تفسير سورة عبس

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الثلاثاء 9 ربيع الثاني 1437هـ | عدد الزيارات: 2138 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

وبعد

سورة عبس مكية وآياتها 42

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى

روت أم المؤمنين عائشة أن ابن أم مكتوم ، واسمه عبد الله بن شريح بن مالك بن أبي ربيعة الفهري وأم مكتوم اسم أم أبيه ، " أتى رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ فجعلَ يقولُ: يا رسولَ اللَّهِ أرشِدني، وعندَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ رجلٌ من عُظماءِ المشرِكينَ، فجعلَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ يُعرضُ عنهُ ويُقبلُ على الآخَرِ، ويقولُ: أترى بما أقولُ بأسًا؟ فيقولُ: لا، ففي هذا أُنْزِلَ " رواه الترمزي وصححه الألباني ، فقال: (عَبَسَ ) أي: في وجهه ( وَتَوَلَّى ) في بدنه، لأجل مجيء الأعمى له، ثم ذكر الفائدة في الإقبال عليه، فقال:(وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ) أي:الأعمى (يَزَّكَّى) أي: يتطهر عن الأخلاق الرذيلة، ويتصف بالأخلاق الجميلة؟ (أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى)، أي: يتذكر ما ينفعه، فيعمل بتلك الذكرى .

وهذه فائدة كبيرة، هي المقصودة من بعثة الرسل ، ووعظ الوعاظ، وتذكير المذكرين، فإقبالك على من جاء بنفسه مفتقرا لذلك منك ، هو الأليق الواجب، وأما تصديك وتعرضك للغني المستغني الذي لا يسأل ولا يستفتي لعدم رغبته في الخير، مع تركك من هو أهم منه، فإنه لا ينبغي لك، فإنه ليس عليك أن لا يزكى، فلو لم يتزك، فلست بمحاسب على ما عمله من الشر .

فدل هذا على القاعدة المشهورة، أنه: « لا يترك أمر معلوم لأمر موهوم، ولا مصلحة متحققة لمصلحة متوهمة » وأنه ينبغي الإقبال على طالب العلم، المفتقر إليه، الحريص عليه أزيد من غيره

وقد شاءت إرادة الله أن يستخلف الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، ابن أم مكتوم على المدينة مرتين ، فعن أنس بن مالك :" أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ استخلفَ ابنَ أمِّ مَكْتومٍ على المدينةِ مرَّتينِ " رواه أبو داود ، وصححه الألباني .

كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ * قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ * كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ * فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ

يقول تعالى: ( كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ) أي: حقا إن هذه الموعظة تذكرة من الله، يذكر بها عباده، ويبين لهم في كتابه ما يحتاجون إليه، ويبين الرشد من الغي، فإذا تبين ذلك ( فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ) أي: عمل به .

ثم ذكر محل هذه التذكرة وعظمها ورفع قدرها، فقال: ( فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ) أي معظمة موقرة (مَرْفُوعَةٍ) أي عالية القدر ( مُطَهَّرَةٍ ) أي من الدنس والزيادة والنقص ( بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ) وهم الملائكة [ الذين هم ] السفراء بين الله وبين عباده، ( كِرَامٍ بَرَرَةٍ ) أي: خلقهم كريم حسن شريف وأخلاقهم وأفعالهم بارة طاهرة كاملة ومن هنا ينبغي لحامل القرآن أن يكون في أفعاله وأقواله على السداد والرشاد، روى الإمام أحمد عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مَثَلُ الذي يَقْرَأُ القُرْآنَ، وهو حافِظٌ له مع السَّفَرَةِ الكِرامِ البَرَرَةِ، ومَثَلُ الذي يَقْرَأُ، وهو يَتَعاهَدُهُ، وهو عليه شَدِيدٌ فَلَهُ أجْرانِ.) رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري، وقوله تعالى (كلا لما يقضي ما أمره) لا يقضي أحد أبداً كل ما افترض عليه .

وذلك كله حفظ من الله لكتابه، أن جعل السفراء فيه إلى الرسل الملائكة الكرام الأقوياء الأتقياء، ولم يجعل للشياطين عليه سبيلا وهذا مما يوجب الإيمان به وتلقيه بالقبول، ولكن مع هذا أبى الإنسان إلا كفورا، لذا ذمَّ الله من أنكر البعث والنشور من بني آدم قال تعالى: ( قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ) لعن الإنسان ، وهذا لجنس الإنسان المكذب لكثرة تكذيبه بلا مستند بل بمجرد الاستبعاد وعدم العلم (مَا أَكْفَرَهُ) أي ما أشد كفره، ثم بين تعالى كيف خلقه الله من الشيء الحقير وأنه قادر على إعادته كما بدأ فقال (من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره) أي قدر أجله ورزقه وعمله وشقي أو سعيد ( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) أي: يسر له الأسباب الدينية والدنيوية، وهداه السبيل، [ وبينه ] وامتحنه بالأمر والنهي، ( ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ) أي: أكرمه بالدفن، ولم يجعله كسائر الحيوانات التي تكون جيفها على وجه الأرض، ( ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ ) أي: بعثه بعد موته للجزاء، ومنه يقال البعث والنشور ، فعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ليسَ مِنَ الإنْسانِ شيءٌ إلَّا يَبْلَى، إلَّا عَظْمًا واحِدًا وهو عَجْبُ الذَّنَبِ، ومِنْهُ يُرَكَّبُ الخَلْقُ يَومَ القِيامَةِ.) رواه البخاري ومسلم ، واللفظ للبخاري.

ثم أرشده تعالى إلى النظر والتفكر في طعامه، وكيف وصل إليه بعدما تكررت عليه طبقات عديدة، ويسره له فقال: (فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ) فيه امتنان وفيه استدلال بإحياء النبات من الأرض الهامدة على إحياء الأجسام بعد ما كانت عظام بالية وتراباً متمزقاً (أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ) أي: أنزلنا المطر على الأرض بكثرة (ثُمَّ شَقَقْنَا الأرْضَ) للنبات (شَقًّا) أي اسكنه فيها فدخل في تخومها وتخلل في أجزاء الحب المودع فيها فنبت وارتفع وظهر على وجه الأرض (فَأَنْبَتْنَا فِيهَا) أصنافا مصنفة من أنواع الأطعمة اللذيذة، والأقوات الشهية (حبًّا) وهذا شامل لسائر الحبوب على اختلاف أصنافها، (وَعِنَبًا)، والعنب معروف (وَقَضْبًا ) وهو القت ، (وَزَيْتُونًا) وهو معروف وهو أدم وعصيره أدم ويستصبح به ويدهن به (وَنَخْلا) يؤكل بلحاً بسرا ورطبا وتمراً وخص هذه الأربعة لكثرة فوائدها ومنافعها (وَحَدَائِقَ غُلْبًا) أي: بساتين فيها الأشجار الكثيرة الملتفة، (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) الفاكهة: ما يتفكه به الإنسان من الثمار .والأَبُّ: الكلأ والمرعى ،ولهذا قال: (مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ) التي خلقها الله وسخرها لكم، فمن نظر في هذه النعم أوجب له ذلك شكر ربه، وبذل الجهد في الإنابة إليه، والإقبال على طاعته، والتصديق بأخباره .

فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ

أي: إذا جاءت صيحة القيامة، التي تصخ لهولها الأسماع، وتنزعج لها الأفئدة يومئذ، مما يرى الناس من الأهوال وشدة الحاجة لسالف الأعمال ( يَفِرُّ الْمَرْءُ ) من أعز الناس إليه، وأشفقهم لديه، (مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ ) أي: زوجته (وَبَنِيهِ) وذلك لأنه (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) أي: قد شغلته نفسه، واهتم لفكاكها، ولم يكن له التفات إلى غيرها، وفي صحيح البخاري في أمر الشفاعة أنه إذا طلب من آدم ثمَّ من أولي العزم من الرسل أن يشفع عند الله في الخلائق يقول كل منهم نفسي نفسي لا أسأله اليوم إلا نفسي إلا نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم ، ولهذا قال تعالى (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) الأحب فالأحب والأقرب فالأقرب من هول ذلك اليوم.

روى النسائي عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (يبعث الناس يوم القيامة حفاة عراة غُرلا) فقالت عائشة: يا رسول الله، فكيف بالعورات، فقال: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) انفرد به النسائي وصححه الألباني

فحينئذ ينقسم الخلق إلى فريقين: سعداء وأشقياء، فأما السعداء، فـوجوههم [ يومئذ ] ( مُسْفِرَةٌ ) أي: قد ظهر فيها السرور والبهجة، مما عرفوا من نجاتهم، وفوزهم بالنعيم، ( ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ ) الأشقياء ( يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا ) أي: تغشاها ( قَتَرَةٌ ) فهي سوداء مظلمة مدلهمة، قد أيست من كل خير، وعرفت شقاءها وهلاكها ( أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) أي الكفرة قلوبهم الفجرة في أعمالهم .

نسأل الله العفو والعافية إنه جواد كريم

تم تفسير سورة عبس ولله الحمد والمنة

10 - 4 - 1437هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

9 + 9 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 124 الجزء الثالث ‌‌أهمية الغطاء على وجه المرأة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 123 الجزء الثالث ‌‌حكم قيادة المرأة للسيارة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر