تفسير سورة النازعات

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الأربعاء 17 ربيع الثاني 1437هـ | عدد الزيارات: 2078 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد

سورة النازعات مكية وآياتها 46

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا * يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ * يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ * أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً * قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ * فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ

هذه الإقسامات بالملائكة الكرام، وأفعالهم الدالة على كمال انقيادهم لأمر الله، وإسراعهم في تنفيذ أمره فأقسم الله تعالى بالملائكة التي تنزع أرواح الكفار نزعاً شديداً قال تعالى (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا)، والملائكة التي تقبض أرواح المؤمنين بنشاط ورفق قال تعالى (وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا) والملائكة التي تسبح في نزولها من السماء وصعودها إليها قال تعالى (وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا) والملائكة التي تسبق وتسارع إلى تنفيذ أمر الله قال تعالى (فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا) والملائكة المنفذات أمر ربها فيما أوكل إليها تدبيره من شؤون الكون قال تعالى (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا) ولا يجوز للمخلوق أن يقسم بغير خالقه فإن فعل فقد أشرك، فالمقسم عليه محذوف تعويلاً على إشارة ما قبله من المقسم به إليه ودلالة ما بعده من أحوال القيامة عليه وهو (لتبعثنَّ) فإن الإقسام بمن يتولى نزع الأرواح ويقوم بتدبير أمورها يلوح بكون المقسم عليه من قبيل تلك الأمور لا محالة وفيه من الجزالة ما لا يخفى ، (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ) هما النفختان الأولى والثانية ، أما الأولى وهي قوله (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) ، والثانية وهي الرادفة ، وعن أبي بن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا أيها الناسُ ! اذكروا اللهَ ، جاءتِ الراجفةُ ، تتبعها الرَّادفةُ ، جاء الموتُ بما فيه ، جاء الموتُ بما فيه) ، صحيح الترغيب للألباني ، فالنفخة الأولى نفخة الإماتة تتبعها نفخة أخرى للإحياء ، (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ) يعني خائفة ، (أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ) أي: ذليلة حقيرة، قد ملك قلوبهم الخوف، وأذهل أفئدتهم الفزع، وغلب عليهم التأسف واستولت عليهم الحسرة .

يقولون أي: الكفار في الدنيا، على وجه التكذيب:(أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً) أي: بالية فتاتا (قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ) أي: استبعدوا أن يبعثهم الله ويعيدهم بعدما كانوا عظاما نخرة، جهلا منهم بقدرة الله، وتجرؤا عليه.

قال الله في بيان سهولة هذا الأمر عليه: (فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ) وهو أن يأمر الله تعالى اسرافيل فينفخ في السور نفخة البعث (فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) فإذا الأولون والأخرون قيام بين يدي الرب عز وجل ينظرون (هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى) يخبر تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم عن عبده ورسوله موسى عليه السلام أنه ابتعثه إلى فرعون وأيده بالمعجزات ومع هذا استمر على كفره وطغيانه حتى أخذه الله أخذ عزيز مقتدر وكذلك عاقبة من خالفك وكذب بما جئت به ولهذا قال في آخر القصة (إن في ذلك لعبرة لمن يخشى) فقوله (هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى) أي هل سمعت بخبره، وهذا الاستفهام عن أمر عظيم أي: هل أتاك حديثه .

إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى *فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى

إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى، وهو المحل الذي كلمه الله فيه، وامتن عليه بالرسالة، واختصه بالوحي والاجتباء فـ(طوى) اسم الوادي المطهر المبارك فقال له (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) أي: فانهه عن طغيانه وشركه وعصيانه، بقول لين، وخطاب لطيف، لعله يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى، (فَقُلْ) له:(هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى) أي: هل لك في خصلة حميدة، ومحمدة جميلة، يتنافس فيها أولو الألباب، وهي أن تزكي نفسك وتطهرها من دنس الكفر والطغيان، إلى الإيمان والعمل الصالح؟، (وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ) أي: أدلك عليه، وأبين لك مواقع رضاه، من مواقع سخطه (فَتَخْشَى) الله إذا علمت الصراط المستقيم، فامتنع فرعون مما دعاه إليه موسى، (فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى) أي فأظهر له موسى مع هذه الدعوة الحق حجة قوية ودليل واضحاً على صدق ما جاءه به من الله ، (فَكَذَّبَ) بالحق (وَعَصَى) الأمر، (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى) أي: في مقابلة الحق بالباطل وهو جمعه السحرة يقابل ما جاء به موسى عليه السلام من المعجزة الباهرة، (فَحَشَرَ) فجمع أهل مملكته(فَنَادَى * فَقَالَ) لهم: (أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى) فأذعنوا له وأقروا بباطله حين استخفهم، (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى) فانتقم الله منه فصارت عقوبته دليلا وزاجرا، ومبينة لعقوبة الدنيا والآخرة، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى) فإن من يخشى الله هو الذي ينتفع بالآيات والعبر، فإذا رأى عقوبة فرعون، عرف أن كل من تكبر وعصى، وبارز الملك الأعلى، عاقبه في الدنيا والآخرة، وأما من ترحلت خشية الله من قلبه، فلو جاءته كل آية لن يؤمن بها .

أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ

يقول تعالى مبينا دليلا واضحا لمنكري البعث ومستبعدي إعادة الله للأجساد:(أَأَنْتُمْ) أيها الناس(أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ) ذات الجرم العظيم، والخلق القوي، والارتفاع الباهر (بَنَاهَا) الله، (رَفَعَ سَمْكَهَا) أي: جرمها وصورتها، (فَسَوَّاهَا) بإحكام وإتقان يحير العقول، ويذهل الألباب، (وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا) أي: أظلمه، فعمت الظلمة جميع أرجاء السماء، فأظلم وجه الأرض، (وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا) أي: أظهر فيه النور العظيم، حين أتى بالشمس، فسعى الناس في مصالح دينهم ودنياهم، (وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ) أي: بعد خلق السماء (دَحَاهَا) أي: بسطها وأودع فيها منافعها .

وفسر ذلك بقوله: (أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا) أي: ثبتها في الأرض فدحى الأرض بعد خلق السماء، كما هو نص هذه الآيات الكريمة وأما خلق نفس الأرض، فمتقدم على خلق السماء فالذي خلق السماوات العظام وما فيها من الأنوار والأجرام، والأرض الكثيفة الغبراء، وما فيها من ضروريات الخلق ومنافعهم، لا بد أن يبعث الخلق المكلفين، فيجازيهم على أعمالهم، فمن أحسن فله الحسنى، ومن أساء فلا يلومن إلا نفسه، ولهذا ذكر بعد هذا القيام الجزاء ، فقال:

فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى * فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى

أي: إذا جاءت القيامة الكبرى، والشدة العظمى، التي يهون عندها كل شدة، فحينئذ يذهل الوالد عن ولده، والصاحب عن صاحبه وكل محب عن حبيبه و (يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ مَا سَعَى) في الدنيا، من خير وشر، فيتمنى زيادة مثقال ذرة في حسناته، ويحزن لزيادة مثقال ذرة في سيئاته .

ويعلم إذ ذاك أن مادة ربحه وخسرانه ما سعاه في الدنيا، وينقطع كل سبب ووصلة كانت في الدنيا سوى الأعمال، (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى) أي: جعلت في البراز، ظاهرة لكل أحد، قد برزت لأهلها، واستعدت لأخذهم، منتظرة لأمر ربها، (فَأَمَّا مَنْ طَغَى) أي: جاوز الحد، بأن تجرأ على المعاصي الكبار، ولم يقتصر على ما حده الله، (وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) على الآخرة فصار سعيه لها، ووقته مستغرقا في حظوظها وشهواتها، ونسي الآخرة وترك العمل لها (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى) له أي: المقر والمسكن لمن هذه حاله، (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ) أي: خاف القيام عليه ومجازاته بالعدل، فأثر هذا الخوف في قلبه فنهى نفسه عن هواها الذي يقيدها عن طاعة الله، وصار هواه تبعا لما جاء به الرسول، وجاهد الهوى والشهوة الصادين عن الخير، (فَإِنَّ الْجَنَّةَ) المشتملة على كل خير وسرور ونعيم (هِيَ الْمَأْوَى) لمن هذا وصفه .

يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا * إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا * كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا

أي: يسألك المتعنتون المكذبون بالبعث (عَنِ السَّاعَةِ) متى وقوعها و (أَيَّانَ مُرْسَاهَا) فأجابهم الله بقوله: (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا) أي: ما الفائدة لك ولهم في ذكرها ومعرفة وقت مجيئها؟ فليس تحت ذلك نتيجة، ولهذا لما كان علم العباد للساعة ليس لهم فيه مصلحة دينية ولا دنيوية، بل المصلحة في خفائه عليهم، طوى علم ذلك عن جميع الخلق، واستأثر بعلمه فقال: (إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا) أي: إليه ينتهي علمها، (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا) أي إنما بعثتك لتنذر الناس وتحذرهم من بأس الله وعذابه فمن خشي الله وخاف مقامه ووعيده اتبعك وأفلح والخيبة والخسار على من كذبك وخالفك وقوله (كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها) أي إذا قاموا من قبورهم إلى المحشر يستقصرون مدة الحياة الدنيا حتى كأنها عندهم كانت عشية من يوم أو ضحى من يوم.

تم تفسير سورة النازعات ولله الحمد والمنة .

17 - 4 - 1437هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

6 + 8 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر