تفسير سورة الصف

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الأربعاء 4 محرم 1438هـ | عدد الزيارات: 1867 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد

سورة الصف مدنية وآياتها 14 آية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ 1 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ 2 كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ 3

هذا بيان لعظمته تعالى وقهره، وذل جميع الخلق له تبارك وتعالى، وأن جميع من في السماوات والأرض يسبحون بحمد الله وينزهونه عن كل ما لا يليق به،(وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي لا يغالب إذ قهر الأشياء بعزته وسلطانه، (الْحَكِيمُ) في خلقه وأقواله وأفعاله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ) إنكار على من يقول قولا لا يفي به، ولهذا استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من علماء السلف إلى أنه يجب الوفاء بالوعد مطلقا، سواء ترتب عليه غُرم للموعود أم لا واحتجوا أيضا من السنة بحديث أبي هريرة ، رضي الله عنه ،عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(آية المنافق ثلاث:إذا حَدَّث كذب، وإذا وَعَد أخلف، وإذا اؤتمن خان) متفق عليه ، وفي الصحيحين أيضا واللفظ للبخاري : (أَرْبَعٌ مَن كُنَّ فيه كانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، ومَن كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ منهنَّ كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حتَّى يَدَعَهَا: إذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وإذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وإذَا خَاصَمَ فَجَرَ.) فذكر منهن إخلاف الوعد، ولهذا أكد الله تعالى هذا الإنكار عليهم بقوله: (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ)، وقد روى أبو داود، وصححه الألباني عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال:دعتْني أُمي يومًا ورسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم قاعدٌ في بيتِنا فقالتْ: ها تعالَ أُعطيكَ فقال لها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : وما أردتِ أنْ تعطيهِ ؟ قالتْ : أُعطيهِ تمرًا، فقال لها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : أما إنك لو لمْ تُعطيهِ شيئًا كُتبتْ عليكِ كَذِبةٌ) ولهذا ينبغي للآمر بالخير أن يكون أول الناس إليه مبادرة، وللناهي عن الشر أن يكون أبعد الناس منه. وقد حمل الجمهور الآية على أنها نـزلت حين تمنوا فَرضِيَّة الجهاد عليهم، فلما فرض نكل عنه بعضهم ، وعن عبد الله بن سلام في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ) " قعَدنا نفرٌ من أصحابِ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ فتذاكَرنا، فقلنا: لو نعلمُ أيَّ الأعمالِ أحبَّ إلى اللَّهِ لعملناهُ، فأنزلَ اللَّهُ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ " ، رواه الترمذي وصححه الألباني

إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ 4

هذا حث من الله لعباده على الجهاد في سبيله وتعليم لهم كيف يصنعون وأنه ينبغي لهم أن يصفوا في الجهاد صفا متراصا متساويا، من غير خلل يقع في الصفوف، وتكون صفوفهم على نظام وترتيب به تحصل المساواة بين المجاهدين والتعاضد وإرهاب العدو وتنشيط بعضهم بعضا، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حضر القتال، صف أصحابه، ورتبهم في مواقفهم، بحيث لا يحصل اتكال بعضهم على بعض، بل تكون كل طائفة منهم مهتمة بمركزها وقائمة بوظيفتها، وبهذه الطريقة تتم الأعمال ويحصل الكمال

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ 5

قوله:(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ) موبخا لهم على صنيعهم، ومقرعا لهم على أذيته، وهم يعلمون أنه رسول الله: (لِمَ تُؤْذُونَنِي) بالأقوال والأفعال ( وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ) والرسول من حقه الإكرام والإعظام، والانقياد بأوامره، والابتدار لحكمه .

وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أصابه من الكفار من قومه وغيرهم وأمره له بالصبر، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه عبد الله بن مسعود (لَمَّا كانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ، آثَرَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أُنَاسًا في القِسْمَةِ، فأعْطَى الأقْرَعَ بنَ حَابِسٍ مِئَةً مِنَ الإبِلِ، وأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذلكَ، وأَعْطَى أُنَاسًا مِن أَشْرَافِ العَرَبِ فَآثَرَهُمْ يَومَئذٍ في القِسْمَةِ، قالَ رَجُلٌ: واللَّهِ إنَّ هذِه القِسْمَةَ ما عُدِلَ فِيهَا، وما أُرِيدَ بهَا وجْهُ اللَّهِ، فَقُلتُ: واللَّهِ لَأُخْبِرَنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأتَيْتُهُ، فأخْبَرْتُهُ، فَقالَ: فمَن يَعْدِلُ إذَا لَمْ يَعْدِلِ اللَّهُ ورَسولُهُ، رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى قدْ أُوذِيَ بأَكْثَرَ مِن هذا فَصَبَرَ.) رواه البخاري ومسلم، وفيه نهي للمؤمنين أن ينالوا من النبي صلى الله عليه وسلم أو يوصلوا إليه أذى .

إذ أن أذية الرسول الذي إحسانه إلى الخلق فوق كل إحسان بعد إحسان الله فهي غاية الوقاحة والجراءة والزيغ عن الصراط المستقيم، الذي قد علموه وتركوه، ولهذا قال: (فَلَمَّا زَاغُوا) أي: انصرفوا عن الحق بقصدهم (أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) عقوبة لهم على زيغهم الذي اختاروه لأنفسهم ورضوه لها، ولم يوفقهم الله للهدى، لأنهم لا يليق بهم الخير، ولا يصلحون إلا للشر، ( وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) أي: الذين لم يزل الفسق وصفا لهم، وهذه الآية الكريمة تفيد أن إضلال الله لعباده، ليس ظلما منه، ولا حجة لهم عليه، وإنما ذلك بسبب منهم، فإنهم الذين أغلقوا على أنفسهم باب الهدى بعد ما عرفوه، فيجازيهم بعد ذلك بالإضلال والزيغ الذي لا حيلة لهم في دفعه وتقليب القلوب واسكانها الشك والحيرة والخذلان عقوبة لهم وعدلا منه بهم .

وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ 6 وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ 7 يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ 8 هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ 9

يقول تعالى مخبرا عن عناد بني إسرائيل المتقدمين، الذين دعاهم عيسى ابن مريم، وقال لهم: ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ) أي: أرسلني الله لأدعوكم إلى الخير وأنهاكم عن الشر، وأيدني بالبراهين الظاهرة ، ومما يدل على صدقي، كوني، مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ أي: جئت بما جاء به موسى من التوراة والشرائع السماوية، ولو كنت مدعيا للنبوة، لجئت بغير ما جاء به المرسلون، وأنها أخبرت بي وبشرت، فجئت وبعثت مصداقا لها (ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) وهو: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب النبي الهاشمي .

وفي الصحيحين عن جُبَير بن مُطعم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (إن لي أسماء:أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يَمحُو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يُحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب)

وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ونحن نحوٌ من ثمانين رجلا منهم:عبد الله بن مسعود، وجعفر، وعبد الله بن عُرْفُطَة وعثمان بن مظعون، وأبو موسى. فأتوا النجاشي، وبعثَت قريش عمرو بن العاص، وعِمارة بن الوليد بهدية، فلما دخلا على النجاشي سَجَدا له، ثم ابتدراه عن يمينه وعن شماله، ثم قالا له:إن نفرًا من بني عمنا نـزلوا أرضك، ورغبوا عنا وعن ملتنا. قال:فأين هم؟ قالا هم في أرضك، فابعث إليهم. فبعث إليهم. فقال جعفر: أنا خطيبكم اليوم. فاتبعوه فسلَّم ولم يسجد، فقالوا له:ما لك لا تسجد للملك؟ قال:إنا لا نسجد إلا لله عز وجل. قال وما ذاك؟ قال: إن الله بعث إلينا رسوله، فأمرنا ألا نسجد لأحد إلا لله عز وجل، وأمرنا بالصلاة والزكاة، قال عمرو بن العاص: فإنهم يخالفونك في عيسى ابن مريم. قال:ما تقولون في عيسى ابن مريم وأمه؟ قالوا:نقول كما قال الله عز وجل:هو كلمة الله وروحه ألقاها إلى العذراء البَتُول، التي لم يمسها بَشَر ولم يَفْرضْها ولد، قال: فرفع عودًا من الأرض ثم قال:يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان، والله ما يزيدون على الذي نقول فيه، ما يساوي هذا. مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده، أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي نجد في الإنجيل، وأنه الذي بشر به عيسى ابن مريم. انـزلوا حيث شئتم، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا أحمل نعليه وأوضئه وأمَرَ بهدية الآخرَين فردت إليهما، ثم تعجل عبد الله بن مسعود حتى أدرك بدرًا، وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم استغفر له حين بلَغه موته. قال الشيخ أحمد شاكر إسناده حسن

( فَلَمَّا جَاءَهُمْ ) محمد صلى الله عليه وسلم الذي بشر به عيسى ( بِالْبَيِّنَاتِ ) أي: الأدلة الواضحة، الدالة على أنه هو، وأنه رسول الله حقا، ( قَالُوا) معاندين للحق ومكذبين له ( هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ) وهذا من أعجب العجائب، الرسول الذي قد وضحت رسالته، وصارت أبين من شمس النهار، يجعل ساحرا بينا سحره، فهل في الخذلان أعظم من هذا؟ وهل في الافتراء أعظم من هذا الافتراء، الذي نفى عنه ما كان معلوما من رسالته، وأثبت له ما كان أبعد الناس منه؟ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) لا أحد أظلم ممن يفتري الكذب على الله ويجعل له أنداداً وشركاء ( وهو يُدْعَى إِلَى الإسْلامِ ) وهو يدعى على التوحيد والإخلاص ولهذا قال ( وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) الذين لا يزالون على ظلمهم مستمرين، لا تردهم عنه موعظة، ولا يزجرهم بيان ولا برهان، خصوصا هؤلاء الظلمة القائمين بمقابلة الحق ليردوه، ولينصروا الباطل، ولهذا قال الله عنهم: ( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ ) أي: بما يصدر منهم من المقالات الفاسدة، التي يردون بها الحق، وهي لا حقيقة لها، بل تزيد البصير معرفة بما هم عليه من الباطل ومثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفئ شعاع الشمس بفيه وكما أن هذا مستحيل كذلك ذاك مستحيل ولهذا قال ( وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) أي: قد تكفل الله بنصر دينه، وإتمام الحق الذي أرسل به رسله، وإشاعة نوره على سائر الأقطار، ولو كره الكافرون، وبذلوا بسبب كراهتهم كل سبب يتوصلون به إلى إطفاء نور الله فإنهم مغلوبون .

وصاروا بمنزلة من ينفخ عين الشمس بفيه ليطفئها، فلا على مرادهم حصلوا، ولا سلمت عقولهم من النقص والقدح فيها .

ثم ذكر سبب الظهور والانتصار للدين الإسلامي، الحسي والمعنوي، فقال:(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ) أي: بالعلم النافع والعمل الصالح

بالعلم الذي يهدي إلى الله وإلى دار كرامته، ويهدي لأحسن الأعمال والأخلاق، ويهدي إلى مصالح الدنيا والآخرة ( وَدِينِ الْحَقِّ ) أي: الدين الذي يدان به، ويتعبد لرب العالمين الذي هو حق وصدق، لا نقص فيه، ولا خلل يعتريه، بل أوامره غذاء القلوب والأرواح، وراحة الأبدان، وترك نواهيه سلامة من الشر والفساد فما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق، أكبر دليل وبرهان على صدقه، وهو برهان باق ما بقي الدهر، كلما ازداد العاقل تفكرا، ازداد به فرحا وتبصرا، ( لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ) أي: ليعليه على سائر الأديان، بالحجة والبرهان، ويظهر أهله القائمين به بالسيف والسنان، فأما نفس الدين، فهذا الوصف ملازم له في كل وقت، فلا يمكن أن يغالبه مغالب، أو يخاصمه مخاصم إلا فلجه، وصار له الظهور والقهر، وأما المنتسبون إليه، فإنهم إذا قاموا به، واستناروا بنوره، واهتدوا بهديه، في مصالح دينهم ودنياهم، فكذلك لا يقوم لهم أحد، ولا بد أن يظهروا على أهل الأديان، وإذا ضيعوه واكتفوا منه بمجرد الانتساب إليه، لم ينفعهم ذلك، وصار إهمالهم له سبب تسليط الأعداء عليهم، ويعرف هذا، من استقرأ الأحوال ونظر في أول المسلمين وآخرهم .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ 10 تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ 11 يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 12 وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ 13 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ 14

هذه وصية ودلالة وإرشاد من أرحم الراحمين لعباده المؤمنين، لأعظم تجارة، وأجل مطلوب، وأعلى مرغوب، يحصل بها النجاة من العذاب الأليم، والفوز بالنعيم المقيم .

وأتى بأداة العرض الدالة على أن هذا أمر يرغب فيه كل متبصر، ويسمو إليه كل لبيب، فكأنه قيل: ما هذه التجارة التي هذا قدرها؟ فقال ( تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ )، ومن المعلوم أن الإيمان التام هو التصديق الجازم بما أمر الله بالتصديق به، المستلزم لأعمال الجوارح، ومن أجل أعمال الجوارح الجهاد في سبيل الله فلهذا قال: ( وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ) بأن تبذلوا نفوسكم ومهجكم، لمصادمة أعداء الإسلام، والقصد نصر دين الله وإعلاء كلمته، وتنفقون ما تيسر من أموالكم في ذلك المطلوب، فإن ذلك، ولو كان كريها للنفوس شاقا عليها، فإنه ( خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) فإن فيه الخير الدنيوي، من النصر على الأعداء، والعز المنافي للذل والرزق الواسع، وسعة الصدر وانشراحه .

وفي الآخرة الفوز بثواب الله والنجاة من عقابه، ولهذا ذكر الجزاء في الآخرة، فقال: ( يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) وهذا شامل للصغائر والكبائر، فإن الإيمان بالله والجهاد في سبيله، مكفر للذنوب، ولو كانت كبائر، ( وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) أي: من تحت مساكنها وقصورها وغرفها وأشجارها، أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، ولهم فيها من كل الثمرات، (وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) أي: جمعت كل طيب، من علو وارتفاع، وحسن بناء وزخرفة، حتى إن أهل الغرف من أهل عليين، يتراءاهم أهل الجنة كما يتراءى الكوكب الدري في الأفق الشرقي أو الغربي، وحتى إن بناء الجنة بعضه من لبن ذهب وبعضه من لبن فضة، وخيامها من اللؤلؤ والمرجان، وبعض المنازل من الزمرد والجواهر الملونة بأحسن الألوان، حتى إنها من صفائها يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، وفيها من الطيب والحسن ما لا يأتي عليه وصف الواصفين، ولا خطر على قلب أحد من العالمين، لا يمكن أن يدركوه حتى يروه، ويتمتعوا بحسنه وتقر أعينهم به، ففي تلك الحالة، لولا أن الله خلق أهل الجنة، وأنشأهم نشأة كاملة لا تقبل العدم، لأوشك أن يموتوا من الفرح، فسبحان من لا يحصي أحد من خلقه ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه وفوق ما يثني عليه عباده وتبارك الجليل الجميل، الذي أنشأ دار النعيم، وجعل فيها من الجلال والجمال ما يبهر عقول الخلق ويأخذ بأفئدتهم .

وتعالى من له الحكمة التامة، التي من جملتها، أنه الله لو أرى الخلائق الجنة حين خلقها ونظروا إلى ما فيها من النعيم لما تخلف عنها أحد، ولما هناهم العيش في هذه الدار المنغصة، المشوب نعيمها بألمها، وسرورها بترحها .

وسميت الجنة جنة عدن، لأن أهلها مقيمون فيها، لا يخرجون منها أبدا، ولا يبغون عنها حولا ذلك الثواب الجزيل، والأجر الجميل، الفوز العظيم، الذي لا فوز مثله، فهذا الثواب الأخروي .

وأما الثواب الدنيوي لهذه التجارة، فذكره بقوله: ( وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا ) أي: ويحصل لكم خصلة أخرى تحبونها وهي: ( نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ ) لكم على الأعداء، يحصل به العز والفرح، ( وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ) تتسع به دائرة الإسلام، ويحصل به الرزق الواسع، فهذا جزاء المؤمنين المجاهدين، وأما المؤمنون من غير أهل الجهاد، إذا قام غيرهم بالجهاد فلم يؤيسهم الله تعالى من فضله وإحسانه، بل قال: ( وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) أي: بالثواب العاجل والآجل، كل على حسب إيمانه، وإن كانوا لا يبلغون مبلغ المجاهدين في سبيل الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنَّ في الجَنَّةِ مِئَةَ دَرَجَةٍ، أعَدَّها اللَّهُ لِلْمُجاهِدِينَ في سَبيلِ اللَّهِ ، ما بيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كما بيْنَ السَّماءِ والأرْضِ) رواه البخاري ، ثم قال تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ) أي: بالأقوال والأفعال، وذلك بالقيام بدين الله، والحرص على إقامته على الغير، وجهاد من عانده ونابذه، بالأبدان والأموال، ومن نصر الباطل بما يزعمه من العلم ورد الحق، بدحض حجته، وإقامة الحجة عليه، والتحذير منه

ومن نصر دين الله، تعلم كتاب الله وسنة رسوله، والحث على ذلك، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ثم هيج الله المؤمنين بالاقتداء بمن قبلهم من الصالحين بقوله: ( كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ) أي: قال لهم عارضا ومنهضا من يعاونني ويقوم معي في نصرتي لدين الله، ويدخل مدخلي، ويخرج مخرجي ؟

فابتدر الحواريون، فقالوا: ( نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ) فمضى عيسى عليه السلام على أمر الله ونصر دينه، هو ومن معه من الحواريين، ( فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) بسبب دعوة عيسى والحواريين، ( وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ ) منهم، فلم ينقادوا لدعوتهم، فجاهد المؤمنون الكافرين، ( فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ ) أي: قويناهم ونصرناهم عليهم، ( فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ) أي: عليهم، وذلك ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم .

فأمة محمد صلى الله عليه وسلم لا يزالون ظاهرين على الحق، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك، وحتى يقاتل آخرهم الدجال مع المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، كما وردت بذلك الأحاديث الصحاح .

تم تفسير سورة الصف ولله الحمد والمنة

4 - 1 - 1438هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

1 + 4 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر