر ولله الحمد والمنة

15 - 6 - 1436هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

4 + 7 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 124 الجزء الثالث ‌‌أهمية الغطاء على وجه المرأة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 123 الجزء الثالث ‌‌حكم قيادة المرأة للسيارة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر