تفسير سورة الطور

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الأربعاء 14 شعبان 1438هـ | عدد الزيارات: 1214 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد

سورة الطور مكية وآياتها 49

عن أم سلمة قالت: شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي، فقال: (طُوفي من وراء الناس وأنت راكبة) ، فطفت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جنب البيت يقرأ بالطور وكتاب مسطور. متفق عليه

بسم الله الرحمن الرحيم

وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14)

يقسم تعالى بمخلوقاته الدالة على قدرته العظيمة:أن عذابه واقع بأعدائه، وأنه لا دافع له عنهم فالطور هو:الجبل الذي كلم الله سبحانه وتعالى موسى بن عمران عليه السلام عليه

(وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ) هو القرآن الكريم الذي هو أفضل الكتب (فِي رَقٍّ) أي ورق (مَنْشُورٍ) أي مكتوب مسطر ظاهر غير خفي لا تخفى حاله على كل عاقل بصير (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث الإسراء بعد مجاوزته إلى السماء السابعة : (ثم رفع لي البيت المعمور، فسألت جبريل فقال هذا البيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا لم يعودوا إليه آخر ما عليهم). يعني:يتعبدون فيه ويطوفون، كما يطوف أهل الأرض بكعبتهم كذلك ذاك البيت، هو كعبة أهل السماء السابعة؛ ولهذا وجد إبراهيم الخليل، عليه السلام، مسندا ظهره إلى البيت المعمور؛ لأنه باني الكعبة الأرضية، والجزاء من جنس العمل، وهو بحيال الكعبة .

وقوله: (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) يعني:السماء، فالسماء التي جعلها الله سقفا للمخلوقات، تستمد منها أنوارها ويقتدى بعلاماتها ومنارها وينزل الله منها المطر .

وقوله: (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) المراد بالمسجور:الممنوع المكفوف عن الأرض؛ لئلا يغمرها فيغرق أهلها .

وقوله: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ) :هذا هو المقسم عليه، أي:الواقع بالكافرين، كما قال في الآية الأخرى: (مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ) أي:ليس له دافع يدفعه عنهم إذا أراد الله بهم ذلك، لأن قدرة الله لا يغالبها مغالب ولا يفوتها هارب، ثم ذكر وصف ذلك اليوم الذي يقع فيه العذاب فقال: (يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا) : التحرك في استدارة

(وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا) أي:تذهب فتصير هباء منبثا، وتنسف نسفا

(فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي:ويل لهم في ذلك اليوم من عذاب الله ونكاله بهم، وعقابه لهم

(الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) أي:هم في الدنيا يخوضون في الباطل، ويتخذون دينهم هزوا ولعبا .

(يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) أي يدفعون إليها دفعا ويساقون إليها سوقاً عنيفاً ويجرون على وجوههم ويقال لهم توبيخاً ولوماً (هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ) أي:تقول لهم الزبانية ذلك تقريعا وتوبيخا .

أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)

(أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا) أي:ادخلوها دخول من تغمره من جميع جهاته (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ) أي:سواء صبرتم على عذابها ونكالها أم لم تصبروا، لا محيد لكم عنها ولا خلاص لكم منها ، (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي:ولا يظلم الله أحدا، بل يجازي كلا بعمله .

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)

يخبر تعالى عن حال السعداء فقال: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ) ، وذلك بضد ما أولئك فيه من العذاب والنكال .

(فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ) أي:يتفكهون بما آتاهم الله من النعيم، من أصناف الملاذ، من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومراكب وغير ذلك، (وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) أي:وقد نجاهم من عذاب النار، وتلك نعمة مستقلة بذاتها مع ما أضيف إليها من دخول الجنة، التي فيها من السرور ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر

وقوله: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي هذا بذاك، تفضلا منه وإحسانا .

وقوله: (مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ) الاتكاء هو الجلوس على وجه التمكن والراحة والإستقرار والسرر هي الأرائك المزينة بأنواع الزينة من اللباس الفاخر والفرش الزاهية ووصف الله السرر بأنها مصفوفة أي وجوه بعضهم إلى بعض وليدل ذلك أيضاً على كثرتها وحسن تنظيمها واجتماع أهلها وسرورهم لحسن معاشرتهم وملاطفة بعضهم بعضا فلما اجتمع لهم من نعيم القلب والروح والبدن ما لا يخطر ببال ولا يدور في الخيال من المآكل والمشارب اللذيذة والمجالس الحسنة الأنيقة لم يبق إلا التمتع بالنساء اللاتي لا يتم سرور إلا بهن فذكر تعالى أن لهم من الأزواج أكمل النساء أوصافا وخلقا وأخلاقا ولهذا قال (وزوجناهم بحور عين) وهن النساء اللواتي قد جمعنا جمال الصورالظاهرة وبهاءها من الأخلاق الفاضلة ما يوجب أن يحيرن بحسنهن الناظرين ويسلبن عقول العالمين وتكاد الأفئدة أن تطير شوقاً إليهن ورغبة في وصالهن .

والعين: حسان الأعين مليحاتها التي صفا بياضها وسوادها

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)

يخبر تعالى عن فضله وكرمه، وامتنانه ولطفه بخلقه وإحسانه:أن المؤمنين إذا اتبعتهم ذرياتهم في الإيمان يُلحقهم بآبائهم في المنـزلة وإن لم يبلغوا عملهم، لتقر أعين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم، فيجمع بينهم على أحسن الوجوه، بأن يرفع الناقص العمل، بكامل العمل، ولا ينقص ذلك من عمله ومنـزلته، للتساوي بينه وبين ذاك؛ ولهذا قال: (أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) .

هذا فضله تعالى على الأبناء ببركة عمل الآباء، وأما فضله على الآباء ببركة دعاء الأبناء، فقد روى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول: يا رب أنى لي هذه؟فيقول:باستغفار ولدك لك) صححه ابن كثير، وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) .

وقوله: (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) لما أخبر عن مقام الفضل، وهو رفع درجة الذرية إلى منـزلة الآباء من غير عمل يقتضي ذلك، أخبر عن مقام العدل، وهو أنه لا يؤاخذ أحدا بذنب أحد، بل (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) أي:مرتهن بعمله، لا يحمل عليه ذنب غيره من الناس، سواء كان أبا أو ابنا .

وقوله: (وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي:وألحقناهم بفواكه ولحوم من أنواع شتى، مما يستطاب ويشتهى .

وقوله (يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا) أي:يتعاطون فيها كأسا، أي:من الخمر (لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ) أي:لا يتكلمون عنها بكلام لاغ أي:هَذَيَان ولا إثم أي:فُحْش، كما تتكلم به الشَرَبة من أهل الدنيا .

فنـزَّه الله خمر الآخرة عن قاذورات خمر الدنيا وأذاها، فنفى عنها صداع الرأس، ووجع البطن، وإزالة العقل بالكلية، وأخبر أنها لا تحملهم على الكلام السيئ الفارغ عن الفائدة المتضمن هَذَيَانا وفُحشا، وأخبر بحسن منظرها، وطيب طعمها ومخبرها فقال: (يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ) .

وقوله: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) أي خدم شباب كأنهم في الصفاء والبياض والتناسق لؤلؤ مصون في أصدافه .

وقوله: (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ) أي:أقبلوا يتحادثون ويتساءلون عن أعمالهم وأحوالهم في الدنيا، وهذا كما يتحادث أهل الشراب على شرابهم إذا أخذ فيهم الشراب بما كان من أمرهم .

(قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ) أي:قد كنا في الدار الدنيا ونحن بين أهلنا خائفين من ربنا مشفقين من عذابه وعقابه، (فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ) أي:فتصدق علينا وأجارنا مما نخاف .

(إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ) أي:نتضرع إليه فاستجاب الله لنا وأعطانا سؤلنا، (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ)

فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31)

يقول تعالى آمرا رسوله، صلوات الله وسلامه عليه، بأن يبلغ رسالته إلى عباده، وأن يذكرهم بما أنـزل الله عليه ثم نفى عنه ما يرميه به أهل البهتان والفجور فقال: (فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) أي:لست بحمد الله بكاهن كما تقوله الجهلة من كفار قريش والكاهن:الذي يأتيه الرئي من الجان بالكلمة يتلقاها من خبر السماء، (وَلا مَجْنُونٍ) :وهو الذي يتخبطه الشيطان من المس .

ثم قال تعالى منكرا عليهم في قولهم في الرسول، صلوات الله وسلامه عليه: (أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) أي:قوارع الدهر والمنون:الموت:يقولون:ننظره ونصبر عليه حتى يأتيه الموت فنستريح منه ومن شأنه، قال الله تعالى: (قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) أي:انتظروا فإني منتظر معكم، وستعلمون لمن تكون العاقبة والنّصرة في الدنيا والآخرة .

أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)

ثم قال تعالى: (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا) أي:عقولهم تأمرهم بهذا الذي يقولونه فيك من الأقوال الباطلة التي يعلمون في أنفسهم أنها كذب وزور؟ (أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) أي:ولكن هم قوم ضلال معاندون، فهذا هو الذي يحملهم على ما قالوه فيك .وقوله: (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ) أي:اختلقه وافتراه من عند نفسه، يعنون القرآن:قال الله: (بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) أي:كفرهم هو الذي يحملهم على هذه المقالة (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ) أي:إن كانوا صادقين في قولهم تَقوَّله وافتراه فليأتوا بمثل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من هذا القرآن، فإنهم لو اجتمعوا هم وجميع أهل الأرض من الجن والإنس، ما جاءوا بمثله، ولا بعشر سور من مثله، ولا بسورة من مثله .

أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)

هذا المقام في إثبات الربوبية وتوحيد الألوهية، فقال تعالى: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) أي:أوجدوا من غير موجد؟ أم هم أوجدوا أنفسهم؟ أي:لا هذا ولا هذا، بل الله هو الذي خلقهم وأنشأهم بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا .روى البخاري عن جبير بن مطعم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ) كاد قلبي أن يطير .وجبير بن مطعم كان قد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بعد وقعة بدر في فداء الأسارى، وكان إذ ذاك مشركا، وكان سماعه هذه الآية من هذه السورة من جملة ما حمله على الدخول في الإسلام بعد ذلك .ثم قال تعالى: (أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ) أي:أهم خلقوا السماوات والأرض؟ وهذا إنكار عليهم في شركهم بالله، وهم يعلمون أنه الخالق وحده، لا شريك له ولكن عدم إيقانهم هو الذي يحملهم على ذلك، (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ) أي:أهم يتصرفون في الملك وبيدهم مفاتيح الخزائن، (أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ) أي:المحاسبون للخلائق، ليس الأمر كذلك، بل الله، عز وجل، هو المالك المتصرف الفعال لما يريد .وقوله: (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) أي:مرقاة إلى الملأ الأعلى، (فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) أي:فليأت الذي يستمع لهم بحجة ظاهرة على صحة ما هم فيه من الفعال والمقال، أي:وليس لهم سبيل إلى ذلك، فليسوا على شيء، ولا لهم دليل .ثم قال منكرا عليهم فيما نسبوه إليه من البنات، وجعلهم الملائكة إناثا، واختيارهم لأنفسهم الذكور على الإناث، بحيث إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم هذا وقد جعلوا الملائكة بنات الله، وعبدوهم مع الله، فقال: (أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا) أي:أجرة على إبلاغك إياهم رسالة الله؟ أي:لست تسألهم على ذلك شيئا، (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) أي:فهم من أدنى شيء يتبرمون منه، ويثقلهم ويشق عليهم، (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) أي:ليس الأمر كذلك، فإنه لا يعلم أحد من أهل السماوات والأرض الغيب إلا الله، (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) يقول تعالى:أم يريد هؤلاء بقولهم هذا في الرسول وفي الدين غرور الناس وكيد الرسول وأصحابه، فكيدهم إنما يرجع وباله على أنفسهم، فالذين كفروا هم المكيدون، (أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) وهذا إنكار شديد على المشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد مع الله ثم نـزه نفسه الكريمة عما يقولون ويفترون ويشركون، فقال: (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) .

وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)

يقول تعالى مخبرا عن المشركين بالعناد والمكابرة للمحسوس: (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا) أي:عليهم يعذبون به، لما صدقوا ولما أيقنوا، بل يقولون:هذا (سَحَابٌ مَرْكُومٌ) أي:متراكم ، قال الله تعالى: (فذرهم) أي:دعهم يا محمد (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) ، وذلك يوم القيامة، (يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا) أي:لا ينفعهم كيدهم ومكرهم الذي استعملوه في الدنيا، لا يُجدي عنهم يوم القيامة شيئا، (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) .

ثم قال: (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ) أي:قبل ذلك في الدار الدنيا ، ولهذا قال: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي:نعذبهم في الدنيا، ونبتليهم فيها بالمصائب، لعلهم يرجعون وينيبون ، فلا يفهمون ما يراد بهم، بل إذا جلي عنهم مما كانوا فيه، عادوا إلى أسوأ ما كانوا عليه .

وقوله: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) أي:اصبر على أذاهم ولا تبالهم، فإنك بمرأى منا وتحت كلاءتنا، والله يعصمك من الناس .

وقوله: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) قال الضحاك:أي إلى الصلاة:سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك .

وروى مسلم في صحيحه، عن عمر أنه كان يقول هذا في ابتداء الصلاة ورواه أحمد وأهل السنن، عن أبي سعيد وغيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول ذلك .

وقوله: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) أي:اذكره واعبده بالتلاوة والصلاة في الليل .

وقوله: (وَإِدْبَارَ النُّجُومِ) وقد ثبت في صحيح البخاري عن عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت:لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد منه تعاهدًا على ركعتي الفجر ، وفي لفظ لمسلم: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها)

تم تفسير سورة الطور ولله الحمد والمنة

14 - 8 - 1438هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

3 + 9 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر