تفسير سورة المدثر

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الأحد 15 شعبان 1437هـ | عدد الزيارات: 4599 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد

سورة المدثر مكية وآياتها 56

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ 1 قُمْ فَأَنْذِرْ 2 وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ 3 وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ 4 وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ 5 وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ 6 وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ 7

روى الإمام البخاري عن أبي سلمة قال: أخبرني جابر بن عبد الله:أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي: " فبينا أنا أمشي سمعت صوتًا من السماء، فرفعت بصري قبَلَ السماء، فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فَجَئثْتُ منه حتى هَوَيتُ إلى الأرض، فجئت أهلي، فقلت:زملوني زملوني. فزملوني ، فأنـزل الله ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ ) إلى: ( فَاهْجُرْ ) " ، قال أبو سلمة:والرجز:الأوثان - ثم حَميَ الوحيُ وتَتَابع.

فقوله :(قُمِ فَأَنْذِرْ)أي شمرعن ساق العزم وأنذر الناس بالأقوال والأفعال، التي يحصل بها المقصود، وبيان حال المنذر عنه، ليكون ذلك أدعى لتركه، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ أي: عظمه بالتوحيد، واجعل قصدك في إنذارك وجه الله، وأن يعظمه العباد ويقوموا بعبادته.

قوله تعالى (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) كان المشركون لا يتطهرون فأمره الله أن يتطهر، وأن يطهر ثيابه .

قوله تعالى (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) داوم على ترك الأصنام والأوثان والمعاصي .

قوله تعالى (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) : لا تعطي العطية تلتمس أكثر منها .

قوله تعالى (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) : أي اجعل صبرك على أذاهم لوجه الله عز وجل .

فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ 8 فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ 9 عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ 10

قوله تعالى :(فإذا نقر في الناقور) ، (الناقور) الصور، وهو كهيئة القرن ، روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "كيف أنعَمُ وقد التقم صاحبُ القرنِ القَرنَ وحنى جبهتَه وأصغَى سمعَه ينظرُ متى يُؤمَرَ ؟ ! قال المسلمون : يا رسولَ اللهِ فما نقول !؟ قال : قولوا : حسبُنا اللهُ ونعمَ الوكيلُ ، على اللهِ توكَّلْنا " رواه أحمد ، وصححه شعيب الأرناؤوط .

فإذا نفخ في الصور للقيام من القبور، وجمع الخلق للبعث والنشور.

قوله تعالى (فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ) لكثرة أهواله وشدائده .

قوله تعالى (عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) تأكيد لعسره عليهم لأنهم قد أيسوا من كل خير، وأيقنوا بالهلاك والبوار ومفهوم ذلك أنه على المؤمنين يسير.

ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا 11 وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا 12 وَبَنِينَ شُهُودًا 13 وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا 14 ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ 15 كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا 16 سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا 17

هذه الآيات، نزلت في الخبيث الوليد بن المغيرة المخزومي أحد رؤساء قريش لعنه الله وكان من خبره في هذا ما رواه العوفي، عن ابن عباس قال: دخل الوليد بن المغيرة على أبي بكر بن أبي قحافة فسأله عن القرآن، فلما أخبره خرج على قريش فقال:يا عجبا لما يقول ابن أبي كبشة. فوالله ما هو بشعر ولا بسحر ولا بهذْي من الجنون، وإن قوله لمن كلام الله. فلما سمع بذلك النفرُ من قريش ائتمروا فقالوا:والله لئن صبا الوليد لتصْبُوَنَّ قريش. فلما سمع بذلك أبو جهل بن هشام قال:أنا والله أكفيكم شأنه. فانطلق حتى دخل عليه بيته فقال للوليد:ألم تر قومك قد جمعوا لك الصدقة؟ فقال:ألستُ أكثرهم مالا وولدا. فقال له أبو جهل:يتحدثون أنك إنما تدخل على ابن أبي قحافة لتصيب من طعامه. فقال الوليد:أقد تحدث به عشيرتي؟! فلا والله لا أقرب ابن أبي قحافة، ولا عمر، ولا ابن أبي كبشة، وما قوله إلا سحر يؤثر. فأنـزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا إلى قوله: لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ

معاند الحق، والمبارز لله ولرسوله بالمحاربة والمشاقة، فذمه الله تعالى، وهذا جزاء كل من عاند الحق ونابذه، أن له الخزي في الدنيا، ولعذاب الآخرة أخزى، فقال: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا أي: خلقته منفردا، بلا مال ولا أهل، ولا غيره، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا أي: كثيرا قيل ألف دينار وقيل مئة ألف دينار وقيل أرضاً يستغلها وقيل غير ذلك جعل له (وبنين شهوداً) أي لا يغيبون أي حضوراً عنده لا يسافرون للتجارات، وعدد أولاده ثلاثة عشر.

قوله تعالى (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا) أي: مكنته من الدنيا وأسبابها، حتى انقادت له مطالبه، وحصل على ما يشتهي ويريد من صنوف المال والأثاث، مع هذه النعم والإمدادات (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) أي: يطمع أن ينال نعيم الآخرة كما نال نعيم الدنيا .


قوله (كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا) أي: ليس الأمر كما طمع، بل هو بخلاف مقصوده ومطلوبه، وذلك لأنه معاندا وهو الكفر على نعمه بعد العلم، إذ عرفها ثم أنكرها، ودعته إلى الحق فلم ينقد لها ولم يكفه أنه أعرض وتولى عنها، بل جعل يحاربها ويسعى في إبطالها، ولهذا قال عنه (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا) أي : عذاباً لا راحة فيه .

إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ 18 فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ 19 ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ 20 ثُمَّ نَظَرَ 21 ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ 22 ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ 23 فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ 24 إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ 25 سَأُصْلِيهِ سَقَرَ 26 وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ 27 لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ 28 لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ 29 عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ 30 وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ وَمَا هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ 31

قوله تعالى (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) أي تروى ماذا يقول في القرآن حين سئل عن القرآن ففكر ماذا يختلق من المقال .

قوله تعالى (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) دعاء عليه، (ثُمَّ نَظَرَ) أي: أعاد النظرة والتروي، (ثُمَّ عَبَسَ) أي قبض بين عينيه وقطب (وَبَسَرَ) أي كلح وكره، (ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ) أي: صرف عن الحق ورجع القهقرى مستكبراً عن انقياد القرآن، (فقال إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) ،(إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ) أي: ما هذا كلام الله، بل كلام البشر، ولهذا قال تعالى (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) سأغمره فيها من جميع جهاته ثم قال (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ) هذا تهويل لأمرها وتفخيم ثم فسر ذلك بقوله (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) أي: لا تبقي من شدتها على المعذبين شيئا إلا وبلغته .

قوله تعالى (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) : تحرق بشرة الإنسان .

قوله تعالى (عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ) من الملائكة من مقدمي الزبانية، عظيم خلقهم وغليظ خلقهم .

قوله تعالى (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً) أي خزانها، زبانية غلاظ شداداً وذلك رد على مشركي قريش حين ذكروا عدد الخزنة فقال أبو جهل: يا معشر قريش أما يستطيع كل عشرة منكم لواحد منهم فتغلبونهم، فقال تعالى (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً) أي شديدي الخلق ولا يقاومون ولا يغالبون .

قوله تعالى (وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي: أن ما أخبرناكم بعدتهم، إلا لنعلم من يصدق ومن يكذب، لقوله تعالى (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) أي يعلمون أن هذا الرسول حق فإنه نطق بمطابقة ما بأيديهم من الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء .

قوله تعالى (وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا) والمؤمنون كلما أنزل الله آية، فآمنوا بها وصدقوا، ازداد إيمانهم، (وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) أي: ليزول عنهم الريب والشك، وهذه مقاصد جليلة، يعتني بها أولو الألباب، وهي السعي في اليقين، وزيادة الإيمان في كل وقت، وكل مسألة من مسائل الدين، ودفع الشكوك والأوهام التي تعرض في مقابلة الحق، فجعل ما أنزله الله على رسوله محصلا لهذه الفوائد الجليلة، ومميزا للكاذبين من الصادقين، ولهذا قال: وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي: من المنافقين (وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا) وهذا على وجه الحيرة والشك، والكفر منهم بآيات الله، وهذا وذاك من هداية الله لمن يهديه، وإضلاله لمن يضل ولهذا قال (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) فمن هداه الله، جعل ما أنزله الله على رسوله رحمة في حقه، وزيادة في إيمانه ودينه، ومن أضله، جعل ما أنزله على رسوله زيادة شقاء عليه وحيرة، وظلمة في حقه، والواجب أن يتلقى ما أخبر الله به ورسوله بالتسليم، (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ) أي ما يعلم عددهم وكثرتهم إلا هو تعالى، لئلا يتوهم متوهم أنهم تسعة عشر فقط، وقد ثبت في حديث الإسراء المروي في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في صفة البيت المعمور في السماء السابعة (فإذا هو يدخله في كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه آخر ما عليهم) أخرجه البخاري ومسلم .

قوله تعالى (وَمَا هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ) (وَمَا هِيَ) أي النار التي وصفت (إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ) .

كَلا وَالْقَمَرِ 32 وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ 33 وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ 34 إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ 35 نَذِيرًا لِلْبَشَرِ 36 لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ 37 كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ 38 إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ 39 فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ 40 عَنِ الْمُجْرِمِينَ 41 مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ 42 قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ 43 وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ 44 وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ 45 وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ 46 حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ 47

كَلا هنا بمعنى: حقا، فأقسم تعالى بالقمر، وبالليل وقت إدباره، والنهار وقت إسفاره، لاشتمال المذكورات على آيات الله العظيمة، الدالة على كمال قدرة الله وحكمته، وسعة سلطانه، وعموم رحمته، وإحاطة علمه، والمقسم عليه قوله (إِنَّهَا) أي النار (لإحْدَى الْكُبَرِ) أي: لإحدى العظائم الطامة والأمور الهامة، فإذا أعلمناكم بها، وكنتم على بصيرة من أمرها، (لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر) فيعمل بما يقربه من ربه، ويدنيه من رضاه، ويزلفه من دار كرامته أو يتأخر عما خلق له وعما يحبه الله ويرضاه ، فيعمل بالمعاصي، ويتقرب إلى نار جهنم .

قوله تعالى (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) من أعمال السوء وأفعال الشر (رَهِينَةٌ) أي معتقلة بعملها يوم القيامة.

قوله تعالى (إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ) فإنهم (فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ) أي يسألون المجرمين وهم في الغرفات وأولئك في الدركات قائلين لهم (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) أي: أي شيء أدخلكم فيها؟ وبأي: ذنب استحققتموها؟ فـ (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) فلا إخلاص للمعبود، ولا إحسان ولا نفع للخلق المحتاجين .

قوله تعالى (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ*حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ) أي: نخوض بالباطل ونتكلم فيما لا نعلم، (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) هذا آثار الخوض بالباطل، وهو التكذيب بالحق، ومن أحق الحق، يوم الدين، الذي هو محل الجزاء على الأعمال، وظهور ملك الله وحكمه العدل لسائر الخلق .

فاستمرينا على هذا المذهب الفاسد (حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ) أي: الموت، فلما ماتوا على الكفر تعذرت حينئذ عليهم الحيل، وانسد في وجوههم باب الأمل

فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ 48 فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ 49 كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ 50 فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ 51 بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً 52 كَلا بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ 53 كَلا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ 54 فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ 55 وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ 56

قوله تعالى (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) لأنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى، وهؤلاء لا يرضي الله أعمالهم فلما بين الله مآل المخالفين، ورهب مما يفعل بهم، عطف على الموجودين بالعتاب واللوم، فقال (فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) أي: صادين غافلين عنها (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) أي: كأنهم في نفارهم عن الحق وإعراضهم عنه حمر من حمر الوحش إذا فرت ممن يريد صيدها من أسد قاله أبو هريرة وابن عباس في رواية عنه وزيد بن اسلم وابنه عبد الرحمن، وقال ابن عباس: الأسد بالعربية ويقال له بالحبشية قسورة، وهذا من أعظم ما يكون من النفور عن الحق، ومع هذا الإعراض وهذا النفور، (بل يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً) أي بل يريد كل واحد من هؤلاء المشركين أن ينزل عليه كتاباً كما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم قاله مجاهد وغيره، يزعم أنه لا ينقاد للحق إلا بذلك، وقد كذبوا، فإنهم لو جاءتهم كل آية لن يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم، فإنهم جاءتهم الآيات البينات التي تبين الحق وتوضحه فلم يؤمنوا، فلو كان فيهم خيراً لآمنوا، ولهذا قال: (كَلا) أن نعطيهم ما طلبوا، وهم ما قصدوا بذلك إلا التعجيز، (بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ) فلو كانوا يخافونها لما جرى منهم ما جرى .

قوله تعالى (كَلا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) أي: حقاً إن القرآن تذكرة، (فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ) لأنه قد بين له السبيل، ووضح له الدليل، (وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) فإن مشيئته نافذة عامة، لا يخرج عنها حادث قليل ولا كثير، ففيها رد على القدرية، الذين لا يدخلون أفعال العباد تحت مشيئة الله، والجبرية الذين يزعمون أنه ليس للعبد مشيئة، ولا فعل حقيقة، وإنما هو مجبور على أفعاله، فأثبت تعالى للعباد مشيئة حقيقة وفعلا وجعل ذلك تابعا لمشيئته، (هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) أي: هو أهل أن يخاف منه وهو أهل أن يغفر ذنب من تاب إليه وأناب .

تم تفسير سورة المدثر ولله الحمد والمنة

15 - 8 - 1437هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

5 + 8 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 124 الجزء الثالث ‌‌أهمية الغطاء على وجه المرأة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 123 الجزء الثالث ‌‌حكم قيادة المرأة للسيارة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر