تفسير سورة الأعلى

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الثلاثاء 4 ذو القعدة 1436هـ | عدد الزيارات: 2371 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد

سورة الأعلى مكية وآياتها 19

بسم الله الرحمن الرحيم

سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى* الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ*وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ* وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَىٰ*فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَىٰ* سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰ * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ * وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ * فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَىٰ * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ * وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَىٰ * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ * قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ * إِنَّ هَٰذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ

وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: فلولا صليت بـ "سبح اسم ربك الأعلى"، "والشمس وضحاها"، "والليل إذا يغشى" ، وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يَقْرَأُ في العِيدَيْنِ، وفي الجُمُعَةِ بسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى، وَهلْ أَتَاكَ حَديثُ الغَاشِيَةِ. وإذَا اجْتَمع العِيدُ وَالْجُمُعَةُ، في يَومٍ وَاحِدٍ، يَقْرَأُ بهِما أَيْضًا في الصَّلَاتَيْنِ." رواه مسلم

قوله :سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ، يأمر تعالى بتسبيحه المتضمن لذكره وعبادته، والخضوع لجلاله، والاستكانة لعظمته، وأن يكون تسبيحا، يليق بعظمة الله تعالى، بأن تذكر أسماؤه الحسنى العالية على كل اسم بمعناها الحسن العظيم وقوله "الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ" أي خلق الخليقة وسوى كل مخلوق في أحسن الهيئات

وقوله "وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ" هدى الإنسان للشقاوة والسعادة وهدى الأنعام لمراتعها، أي قدر قدرا وهدى الخلائق إليه كما في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قالَ: وَعَرْشُهُ علَى المَاءِ. "

وقوله "وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَىٰ" أي من جميع صنوف النباتات والزروع ،"فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَىٰ" هشيماً متغيراً ، "سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰ" سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى، أي: سنحفظ ما أوحينا إليك من الكتاب، ونوعيه قلبك، فلا تنسى منه شيئاً، وهذه بشارة كبيرة من الله لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، أن الله سيعلمه علماً لا ينساه ، "إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ" مما اقتضت حكمته أن ينسيكه لمصلحة بالغة، قال قتادة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينسى شيئاً إلا ما شاء الله ، "إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى" أي يعلم ما يجهر به العباد وما يخفونه من أقوالهم وأفعالهم لا يخفى عليه من ذلك شيء ، "وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى" وهذه أيضًا بشارة كبيرة ، أن الله ييسر رسوله صلى الله عليه وسلم لليسرى في جميع أموره فيسهل عليه أفعال الخير وأقواله، ويجعل شرعه ودينه يسرا فيشرع له شرعاً سهلاً وسمحاً مستقيماً معتدلاً لا اعوجاج فيه ولا حرج ولا عسر ، "فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَىٰ" فَذَكِّرْ : بشرع الله وآياته حيث تنفع التذكرة

ومن ها هنا يؤخذ الأدب في نشر العلم فلا يضعه عند غير أهله كما قال عبد الله بن مسعود: ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة .رواه مسلم

وقوله "سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ" أي سيتعظ بما تبلغه يا محمد من قلبه يخشى الله ويعلم أنه ملاقيه فإن خشية الله تعالى توجب للعبد الانكفاف عن المعاصي والسعي في الخيرات .

وقوله "وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَىٰ * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ" أي لا يموت فيستريح ولا يحيي حياة تنفعه بل هي مضرة عليه لأنه بسببها يشعر بما يعاقب به من أليم العذاب وأنواع النكال ، روى ابو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أما أهلُ النارِ الذين هم أهلُها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيَوْنَ ولكن ناسٌ أصابتهم النارٌ بذنوبِهم أوقال: بخطاياهم فأماتَهُم إماتةً حتى إذا كانوا فحمًا أُذِنَ بالشفاعةِ فجيءَ بهم ضبائرَ ضبائرَ فبُثُّوا على أنهارِ الجنةِ ثم قيل يا أهلَ الجنةِ أفيضُوا عليهم فينبتون نباتَ الحبَّةِ تكونُ في حميلِ السيلِ فقال رجلٌ من القومِ كأنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ قد كان بالباديةِ " رواه مسلم .

وقوله "قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ" أي: قد فاز وربح من طهر نفسه ونقاها من الشرك والظلم ومساوئ الأخلاق وتابع ما أنزل الله على الرسول صلوات الله وسلامه عليه .

وقوله "وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ" أي: اتصف بذكر الله، وانصبغ به قلبه، فأوجب له ذلك العمل بما يرضي الله، خصوصًا الصلاة، التي هي ميزان الإيمان، وكذا قال ابن عباس إن المراد بذلك الصلوات الخمس .

وقوله "بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا" أي: تقدمونها على الآخرة، وتختارون نعيمها المنغص المكدر الزائل على الآخرة .

وقوله "وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ" وللآخرة خير من الدنيا في كل وصف مطلوب، وأبقى لكونها دار خلد وبقاء وصفاء، والدنيا دار فناء، فالمؤمن العاقل لا يختار الأردأ على الأجود، فحب الدنيا وإيثارها على الآخرة رأس كل خطيئة لآن الدنيا دنية فانية والآخرة شريفة باقية فكيف يؤثر العاقل ما يفنى على ما يبقى ويهتم بما يزول عنه قريبا ويترك الإهتمام بدار البقاء والخلد

قوله "إِنَّ هَٰذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ" إن ما أخبرتم به في هذه السورة هو مما ثبت معناه في الصحف التي أنزلت قبل القرآن وهي " صحف إبراهيم وموسى" عليهما السلام .

تم تفسير سورة الأعلى ولله الحمد والمنة.

4 - 11 - 1436هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

8 + 9 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 124 الجزء الثالث ‌‌أهمية الغطاء على وجه المرأة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر