تفسير سورة فصلت

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الإثنين 12 محرم 1439هـ | عدد الزيارات: 1603 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

سورة فصلت مكية وآياتها 54

بسم الله الرحمن الرحيم

حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)

يقول تعالى: (حم * تَنـزيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) حم: هذا أحد الحروف المقطعة يكتب هكذا حم، ويقرأ هكذا حا ميم

يخبر تعالى عباده أن هذا الكتاب الجليل (تَنزيلُ) صادر (مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) الذي وسعت رحمته كل شيء، الذي من أعظم رحمته وأجلها، إنزال هذا الكتاب، الذي حصل به من العلم والهدى، والنور، والشفاء، والرحمة، والخير الكثير، وهو من أجل نعمه على العباد، وهو الطريق للسعادة في الدارين .

وقوله: (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ) أي:بُينت معانيه وأحكمت أحكامه ، (قُرْآناً عَرَبِيّاً) أي:في حال كونه لفظا عربيا، بينا واضحا، فمعانيه مفصلة، وألفاظه واضحة غير مشكلة .

وقوله: (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي:إنما يعرف هذا البيان والوضوح العلماءُ الراسخون، (بَشِيراً وَنَذِيراً) أي:تارة يبشر المؤمنين، وتارة ينذر الكافرين، (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) أي:أكثر قريش، فهم لا يفهمون منه شيئا مع بيانه ووضوحه .

(وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ) أي:في غلف مغطاة (مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ) أي:صمم عما جئتنا به، (وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ) فلا يصل إلينا شيء مما تقول، (فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ) أي:اعمل أنت على طريقتك، ونحن على طريقتنا لا نتابعك .

عن محمد بن كعب القُرَظي قال:حُدِّثْتُ أن عتبة بن ربيعة - وكان سيدا- قال يوما وهو جالس في نادي قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده:يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيَّها شاء ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة، ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون، فقالوا:بلى يا أبا الوليد، فقم إليه فكلمه فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السِّطَة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منا بعضها قال:فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « قل يا أبا الوليد، أسمع » قال:يا ابن أخي، إن كنت إنما تريدُ بما جئتَ به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون من أكثرنا أموالا وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا، حتى لا نقطع أمراً دونك وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا وإن كان هذا الذي يأتيك رَئِيّا تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يُدَاوَى منه - أو كما قال له- حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال: « أفرغت يا أبا الوليد؟ » قال:نعم قال: « فاستمع مني » قال:أفعل قال: (بسم الله الرحمن الرحيم * حم * تَنـزيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه فلما سمع عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها، فسجد ثم قال: «قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض:أقسم - يحلف بالله- لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به فلما جلس إليهم قالوا:ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال:ورائي أني قد سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالسحر ولا بالشعر ولا بالكهانة يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها لي، خلوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونَنَّ لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فمُلْكُهُ ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به قالوا:سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه! قال:هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم» سيرة ابن هشام ج 1، ص 322

قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)

يقول تعالى: (قُلْ) يا محمد لهؤلاء المكذبين المشركين: (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) لا كما تعبدونه من الأصنام والأنداد والأرباب المتفرقين، إنما الله إله واحد، (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ) أي:أخلصوا له العبادة على منوال ما أمركم به على ألسنة الرسل، (وَاسْتَغْفِرُوهُ) أي:لسالف الذنوب، (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ) أي:دمار لهم وهلاك عليهم .

(الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) أي: الذين عبدوا من دونه من لا يملك نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً ودنسوا أنفسهم فلم يزكوها بتوحيد ربهم، ولم يصلوا ولا زكوا، فلا إخلاص منهم للخالق بالتوحيد والصلاة ولا نفع للخلق منهم بالزكاة وغيرها .

والمراد بالزكاة هاهنا:طهارة النفس من الأخلاق الرذيلة، ومن أهم ذلك طهارة النفس من الشرك وزكاة المال إنما سميت زكاة لأنها تطهره من الحرام، وتكون سببا لزيادته وبركته وكثرة نفعه، وتوفيقا إلى استعماله في الطاعات .

ثم قال بعد ذلك: (إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي لا مقطوع ولا مجبوب .

قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)

هذا إنكار من الله على المشركين الذين عبدوا معه غيره، وهو الخالق لكل شيء، القاهر لكل شيء، المقدر لكل شيء، فقال: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً) أي:نظراء وأمثالا تعبدونها معه (ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ) أي:الخالق للأشياء هو رب العالمين كلهم .

ففصل ما يختص بالأرض مما اختص بالسماء، فذكر أنه خلق الأرض أولا لأنها كالأساس، والأصل أن يُبْدَأَ بالأساس، ثم بعده بالسقف .

فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض ثم قال: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) إلى قوله: (طَائِعِينَ) فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء .

وخلق الأرض في يومين، ثم خلق السماء، ثم استوى إلى السماء، فسواهن في يومين آخرين، ثم دَحَى الأرض، ودَحْيُها:أن أخرج منها الماء والمرعى، وخلق الجبال والجماد والآكام وما بينهما في يومين آخرين، فذلك قوله: دَحَاهَا وقوله (خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) فَخُلِقت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام، وخلقت السماوات في يومين .

(وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا) أي:جعلها مباركة قابلة للخير والبذر والغراس، (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) ، وهو:ما يحتاج أهلها إليه من الأرزاق والأماكن التي تزرع وتغرس، ولهذا قال تعالى: (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) أي:لمن أراد السؤال عن ذلك ليعلمه .

وقوله: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ) ، وهو:بخار الماء المتصاعد منه حين خلقت الأرض، (فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهًا) أي: انقادا لأمري طائعتين أو مكرهتين فلا بد من نفوذه (قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) ليس لنا إرادة تخالف إرادتك .

فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)

(فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ) أي:ففرغ من تسويتهن سبع سماوات في يومين

(وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا) أي:ورتب مقررا في كل سماء ما تحتاج إليه من الملائكة، وما فيها من الأشياء التي لا يعلمها إلا هو، (وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ) وهن الكواكب المنيرة المشرقة على أهل الأرض، (وَحِفْظاً) أي:حرسا من الشياطين أن تستمع إلى الملأ الأعلى .

(ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي:العزيز الذي قد عز كل شيء فغلبه وقهره، العليم بجميع حركات المخلوقات وسكناتهم .

فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ ءامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)

يقول تعالى:قل يا محمد لهؤلاء المشركين المكذبين بما جئتهم به من الحق:إن أعرضتم عما جئتكم به من عند الله فإني أنذركم حلول نقمة الله بكم، كما حلت بالأمم الماضين من المكذبين بالمرسلين (صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) أي:ومن شاكلهما ممن فعل كفعلهما (إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) أي:في القرى المجاورة لبلادهم، بعث الله إليهم الرسل يأمرون بعبادة الله وحده لا شريك له، ومبشرين ومنذرين ورأوا ما أحل الله بأعدائه من النقم، وما ألبس أولياءه من النعم، ومع هذا ما ءامنوا ولا صدقوا، بل كذبوا وجحدوا، وقالوا: (لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأنـزلَ مَلائِكَةً) أي:لو أرسل الله رسلا لكانوا ملائكة من عنده، (فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ) أي:أيها البشر (كَافِرُونَ) أي:لا نتبعكم وأنتم بشر مثلنا .

قال الله تعالى: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقٍّ) أي:بغوا وعتوا وعصوا، (وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) أي:افتخروا بشدة تركيبهم وقواهم، واعتقدوا أنهم يمتنعون به من بأس الله (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) أي:أفلا يتفكرون فيمن يبارزون بالعداوة؟ فإنه العظيم الذي خلق الأشياء وركب فيها قواها الحاملة لها، وإن بطشه شديد، فبارزوا الجبار بالعداوة، وجحدوا آياته وعصوا رسوله، فلهذا قال: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) شديدة قوية؛ لتكون عقوبتهم من جنس ما اغتروا به من قواهم، وكانت باردة شديدة البرد جدا، وكانت ذات صوت مزعج، ومنه سمي النهر المشهور ببلاد المشرق (بغداد القديمة)صرصرا لقوة صوت جريه.

وقوله: (فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ) أي:متتابعات، أي:ابتدءُوا بهذا العذاب في يوم نحس عليهم، واستمر بهم هذا النحس سبع ليال وثمانية أيام حتى أبادهم عن آخرهم، واتصل بهم خزي الدنيا بعذاب الآخرة؛ ولهذا قال تعالى: (لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى) أي: أشد خزيا لهم، (وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ) أي:في الأخرى ، كما لم ينصروا في الدنيا، وما كان لهم من الله من واق يقيهم العذاب ويدرأ عنهم النكال .

وقوله: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ) بينا لهم

(فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) أي:بصرناهم، وبينا لهم، ووضحنا لهم الحق على لسان نبيهم صالح صلى الله عليه وسلم ، فخالفوه وكذبوه، وعقروا ناقة الله التي جعلها آية وعلامة على صدق نبيهم، (فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ) أي:بعث الله عليهم صيحة ورجفة وذلا وهوانا وعذابا ونكالا (بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) أي:من التكذيب والجحود

(وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ ءامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) أي:من بين أظهرهم، لم يمسهم سوء، ولا نالهم من ذلك ضرر، بل نجاهم الله مع نبيهم صالح عليه السلام بإيمانهم، وتقواهم لله، عز وجل .

وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20)

يقول تعالى: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي:اذكر لهؤلاء المشركين يوم يحشرون إلى النار (يُوزَعُونَ) ، أي:تجمع الزبانية أولهم على آخرهم .

وقوله: (حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا) أي:وقفوا عليها، (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) أي:بأعمالهم مما قدموه وأخروه، لا يُكْتَم منه حرف .

وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)

(وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا) أي:لاموا أعضاءهم وجلودهم حين شهدوا عليهم، فعند ذلك أجابتهم الأعضاء: (قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي:فهو لا يخالف ولا يمانع، وإليه ترجعون .

وقوله: (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ) أي:تقول لهم الأعضاء والجلود حين يلومونها على الشهادة عليهم:ما كنتم تتكتمون منا الذي كنتم تفعلونه بل كنتم تجاهرون الله بالكفر والمعاصي، ولا تبالون منه في زعمكم؛ لأنكم كنتم لا تعتقدون أنه يعلم جميع أفعالكم؛ ولهذا قال: (وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ) أي:هذا الظن الفاسد - وهو اعتقادكم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون- هو الذي أتلفكم وأرداكم عند ربكم، (فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) أي:في مواقف القيامة خسرتم أنفسكم وأهليكم

وقوله: (فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) « أي:سواء عليهم أصبروا أم لم يصبروا هم في النار، لا محيد لهم عنها، ولا خروج لهم منها وإن طلبوا أن يستعتبوا ويبدوا أعذارا فما لهم أعذار، ولا تُقَال لهم عثرات .

وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ (29)

يذكر تعالى أنه هو الذي أضل المشركين، وأن ذلك بمشيئته وكونه وقدرته، وهو الحكيم في أفعاله، بما قَيَّض لهم من القرناء من شياطين الإنس والجن: (فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ) أي:حَسَّنوا لهم أعمالهم في الماضي، وبالنسبة إلى المستقبل فلم يروا أنفسهم إلا محسنين .

وقوله تعالى: (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي:كلمة العذاب كما حق على أمم قد خلت من قبلهم، ممن فعل كفعلهم، من الجن والإنس، (إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ) أي:استوَوا هم وإياهم في الخسارة والدمار .

وقوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) أي:تواصوا فيما بينهم ألا يطيعوا للقرآن، ولا ينقادوا لأوامره ، (وَالْغَوْا فِيهِ) أي:إذا تلي لا تسمعوا له.

(لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) هذا حال هؤلاء الجهلة من الكفار، ومن سلك مسلكهم عند سماع القرآن

ثم قال تعالى، منتصرا للقرآن، ومنتقما ممن عاداه من أهل الكفران: (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَاباً شَدِيداً) أي:في مقابلة ما اعتمدوه في القرآن وعند سماعه، (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) أي:بشَرِّ أعمالهم وسيِّئ أفعالهم: (ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ)

(نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا) أي:أسفل منا في العذاب ليكونا أشد عذابا منا؛ ولهذا قالوا: (لِيَكُونَا مِنَ الأسْفَلِينَ) أي:في الدرك الأسفل من النار

إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)

يقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) أي:أخلصوا العمل لله، وعملوا بطاعة الله تعالى على ما شرع الله لهم

روى الإمام مسلم عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك قال: « قل آمنت بالله ، ثم استقم »

وقوله: (تَتَنـزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) أي تهبط عليهم وذلك عند الموت بأن تقول لهم (أَلا تَخَافُوا) على ما أنتم مقدمون عليه من البرزخ والدار الآخرة (وَلا تَحْزَنُوا) على ما خلفتم وراءكم من أمر الدنيا (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) فيبشرونهم بذهاب الشر وحصول الخير .

وقوله: (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ) أي:تقول للمؤمنين عند الاحتضار:نحن كنا أولياءكم، أي:قرناءكم في الحياة الدنيا، نسددكم ونوفقكم، ونحفظكم بأمر الله، وكذلك نكون معكم في الآخرة نؤنس منكم الوحشة في القبور، وعند النفخة في الصور، ونؤمنكم يوم البعث والنشور، ونجاوز بكم الصراط المستقيم، ونوصلكم إلى جنات النعيم

وقوله (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) أي:في الجنة من جميع ما تختارون مما تشتهيه النفوس، وتقر به العيون، (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) أي:مهما طلبتم وجدتم، وحضر بين أيديكم،أي: كما اخترتم

(نـزلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) أي:ضيافة وعطاء وإنعاما من غفور لذنوبكم، رحيم بكم رءوف، حيث غفر، وستر، ورحم، ولطف

عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه » رواه البخاري ومسلم

وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)

يقول تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ) أي:دعا عباد الله إليه، (وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي:وهو في نفسه مهتد بما يقوله، فنفعه لنفسه ولغيره لازم ومُتَعَدٍ، وليس هو من الذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه، وينهون عن المنكر ويأتونه، بل يأتمر بالخير ويترك الشر، ويدعو الخلق إلى الخالق تبارك وتعالى وهذه عامة في كل من دعا إلى خير، وهو في نفسه مهتد

وقوله: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ) أي:فرق عظيم بين هذه وهذه، (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي:من أساء إليك فادفعه عنك بالإحسان إليه، كما قال عمر رضي الله عنه ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه

وقوله: (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) وهو الصديق، أي:إذا أحسنت إلى من أساء إليك قادته تلك الحسنة إليه إلى مصافاتك ومحبتك، والحنو عليك، حتى يصير كأنه ولي لك حميم أي:قريب إليك من الشفقة عليك والإحسان إليك

ثم قال: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا) أي:وما يقبل هذه الوصية ويعمل بها إلا من صبر على ذلك، فإنه يشق على النفوس، (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) أي:ذو نصيب وافر من السعادة في الدنيا والآخرة

فأمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان، وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم .

وقوله: (وَإِمَّا يَنـزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نـزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ) أي:إن شيطان الإنس ربما ينخدع بالإحسان إليه، فأما شيطان الجن فإنه لا حيلة فيه إذا وسوس إلا الاستعاذة بخالقه الذي سلطه عليك، فإذا استعذت بالله ولجأت إليه، كفه عنك ورد كيده وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم:إذا قام إلى الصلاة يقول: « أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه » صححه الألباني

وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (38)

يقول تعالى منبها خلقه على قدرته العظيمة، وأنه الذي لا نظير له وأنه على ما يشاء قادر، (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) أي:أنه خلق الليل بظلامه، والنهار بضيائه، وهما متعاقبان لا يقران، والشمس ونورها وإشراقها، والقمر وضياءه وتقدير منازله في فلكه، واختلاف سيره في سمائه، ليُعرف باختلاف سيره وسير الشمس مقادير الليل والنهار، والجمع والشهور والأعوام، ويتبين بذلك حلول الحقوق، وأوقات العبادات والمعاملات .

ثم لما كان الشمس والقمر أحسن الأجرام المشاهدة في العالم العلوي والسفلي، نبه تعالى على أنهما مخلوقان عبدان من عبيده، تحت قهره وتسخيره، فقال: (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) أي:ولا تشركوا به فما تنفعكم عبادتكم له مع عبادتكم لغيره، فإنه لا يغفر أن يشرك به؛ ولهذا قال: (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا) أي:عن إفراد العبادة له وأبوا إلا أن يشركوا معه غيره، (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) يعني:الملائكة، (يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) .

وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)

وقوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ) أي:على قدرته على إعادة الموتى (أَنَّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً) أي:هامدة لا نبات فيها، بل هي ميتة (فَإِذَا أَنـزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) أي:أخرجت من جميل ألوان الزروع والثمار، (إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43)

قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا) الإلحاد في آيات الله الميل بها عن الصواب بأي وجه كان، إما بإنكارها وجحودها وتكذيب ما جاء بها، وإما بتحريفها عن معناها الحقيقي، وإثبات معان لها ما أراده الله منها .

وقوله: (لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا) أي:فيه تهديد شديد، ووعيد أكيد، أي:إنه تعالى عالم بمن يلحد في آياته وأسمائه وصفاته، وسيجزيه على ذلك بالعقوبة والنكال؛ ولهذا قال: (أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي:أيستوي هذا وهذا؟ لا يستويان

ثم قال - عز وجل- تهديداً للكفرة: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ) إن شئتم فاسلكوا طريق الرشد الموصلة إلى رضا ربكم وجنته وإن شئتم فاسلكوا طريق الغي المسخطة لربكم الموصلة إلى دار الشقاء (إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) يجازيكم بحسب أحوالكم وأعمالكم .

ثم قال: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ) أي يجحدون القرآن (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ) أي:منيع الجناب، لا يرام أن يأتي أحد بمثله .

(لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) أي:ليس للبطلان إليه سبيل؛ لأنه منـزل من رب العالمين؛ ولهذا قال: (تَنـزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) أي:حكيم في أقواله وأفعاله، حميد على ما له من صفات الكمال ونعوت الجلال وعلى ما له من العدل والإفضال .

ثم قال: (مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) ما يقال لك من التكذيب إلا كما قد قيل للرسل من قبلك من جنسها، فكما قد كُذبت فقد كذبوا، وكما صبروا على أذى قومهم لهم، فاصبر أنت على أذى قومك لك .

وقوله: (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ) أي:لمن تاب إليه (وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ) أي:لمن استمر على كفره، وطغيانه، وعناده، ومخالفته .

وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءامَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45)

لما ذكر تعالى القرآن وفصاحته وبلاغته، وإحكامه في لفظه ومعناه، ومع هذا لم يؤمن به المشركون، نبه على أن كفرهم به كفر عناد وتعنت، وكذلك لو أنـزل القرآن كله بلغة العجم، لقالوا على وجه التعنت والعناد: (لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ) أي:لقالوا:هلا أنـزل مفصلا بلغة العرب، ولأنكروا ذلك وقالوا:أعجمي وعربي؟ أي:كيف ينـزل كلام أعجمي على مخاطب عربي لا يفهمه .

ثم قال تعالى: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءامَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ) أي:قل يا محمد:هذا القرآن لمن آمن به هدى لقلبه وشفاء لما في الصدور من الشكوك والريب، (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ) أي:لا يفهمون ما فيه، (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمى) أي:لا يهتدون إلى ما فيه من البيان .

(أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) أي: ينادون إلى الإيمان، ويدعون إليه، فلا يستجيبون بمنزلة الذي ينادى، وهو في مكان بعيد، لا يسمع داعياً ولا يجيب منادياً .

والمقصود: أن الذين لا يؤمنون بالقرآن، لا ينتفعون بهداه، ولا يبصرون بنوره، ولا يستفيدون منه خيراً، لأنهم سدوا على أنفسهم أبواب الهدى، بإعراضهم وكفرهم

وقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) أي:كُذِّبَ وَأُوذِيَ ، وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ بتأخير الحساب إلى يوم المعاد، (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي:لعجل لهم العذاب، بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) أي: من القرآن (مُرِيبٍ) موقع في الريبة وذلك من جراء المحادة والمعاندة والمجاحدة، فلذلك كذبوه وجحدوه .

مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ (46)

يقول تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ) أي:إنما يعود نفع ذلك على نفسه، (وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا) أي:إنما يرجع وبال ذلك عليه، (وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ) أي:لا يعاقب أحدا إلا بذنب، ولا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه، وإرسال الرسول إليه .

إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)

ثم قال: (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي:لا يعلم ذلك أحد سواه، كما قال صلى الله عليه وسلم، وهو سيد البشر لجبريل وهو أمين الوحي حين سأله عن الساعة، فقال: « ما المسئول عنها بأعلم من السائل » رواه البخاري ومسلم .

وقوله: (وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ) أي:الجميع بعلمه، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء .

وقوله: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي) أي:يوم القيامة ينادي الله المشركين على رؤوس الخلائق:أين شركائي الذين عبدتموهم معي؟ (قَالُوا آذَنَّاكَ) أي:أعلمناك، (مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) أي:ليس أحد منا اليوم يشهد أن معك شريكا .

(وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ) أي:ذهبوا فلم ينفعوهم، (وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) أي:وظن المشركون يوم القيامة، وهذا بمعنى اليقين، (مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) أي:لا محيد لهم عن عذاب الله .

لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)

يقول تعالى:لا يَمَلّ الإنسان من دعائه ربّه بالخير - وهو:المال، وصحة الجسم، وغير ذلك- وإن مسه الشر - وهو البلاء أو الفقر- (فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ) أي:يقع في ذهنه أنه لا يتهيأ له بعد هذا خير

(وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي) أي:إذا أصابه خير ورزق بعد ما كان في شدة ليقولن:هذا لي، إني كنت أستحقه عند ربي، (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً) أي: ينكر قيام الساعة، أي:لأجل أنه خُوِّل نعمة فيفخر، ويبطر، ويكفر .

(وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى) أي:ولئن كان ثَمّ معاد فليُحسنَنّ إلي ربي، كما أحسن إلي في هذه الدار، يتمنى على الله، عز وجل، مع إساءته العمل وعدم اليقين قال تعالى: (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ) يتهدد تعالى من كان هذا عمله واعتقاده بالعقاب والنكال .

ثم قال: (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ) أي:أعرض عن الطاعة، واستكبر عن الانقياد لأوامر الله، عز وجل .

(وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ) أي:الشدة، (فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ) أي:يطيل المسألة في الشيء الواحد فالكلام العريض:ما طال لفظه وقل معناه، والوجيز:عكسه، وهو:ما قل ودل .

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)

يقول تعالى:قل يا محمد لهؤلاء المشركين المكذبين بالقرآن: (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ) هَذَا الْقُرْآنُ (مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ) أي:كيف تُرَون حالكم عند الذي أنـزله على رسوله؟ ولهذا قال: (مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) أي:في كفر وعناد ومشاقة للحق، ومَسْلَك بعيد من الهدى

ثم قال: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) أي:سنظهر لهم دلالاتنا وحُجَجنا على كون القرآن حقا منـزلا من عند الله، عز وجل، على رسوله صلى الله عليه وسلم بدلائل خارجية (فِي الآفَاقِ) أي: في أقطار السماوات والأرض من المخلوقات وأسرار خلقها (وفي أَنْفُسِهِمْ) من لطائف الصنعة .

وقوله تعالى: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ؟ أي:كفى بالله شهيدا على أفعال عباده وأقوالهم، وهو يشهد أن محمداً صادق فيما أخبر به عنه .

وقوله: (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ) أي:في شك من قيام الساعة؛ ولهذا لا يتفكرون فيه، ولا يعملون له، ولا يحذرون منه، بل هو عندهم هَدَرٌ لا يعبئون به وهو واقع لا ريب فيه وكائن لا محالة

ثم قال تعالى - مقررا على أنه على كل شيء قدير، وبكل شيء محيط، وإقامة الساعة لديه يسير سهل عليه تبارك وتعالى- : (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) أي:المخلوقات كلها تحت قهره وفي قبضته، وتحت طي علمه، وهو المتصرف فيها كلها بحكمه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن .

تم تفسير سورة فصلت ،ولله الحمد والمنة

12 - 1 - 1439هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

7 + 2 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر