تفسير سورة الذاريات

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الأحد 18 شعبان 1438هـ | عدد الزيارات: 1336 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد

سورة الذاريات مكية وآياتها 60

بسم الله الرحمن الرحيم

وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)

أقسم الله تعالى بالرياح المثيرات للتراب فقال تعالى: وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا وبالسحب الحاملات ثقلا عظيما من الماء فقال تعالى فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا وبالسفن التي تجري في البحارجريا ذا يسر وسهوله فقال تعالى : فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا ، وبالملائكة التي تقسم أمر الله في خلقه فقال : فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا

وقال تعالى: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ أي : لخبرُ صدقٍ ، وَإِنَّ الدِّينَ ، وهو:الحساب لواقع أي: لكائن لا محالة .

وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ(10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)

ثم قال : وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ : ذات البهاء والجمال والحسن والاستواء

وقوله : إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ أي:إنكم أيها المشركون المكذبون للرسل لفي قول مختلف مضطرب، لا يلتئم ولا يجتمع .

يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ أي: إنما يروج على من هو ضال في نفسه؛ لأنه قول باطل إنما ينقاد له ويضل بسببه ويؤفك عنه من هو مأفوك ضال غَمْر، لا فهم له .

وقوله: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ:الكذابون .

وقوله: الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ : في الكفر والشك غافلون لاهون

يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ :وإنما يقولون هذا تكذيبا وعنادا وشكا واستبعادا قال الله تعالى: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ : يفتنون يعذبون .

ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ :عذابكم، هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ :أي:يقال لهم ذلك تقريعًا وتوبيخًا وتحقيرًا وتصغيرًا .

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ 19 وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)

يقول تعالى مخبرا عن المتقين لله، عز وجل:إنهم يوم معادهم يكونون في جنات وعيون، بخلاف ما أولئك الأشقياء فيه من العذاب والنكال، والحريق والأغلال .

وقوله: آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ ، قوله : إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ أي:في الدار الدنيا محسنين ، ثم إنه تعالى بَيَّن إحسانهم في العمل فقال: كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ : لم تكن تمضي عليهم ليلة إلا يأخذون منها ولو شيئا .

وقال عبد الله بن سلام : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، انجفل الناس إليه، فكنت فيمن انجفل فلما رأيت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه رَجُل كذاب، فكان أول ما سمعته يقول:" يا أيها الناس، أطعموا الطعام، وصِلُوا الأرحام، وأفشوا السلام، وصَلُّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام " رواه الترمذي وقال حسن صحيح

وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها فقال أبو موسى الأشعري:لمن هي يا رسول الله؟ قال: لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام، وبات لله قائما، والناس نيام " صححه أحمد شاكر

وقوله عز وجل: وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ الأسحار التي هي قبيل الفجر أي قاموا الليل، وأخروا الاستغفار إلى الأسحار ، فإن كان الاستغفار في صلاة فهو أحسن ، فعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إلى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يقولُ: مَن يَدْعُونِي، فأسْتَجِيبَ له مَن يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَن يَسْتَغْفِرُنِي فأغْفِرَ له. متفق عليه

وقوله: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ : لما وصفهم بالصلاة ثنى بوصفهم بالزكاة والبر والصلة، فقال: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ أي:جزء مقسوم قد أفرزوه لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ، أما السائل فمعروف، وهو الذي يبتدئ بالسؤال، وله حق .

وأما المحروم هو الذي لا مال له بأي سبب كان، قد ذهب ماله، سواء كان لا يقدر على الكسب، أو قد هلك ماله أو نحوه بآفة أو نحوها .

وقوله: وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ أي:فيها من الآيات الدالة على عظمة خالقها وقدرته الباهرة، مما قد ذرأ فيها من صنوف النبات والحيوانات، والمهاد والجبال، والقفار والأنهار والبحار، واختلاف ألسنة الناس وألوانهم، وما جبلوا عليه من الإرادات والقوى، وما بينهم من التفاوت في العقول والفهوم والحركات، والسعادة والشقاوة، وما في تركيبهم من الحكم في وضع كل عضو من أعضائهم في المحل الذي هو محتاج إليه فيه؛ ولهذا قال: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ :قال قتادة:من تفكر في خلق نفسه عرف أنه إنما خلق ولينت مفاصله للعبادة .

ثم قال: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ يعني:المطر، وَمَا تُوعَدُونَ يعني:الجنة .

وقوله: فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ يقسم تعالى بنفسه الكريمة أن ما وعدهم به من أمر القيامة والبعث والجزاء، كائن لا محالة، وهو حق لا مرية فيه، فلا تشكوا فيه كما لا تشكون في نطقكم حين تنطقون .

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ 24 إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ 25 فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ 26 فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ 27 فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ 28 فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ 29 قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ 30

قوله: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ أي:الذين أرصد لهم الكرامة، وقد وردت السنة بضيافة النزيل لقوله صلى الله عليه وسلم " من كان يؤمن بالله واليوم والآخر فليكرم ضيفه " رواه البخاري ومسلم

وقوله: قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ :الرفع أقوى وأثبت من النصب، فرده أفضل من التسليم .

وقوله: قَوْمٌ مُنْكَرُونَ :وذلك أن الملائكة وهم:جبريل وإسرافيل وميكائيل قدموا عليه في صور شبان حسان عليهم مهابة عظيمة؛ ولهذا قال: قَوْمٌ مُنْكَرُونَ .

وقوله: فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ أي:انسل خفية في سرعة، فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ أي:من خيار ماله ، فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ أي:أدناه منهم، قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ تلطف في العبارة وعرض حسن .

وهذه الآية انتظمت فيها آداب الضيافة ؛ فإنه جاء بطعامه من حيث لا يشعرون بسرعة، ولم يمتن عليهم أولا فقال: نأتيكم بطعام؟ بل جاء به بسرعة وخفاء، وأتى بأفضل ما وجد من ماله، وهو عجل فتي سمين مشوي، فقربه إليهم، لم يضعه، وقال:اقتربوا، بل وضعه بين أيديهم، ولم يأمرهم أمرا يشق على سامعه بصيغة الجزم، بل قال: أَلا تَأْكُلُونَ على سبيل العرض والتلطف، كما يقول القائل اليوم:إن رأيت أن تتفضل وتحسن وتتصدق، فافعل .

وقوله: فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً :أحس في نفسه خوفا منهم

قوله : قَالُوا لا تَخَفْ : إنا رسل الله وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ :وبشروه بأن زوجته سارة ستلد له ولدا سيكون من أهل العلم بالله وبدينه وهو إسحاق عليه السلام

وقوله: فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ أي:في صرخة عظيمة ، وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ أي:كيف ألد وأنا عجوزعقيم ، وقد كنتُ في حال الصِّبا عقيما لا أحبل ؟

قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ أي:عليم بما تستحقون من الكرامة، حكيم في أقواله وأفعاله

قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ 31 قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ 32 لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ 33 مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ 34 فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ 35 فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ 36 وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ 37

قال تعالى : قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ أي:ما شأنكم وفيم جئتم؟

قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ يعنون قوم لوط

لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ* مُسَوَّمَةً أي:معلمة عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ أي:مكتتبة عنده بأسمائهم، كل حجر عليه اسم صاحبه ، وقوله : فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وهم لوط وأهل بيته إلا امرأته .

فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وهو بيت لوط عليه السلام

وقوله: وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الألِيمَ أي:جعلناها عبرة، لما أنـزلنا بهم من العذاب والنكال وحجارة السجيل .

ما تضمنته هذه القصة من الحكم والأحكام :

منها: أن من الحكمة، قص الله على عباده نبأ الأخيار والفجار، ليعتبروا بحالهم وأين وصلت بهم الأحوال .

ومنها: فضل إبراهيم الخليل، عليه الصلاة والسلام، حيث ابتدأ الله قصته، بما يدل على الاهتمام بشأنها، والاعتناء بها .

ومنها: مشروعية الضيافة، وأنها من سنن إبراهيم الخليل، الذي أمر الله هذا النبي وأمته، أن يتبعوا ملته، وساقها الله في هذا الموضع، على وجه المدح له والثناء .

ومنها: أن الضيف يكرم بأنواع الإكرام، بالقول، والفعل، لأن الله وصف أضياف إبراهيم، بأنهم مكرمون، أي: أكرمهم إبراهيم، ووصف الله ما صنع بهم من الضيافة، قولا وفعلا ومكرمون أيضًا عند الله تعالى .

ومنها: أن إبراهيم عليه السلام، قد كان بيته، مأوى للطارقين والأضياف، لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان، وإنما سلكوا طريق الأدب، في ابتداء السلام فرد عليهم إبراهيم سلامًا، أكمل من سلامهم وأتم، لأنه أتى به جملة اسمية، دالة على الثبوت والاستمرار .

ومنها: مشروعية تعرف من جاء إلى الإنسان، أو صار له فيه نوع اتصال، لأن في ذلك، فوائد كثيرة .

ومنها: أدب إبراهيم ولطفه في الكلام، حيث قال: قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ولم يقل: أنكرتكم وبين اللفظين من الفرق، ما لا يخفى .

ومنها: المبادرة إلى الضيافة والإسراع بها، لأن خير البر عاجله ولهذا بادر إبراهيم بإحضار قرى أضيافه .

ومنها: أن الذبيحة الحاضرة، التي قد أعدت لغير الضيف الحاضر إذا جعلت له، ليس فيها أقل إهانة، بل ذلك من الإكرام، كما فعل إبراهيم عليه السلام، وأخبر الله أن ضيفه مكرمون .

ومنها: ما من الله به على خليله إبراهيم، من الكرم الكثير، وكون ذلك حاضرًا عنده وفي بيته معدًا، لا يحتاج إلى أن يأتي به من السوق، أو الجيران، أو غير ذلك .

ومنها أن إبراهيم، هو الذي خدم أضيافه، وهو خليل الرحمن، وسيد من ضيف الضيفان

ومنها: أنه قربه إليهم في المكان الذي هم فيه، ولم يجعله في موضع، ويقول لهم: تفضلوا، أو ائتوا إليه لأن هذا أيسر عليهم وأحسن .

ومنها: حسن ملاطفة الضيف في الكلام اللين، خصوصاً، عند تقديم الطعام إليه، فإن إبراهيم عرض عليهم عرضاً لطيفاً، وقال: أَلا تَأْكُلُونَ ولم يقل: كلوا ونحوه من الألفاظ، التي غيرها أولى منها، بل أتى بأداة العرض، فقال: أَلا تَأْكُلُونَ فينبغي للمقتدى به أن يستعمل من الألفاظ الحسنة، ما هو المناسب واللائق بالحال، كقوله لأضيافه: ألا تأكلون أو: ألا تتفضلون علينا وتشرفوننا وتحسنون إلينا ونحوه .

ومنها: أن من خاف من الإنسان لسبب من الأسباب، فإن عليه أن يزيل عنه الخوف، ويذكر له ما يؤمن روعه، ويسكن جأشه، كما قالت الملائكة لإبراهيم لما خافهم : لا تَخَفْ وأخبروه بتلك البشارة السارة، بعد الخوف منهم .

ومنها: شدة فرح سارة، امرأة إبراهيم، حين جرى منها ما جرى، من لطم وجهها، وصيحتها غير المعهودة .

ومنها: ما أكرم الله به إبراهيم وزوجته سارة، من البشارة، بغلام عليم .

وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ 38 فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ 39 فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ 40 وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ 41 مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ 42 وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ 43 فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ 44 فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ 45 وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ 46

يقول تعالى: وَفِي مُوسَى : آية ، إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ أي:بدليل باهر وحجة قاطعة، فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ أي:فأعرض فرعون عما جاءه به موسى من الحق المبين، استكبارا وعنادا .

وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أي:لا يخلو أمرك فيما جئتني به من أن تكون ساحرا، أو مجنونا .

قال الله تعالى: فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ أي:ألقيناهم في اليم، وهو البحر، وَهُوَ مُلِيمٌ أي:وهو ملوم كافر جاحد فاجر معاند .

ثم قال: (وَفِي عَادٍ) القبيلة المعروفة (إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) أي:المفسدة التي لا تنتج شيئا

ولهذا قال: مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ أي: مما تفسده الريح إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ أي:كالشيء الهالك البالي .

قال سعيد بن المسيب وغيره في قوله: إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ قالوا:هي الجنوب وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدَبور متفق عليه

وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ :يعني إلى وقت فناء آجالكم

وفيهم آية عظيمة حين أرسل الله عليهم صالحاً عليه السلام فكذبوه وعاندوه وبعث الله له الناقة آية مبصرة فلم يزدهم ذلك إلا عتواً ونفوراً .

وَفِي ثمود إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ * فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ، وذلك أنهم انتظروا العذاب ثلاثة أيام وجاءهم في صبيحة اليوم الرابع بُكْرَة النهار فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ أي:من هَرَبٍ ولا نهوض، وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ أي:ولا يقدرون على أن ينتصروا مما هم فيه .

وقوله: وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ أي:وأهلكنا قوم نوح من قبل هؤلاء إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ وكل هذه القصص قد تقدمت في أماكن كثيرة، من سور متعددة .

وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ 47 وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ 48 وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ 49 فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ 50 وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ 51

يقول تعالى منبها على خلق العالم العلوي والسفلي: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا أي:جعلناها سقفا محفوظا رفيعا بأيد أي:بقوة ، وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ، أي:قد وسعنا أرجاءها ورفعناها بغير عمد، حتى استقلت كما هي .

وَالأرْضَ فَرَشْنَاهَا أي:جعلناها فراشًا للمخلوقات، فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ أي:وجعلناها مهدا لأهلها .

وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ أي:جميع المخلوقات أزواج:سماء وأرض، وليل ونهار، وشمس وقمر، وبر وبحر، وضياء وظلام، وإيمان وكفر، وموت وحياة، وشقاء وسعادة، وجنة ونار، جن وإنس، ذكور وإناث حتى الحيوانات والنباتات، ولهذا قال: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي:لتعلموا أن الخالق واحدٌ لا شريك له .

فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ أي:الجئوا إليه، واعتمدوا في أموركم عليه، إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ

وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ أي: ولا تشركوا به شيئا، إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ

كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ 52 أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ 53 فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ 54 وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ 55 وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ 56 مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ 57 إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ 58 فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ 59 فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ 60

يقول تعالى مسليا نبيه صلى الله عليه وسلم:وكما قال لك هؤلاء المشركون، قال المكذبون الأولون لرسلهم: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ .

قال الله تعالى: أَتَوَاصَوْا بِهِ أي:أوصى بعضُهم بعضا بهذه المقالة؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ أي:لكن هم قوم طغاة، تشابهت قلوبهم، فقال متأخرهم كما قال متقدمهم .

قال الله تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أي:فأعرض عنهم يا محمد، (فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ) في ذنبهم وإنما عليك البلاغ وقد أديت ما حملت وبلغت ما أرسلت به .

وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ والتذكير نوعان تذكير بما لم يعرف تفصيله مما عرف مجمله بالفطر والعقول فإن الله فطر العقول على محبة الخير وإثاره وكراهة الشر والزهد فيه .

وشرعه موافق لذلك فكل أمر ونهي من الشرع فهو من التذكير وتمام التذكير أن يذكر ما فيه المأمور من الخير والحسن والمصالح وما في المنهي عنه من المضار .

والنوع الثاني من التذكير تذكير بما هو معلوم للمؤمنين ولكن انسحبت عليه الغفلة والذهول فيذكرون بذلك ويكرر عليهم ليرسخ في أذهانهم وينتبهوا ويعملوا بما تذكروه من ذلك ليحدث لهم نشاطاً وهمة توجب لهم الإنتفاع والإرتفاع وأخبر الله أن الذكرى تنفع المؤمنين لأن ما معهم من الإيمان والخشية والإنابة واتباع رضوان الله يوجب لهم أن تنفع فيهم الذكرى وتقع الموعظة منهم موقعها وأما من ليس معه إيمان ولا استعداد لقبول التذكير فهذا لا ينفع تذكيره .

فهو بمنزلة الأرض السبخة التي لا يفيدها المطر شيئاً وهؤلاء الصنف لو جاءتهم كل آية لا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم أي:إنما تنتفع بها القلوب المؤمنة .

ثم قال: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ أي:إنما خلقتهم لعبادتي، لا لاحتياجي إليهم .

وهذه هي الغاية التي خلق الله الجن والإنس لها وبعث جميع الرسل يدعون إليها وهي عبادته المتضمنة لمعرفته ومحبته والإنابة إليه والإقبال عليه والإعراض عما سواه وذلك متوقف على معرفة الله تعالى فإن تمام العبادة متوقف على المعرفة بالله بل كلما زاد العبد معرفة لربه كانت عبادته أكمل فهذا هو الذي خلق الله المكلفين لأجله فما خلقهم لحاجة منه إليهم .

وقوله: (مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) تعالى الله الغني عن الحاجة إلى أحد بوجه من الوجوه إنما جميع الخلق فقراء إليه في جميع حوائجهم ومطالبهم الضرورية وغيرها ولهذا قال (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ) كثير الرزق الذي ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها (ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) له القوة والقدرة كلها الذي أوجد بها الأجرام السماوية وبها تصرف في الظواهر والبواطن ونفذت مشيئته في جميع البريات فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ولا يعجزه هارب ولا يخرج من سلطانه وقوته أحد إنه أوصل رزقه إلى جميع العالم ومن قدرته وقوته أنه يبعث الأموات بعد ما مزقهم البلاء وعصفت بهم الرياح وابتلعتهم الطيور والسباع وتمزقوا وتفرقوا في القفار ولجج البحار فلا يفوته منهم أحد فسبحان القوي المتين .

ومعنى الآية : أنه تعالى خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ورازقهم .

روى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:قال الله: يا ابن آدم، تَفَرَّغ لعبادتي أملأ صدرك غِنًى، وأسدّ فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسد فقرك " صححه الألباني

وقوله (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) بتكذيبهم محمداً صلى الله عليه وسلم من العذاب والنكال (ذَنُوبًا) أي:نصيبا وقسطاً من العذاب، (مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ) من أهل الظلم والتكذيب (فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) بالعذاب، فإنه واقع بهم لا محالة وسنة الله في الأمم واحدة فكل مكذب يدوم على تكذيبه من غير توبة وإنابة فإنه لا بد أن يقع عليه العذاب ولو تأخر عنه مدة ولهذا توعدهم الله يوم القيامة فقال :

فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ يعني:يوم القيامة الذي قد وعدوا فيه بأنواع العذاب والنكال والأغلال فلا مغيث ولا منقذ لهم من عذاب الله نعوذ بالله من ذلك .

تم تفسير سورة الذاريات ولله الحمد والمنة

18 - 8 - 1438هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

2 + 5 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 124 الجزء الثالث ‌‌أهمية الغطاء على وجه المرأة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 123 الجزء الثالث ‌‌حكم قيادة المرأة للسيارة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر