الدرس الرابع والثلاثون: الحديث 24 تحريم الظلم

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الخميس 3 جمادى الأولى 1437هـ | عدد الزيارات: 2092 القسم: شرح كتاب الأربعين النووية -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

" عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربِه عز وجل أنه قال : يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته ، فاستهدوني أهدكم ، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته ، فاستطعموني أُطعمكم ، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته ، فاستكسوني أكسكم ، يا عبادي إنكم تخطئون بالليلِ والنهار ، وأنا أغفر الذنوب جميعا ، فاستغفروني أغفر لكم ، يا عبادي إِنكم لن تبلغوا ضَري فتضروني ، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجرِ قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد ، فسألوني ، فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر ، يا عِبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غيرَ ذلك فلا يلومن إلا نَفسه " رواه مسلم

ترجمة الراوي

أبو ذر الغفاري جندب بن جنادة بن سفيان بن عبيد بن حرام بن غفار بن مليل بن ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مُدرِكة بن إلياس بن مُضر بن نِزار بن معد بن عدنان، الغفاري الكناني

ولد في بلاد بني غفار في يثرب وتوفي بالرَبَذَة سنة 32 شرق المدينة

أهمية الحديث

هذا الحديث القدسي عظيم رباني مبارك ، اشتمل على قواعد عظيمة في أصول الإسلام وفروعه وآدابه ، وذكر النووي رحمه الله تعالى في كتابه (الأذكار) أن أبا إدريس الخولاني راويه عن أبي ذر كان إذا حدث به جثا على ركبتيه تعظيماً وإجلالاً له ، ورجال إسناده دمشقيون ، قال أحمد بن حنبل: ليس لأهل الشام حديث أشرف منه

الشرح

قوله (فيمَا يَرْويَه) الرواية نقل الحديث (عَنْ رَبِّهِ) أي عن الله عزّ وجل، وهذا الحديث يسمى عند المحدثين قدسياً، والحديث القدسي: كل ما رواه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عزّ وجل، لأنه منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم تبليغاً، وليس من القرآن بالإجماع، وإن كان كل واحد منهما قد بلغه النبي صلى الله عليه وسلم أمته عن الله عزّ وجل

فالحديث القدسي معناه من عند الله ولفظه لفظ النبي صلى الله عليه وسلم إذ لو كان الحديث القدسي من عند الله لفظاً ومعنى لكان أعلى سند من القرآن لأن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه تعالى بدون واسطة؛ كما هو ظاهر السياق، أما القرآن فنزل على النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل عليه السلام؛ كما قال تعالى (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُس من ربك) النحل: 102، وقال: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) الشعراء: 193

وأيضاً لو كان لفظ الحديث القدسي من عند الله؛ لم يكن بينه وبين القرآن فرق؛ لأن كليهما على هذا التقدير كلام الله، والحكمة تقتضي تساويهما في الحكم حين اتفقا في الأصل

الفرق بين القرآن والحديث القدسي

أولاً: الحديث القدسي لا يتعبد بتلاوته، فلا يثاب على كل حرف منه عشر حسنات، والقرآن يتعبد بتلاوته بكل حرف منه عشر حسنات

ثانياً: أن الله عزّ وجل تحدى أن يأتي الناس بمثل القرآن ولو آية منه، ولم يرد مثل ذلك في الأحاديث القدسية

ثالثاً: القرآن محفوظ من عند الله عزّ وجل؛ كما قال سبحانه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9)، بخلاف الأحاديث القدسية؛ ففيها الصحيح والحسن، وأضيف إليها الضعيف والموضوع، وفيها التقديم والتأخير والزيادة والنقص

رابعاً: القرآن لا تجوز قراءته بالمعنى بإجماع المسلمين، بخلاف الأحاديث القدسية

خامساً: القرآن تشرع قراءته في الصلاة، ومنه الفاتحة لا تصح الصلاة بدونها بخلاف الأحاديث القدسية

سادساً: القرآن لا يمسه إلا طاهر بخلاف الأحاديث القدسية

سابعاً: القرآن لا يقرؤه الجنب حتى يغتسل بخلاف الأحاديث القدسية

ثامناً: القرآن ثبت بالتواتر القطعي المفيد للعلم اليقيني، فلو أنكر منه حرفاً أجمع القراء عليه كان كافراً، بخلاف الأحاديث القدسية؛ فإنه لو أنكر شيئاً منها مدعّياً أنه لم يثبت؛ لم يكفر، إلا إذا أنكره مع علمه أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله عندها يكفر لتكذيبه النبي صلى الله عليه وسلم

قوله (يَا عِبَادِي) نداء من الله عز وجل أبلغنا به أصدق المخبرين وهو محمد صلى الله عليه وسلم

قوله (إِنِّي حَرَّمتُ الظُّلمَ عَلَى نَفسِي) أي منعته مع قدرتي عليه

قوله (وَجَعَلتُهُ بَينَكُمْ مُحَرَّمَا) أي صيّرته بينكم محرماً

قوله (فَلا تَظَالَمُوا) هذا عطف معنوي على قوله (جَعَلتُهُ بَينَكُمْ مُحَرَّمَاً) أي فبناء على كونه محرماً لا تظالموا، أي لا يظلم بعضكم بعضا

قوله ( يَا عِبَاديَ كُلُّكُم ضَالٌّ) أي تائه عن الطريق المستقيم

قوله (إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ) أي هداية التوفيق لأن الأنبياء يهدون هداية الإرشاد والله يهدي هداية التوفيق، إنك لا تهدي من أحببت
قوله (فَاستَهدُونِي) أي اطلبوا مني الهداية لا من غيري (أَهدِكُمْ ) وهذا جواب الأمر، كقوله: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) غافر:60
قوله (يَاعِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ) فالله هو الذي أنبت الزرع، وهو الذي أدر الضرع، وهو الذي أحيا الثمار، قال تعالى (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ*أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) الواقعة: 63-64

قوله (فَاسْتَطْعِمُونِي) أي اطلبوا مني الإطعام

قوله (أُطْعِمْكُمْ) أطعم: فعل مضارع مجزوم على أنه جواب الأمر، أي ستجدون الطعام إذا طلبتم ذلك مني بسوقه لكم

فقوله (اسْتَطْعِمُونِي) يشمل سؤال الله عزّ وجل الطعام، ويشمل السعي في الرزق وابتغاء فضل الله عزّ وجل قال تعالى في سورة الجمعة: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) ومن المعلوم أن السماء لا تمطر ذهباً

قوله (يَاعِبَادِي كُلُّكُم عَار) كلنا خرجنا من بطون أمهاتنا عراة

قوله (إِلاّ مَنْ كَسَوتُهُ فَاستَكْسُونِي أَكْسُكُمْ) فالكبير يشتري له الثوب، والصغير يُشترى له الثوب، والله هو الميسر لذلك
قوله (يَا عِبَادي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ) أي تجانبون الصواب، لأن الأعمال إما صواب أو خطأ مجانباً للصواب إما بترك واجب، وإما بفعل محرم

قوله (بِالَّليْلِ) الباء هنا بمعنى: في كما هي في قوله (وَبِاللَّيْل أفلا تعقلون) الصافات: 138، أي وفي الليل

قوله (وَأَنَا أَغفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعَاً) أي أسترها وأتجاوز عنها مهما كثرت، ومهما عظمت

قوله (فَاستَغفِرُونِي أَغْفِر لَكُم) أي اطلبوا مغفرتي، إما بطلب المغفرة مثل أن يقول: اللهم اغفر لي، أو: أستغفر الله وأتوب إليه. وإما بفعل ما يكون به المغفرة، فمن قال: سبحان الله وبحمده في يومه مئة مرة غفرت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر. أخرجه البخاري ومسلم

قوله (يَاعِبَاديَ إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّيْ فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفعِي فَتَنْفَعُونِي) أي لن تستطيعوا أن تضروني ولا أن تنفعوني، لأن الضار والنافع هو الله ولكمال غناه عن عباده

قوله ( يَاعِبَادِيَ لَو أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتقَى قَلبِ رَجُلٍ وَاحدٍ مِنكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئَاً) يعني لو أن كل العباد من الإنس والجن الأولين والآخرين كانوا على أتقى قلب رجل ما زاد ذلك في ملك الله شيئاً، لأن ملك الله واسع لكل شيء، للتقي والفاجر

ووجه قوله (مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلكِي شَيئَاً) أنهم إذا كانوا على أتقى قلب رجل واحد كانوا من أولياء الله، وأولياء الله جنوده، وجنوده يتسع بهم ملكه، كما لو كان لملك من ملوك الدنيا جنود كثيرون فإن ملكه يتسع بجنوده

قوله (يَاعِبَادِيَ لَو أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلونِي فَأَعطَيتُ كُلَّ وَاحِدٍ مَسأَلَتَهُ) أي إذا قاموا في أرض واحدة منبسطة، وذلك لأنه كلما كثر الجمع كان ذلك أقرب إلى الإجابة

قوله (مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحر) وهذا من باب المبالغة في عدم النقص

قوله (يَاعِبَادِيَ إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ) هذه جملة فيها حصر طريقه (إنما) أي ما هي إلا أعمالكم (أُحْصِيْهَا لَكُمْ) أي أضبطها تماماً بالعدّ لا زيادة ولا نقصان، لأنهم كانوا في الجاهلية لا يعرفون الحساب فيضبطون الأعداد بالحصى

قوله (ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا) أي في الدنيا والآخرة، أما الكافر فيجازى على عمله الحسن في الدنيا

قوله ( فَمَنْ وَجَدَ خَيْرَاً فَليَحْمَدِ اللهَ) أي خيراً من أعماله فليحمد الله على توفيقه للعمل الصالح، وعلى ثواب الله له

قوله (وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ) أي وجد شراً أو عقوبة (فَلا يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفسَهُ) لأنه لم يُظلم، واللوم: أن يشعر الإنسان بقلبه بأن هذا فعل غير لائق وغير مناسب، وربما ينطق ذلك بلسانه

وبالله التوفيق

وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

1437/5/2 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

1 + 7 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 132 الجزء الثالث : شروط قبول الدعاء - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 131 الجزء الثالث ‌‌وجوب النهي عن المنكر على الجميع - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر