تفسير سورة غافر

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: السبت 15 صفر 1439هـ | عدد الزيارات: 1718 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

سورة غافر مكية وآياتها 85

بسم الله الرحمن الرحيم

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)

الكلام على الحروف المقطعة، فقد تقدم بما أغنى عن إعادته هاهنا

وقوله: (تَنـزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي: تنـزيل هذا الكتاب وهو القرآن من الله ذي العزة والعلم، فلا يرام جنابه، ولا يخفى عليه الذر وإن تكاثف حجابه

وقوله: (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ) أي: يغفر ما سلف من الذنب، ويقبل التوبة في المستقبل لمن تاب إليه وخَضَع لديه

وقوله: (شَدِيدُ الْعِقَابِ) أي: لمن تمرد وطغى وآثر الحياة الدنيا، وعتا عن أوامر الله، وبغى .

وقوله: (ذِي الطَّوْلِ) المتفضل على عباده، المتطول عليهم بما هو فيه من المنن والأنعام، التي لا يطيقون القيام بشكر واحدة منها .

وقوله: (لا إِلَهَ إِلا هُوَ) أي: لا نظير له في جميع صفاته، فلا إله غيره، ولا رب سواه (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي: المرجع والمآب، فيجازي كل عامل بعمله

مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)

يقول تعالى: ما يدفع الحق ويجادل فيه بعد البيان وظهور البرهان (إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا) أي: الجاحدون لآيات الله وحججه وبراهينه، (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) أي: في أموالهم ونعيمها وزهرتها .

ثم قال تعالى مسليا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه من قومه، بأن له أسوة من سلف من الأنبياء؛ فقد كذبهم أممهم وخالفوهم، وما آمن بهم منهم إلا قليل ، فقال: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) وهو أول رسول بَعَثه الله ينهى عن عبادة الأوثان، (وَالأحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي: من كل أمة، (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) أي: حرصوا على قتله بكل ممكن، ومنهم من قتل رسوله ، (وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) أي: مَاحَلُوا بالشبهة ليردوا الحق الواضح الجلي .

وقوله: (فَأَخَذْتُهُمْ) أي: أهلكتهم على ما صنعوا من هذه الآثام والذنوب العظام، (فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ) أي: فكيف بلغك عذابي لهم، ونكالي بهم؟ قد كان شديدا موجعا مؤلما

وقوله: (وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) أي: كما حقت كلمةُ العذاب على الذين كفروا من الأمم السالفة، كذلك حقت على المكذبين من هؤلاء الذين كذبوك وخالفوك يا محمد بطريق الأولى والأحرى؛ لأن من كذبك فلا وثوق له بتصديق غيرك .

الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَة وَعِلْما فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)

يخبر تعالى عن الملائكة المقربين من حَمَلة العرش الأربعة، ومن حوله بأنهم يسبحون بحمد ربهم، أي: يقرنون بين التسبيح الدال على نفي النقائص، والتحميد المقتضي لإثبات صفات المدح، (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) أي: خاشعون له أذلاء بين يديه، وأنهم (يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُوا) أي: من أهل الأرض ممن آمن بالغيب، فقيض الله سبحانه ملائكته المقربين أن يَدْعُوا للمؤمنين بظهر الغيب، ولما كان هذا من سجايا الملائكة عليهم الصلاة والسلام، كانوا يُؤمِّنون على دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب، كما ثبت في صحيح مسلم: إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال الملك: آمين ولك بمثله

(رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَة وَعِلْما) أي: إن رحمتك تَسَع ذنوبهم وخطاياهم، وعلمك محيط بجميع أعمالهم وأقوالهم وحركاتهم وسكناتهم، (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) أي: فاصفح عن المسيئين إذا تابوا وأنابوا وأقلعوا عما كانوا فيه، واتبعوا ما أمرتهم به، من فعل الخيرات وترك المنكرات، (وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) أي: وزحزحهم عن عذاب الجحيم، وهو العذاب الموجع الأليم .

(رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) أي: اجمع بينهم، لتقر بذلك أعينهم بالاجتماع في منازل متجاورة .

وقوله: (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي: الذي لا يمانع ولا يغالب، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، الحكيم في أقوالك وأفعالك، من شرعك وقدرك .

(وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ) أي: فعلها أو وَبالها ممن وقعت منه، (وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ) أي: يوم القيامة، (فَقَدْ رَحِمْتَهُ) أي: لطفت به ونجيته من العقوبة، (وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14)

يقول تعالى مخبرا عن الكفار: أنهم يُنَادَون يوم القيامة وهم في غَمَرات النيران يتلظون، وذلك عندما باشروا من عذاب الله ما لا قِبَل لأحد به، فمقتوا عند ذلك أنفسهم وأبغضوها غاية البغض، بسبب ما أسلفوا من الأعمال السيئة، التي كانت سبب دخولهم إلى النار، فأخبرتهم الملائكة عند ذلك إخبارا عاليا، نادوهم نداء بأن مقت الله لهم في الدنيا حين كان يُعرض عليهم الإيمان، فيكفرون، أشد من مقتكم أيها المعذبون أنفسكم اليوم في هذه الحالة .

وقوله: (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) أي: قال الكافرون ربنا أمتنا مرتين حين كنا في بطون أمهاتنا نطفاً قبل نفخ الروح وحين انقضى أجلنا في الحياة الدنيا، وأحييتنا مرتين، في دار الدنيا، يوم ولدنا ويوم بعثنا من قبورنا، (فاعترفنا بذنوبنا) فنحن الآن نقر بأخطائنا السابقة، فأنت قادر على ما تشاء، وكنا ظالمين لأنفسنا في الدار الدنيا، (فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) أي فهل أنت مجيبنا إلى أن تعيدنا إلى الدار الدنيا؟ فإنك قادر على ذلك؛ لنعمل غير الذي كنا نعمل، فإن عدنا إلى ما كنا فيه فإنا ظالمون فأُجِيبُوا ألا سبيل إلى عودكم إلى الدار الدنيا ثم علل المنع من ذلك بأن سجاياكم لا تقبل الحق ولا تقتضيه بل تَجْحَده وتنفيه؛ ولهذا قال تعالى: (ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) أي: أنتم هكذا تكونون، وإن رددتم إلى الدنيا .

وقوله: (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) أي: هو الحاكم في خلقه، العادل الذي لا يجور، فيهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويرحم من يشاء، ويعذب من يشاء، لا إله إلا هو

وقوله: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ) أي: يظهر قدرته لخلقه بما يشاهدونه في خلقه العلوي والسفلي من الآيات العظيمة الدالة على كمال خالقها ومبدعها ومنشئها، (وَيُنـزلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقا) ، وهو المطر الذي يخرج به من الزروع والثمار ما هو مشاهد بالحس، من اختلاف ألوانه وطعومه، وروائحه وأشكاله وألوانه، وهو ماء واحد، فبالقدرة العظيمة فاوت بين هذه الأشياء، (وَمَا يَتَذَكَّرُ) أي: يعتبر ويتفكر في هذه الأشياء ويستدل بها على عظمة خالقها (إِلا مَنْ يُنِيبُ) أي: من هو بصير منيب إلى الله، عز وجل

وقوله: (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) أي: فأخلصوا لله وحده العبادة والدعاء، وخالفوا المشركين في مسلكهم ومذهبهم

روى الإمام أحمد عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي قال: كان عبد الله بن الزبير يقول في دبر كل صلاة حين يسلم : لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون «قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُهَلِّل بهن دبر كل صلاة» ورواه مسلم

رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)

يقول تعالى مخبرا عن عظمته وكبريائه، وارتفاع عرشه العظيم العالي على جميع مخلوقاته كالسقف لها

وقوله: (يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)، (يلقى الروح) أي الوحي الذي للأرواح والقلوب بمنزلة الأرواح للأجساد، كما أن الجسد بدون الروح لا يحيا ولا يعيش فالروح والقلب بدون روح الوحي لا يصلح ولا يفلح، (يلقى الروح من أمره) الذي فيه نفع العباد ومصلحتهم (على من يشاء من عباده) وهم الرسل الذين فضلهم واختصهم لوحيه ودعوة عباده، والفائدة في إرسال الرسل هو تحصيل سعادة العباد في دينهم ودنياهم وآخرتهم وإزالة الشقاوة عنهم في دينهم ودنياهم، ولهذا قال (لينذر) من ألقي إليه الوحي (يوم التلاق) أي يخوف العباد بذلك ويحثهم على الاستعداد له بالأسباب المنجية مما يكون فيه، وسماه (يوم التلاق) لأنه يلتقي فيه الخالق والمخلوق، والمخلوقون بعضهم مع بعض، والعاملون وأعمالهم وجزاؤهم .

وقوله: (يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ) أي: ظاهرون بادون كلهم، لا شيء يظلهم ولا يسترهم ولهذا قال: (يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) أي: الجميع في علمه على السواء

وقوله: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) أي: من هو المالك لذلك اليوم العظيم، الجامع للأولين والآخرين أهل السماوات وأهل الأرض الذي انقطعت فيه الشركة في الملك وتقطعت الأسباب ولم يبق إلا الأعمال الصالحة أو السيئة (لله الواحد القهار) أي المنفرد في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، فلا شريك له في شيء منها، بوجه من الوجوه (القهار) لجميع المخلوقات الذي دانت له المخلوقات، وذلت وخضعت، خصوصاً في ذلك اليوم الذي عنت فيه الوجوه للحي القيوم .

وقوله: (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) يخبر تعالى عن عدله في حكمه بين خلقه، أنه لا يظلم مثقال ذرة من خير ولا من شر، بل يجزي بالحسنة عشر أمثالها، وبالسيئة واحدة؛ ولهذا قال: (لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) كما ثبت في صحيح مسلم ، عن أبي ذر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل أنه قال: « يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا إلى أن قال : يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه »

وقوله: (إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) أي: يحاسب الخلائق كلهم، كما يحاسب نفسا واحدة .

وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الأزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)

يوم الأزفة هو: اسم من أسماء يوم القيامة، سميت بذلك لاقترابها .

وقوله: (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ) معنى كاظمين: ساكتين، وقد قفت القلوب في الحناجر من الخوف

وقوله: (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ) أي: ليس للذين ظلموا أنفسهم بالشرك بالله من قريب منهم ينفعهم، ولا شفيع يشفع فيهم، بل قد تقطعت بهم الأسباب من كل خير

وقوله: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) يخبر تعالى عن علمه التام المحيط بجميع الأشياء، جليلها وحقيرها، صغيرها وكبيرها، دقيقها ولطيفها؛ ليحذر الناس علمه فيهم، فيستحيوا من الله حَقّ الحياء، ويَتَّقُوهُ حق تقواه، ويراقبوه مراقبة من يعلم أنه يراه، فإنه تعالى يعلم العين الخائنة وإن أبدت أمانة، ويعلم ما تنطوي عليه خبايا الصدور من الضمائر والسرائر .

قوله (وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) مما لم يبينه العبد لغيره فالله تعالى يعلم ذلك الخفي فغيره من الأمور الظاهرة من باب أولى وأحرى

وقوله: (وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ) أي: يحكم بالعدل

وقوله: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) أي: من الأصنام والأوثان والأنداد، (لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) أي: لا يملكون شيئا ولا يحكمون بشيء (إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي: سميع لأقوال خلقه، بصير بهم، فيهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وهو الحاكم العادل في جميع ذلك .

أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّة وَءاثَارا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)

يقول تعالى: أولم يسر هؤلاء المكذبون برسالتك يا محمد (فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ) أي: من الأمم المكذبة بالأنبياء، ما حل بهم من العذاب والنكال مع أنهم كانوا أشد من هؤلاء قوة (وَءاثَارا فِي الأرْضِ) أي: أثروا في الأرض من البنايات والمعالم والديارات، ما لا يقدر عليه هؤلاء، (وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ) أي: وما دفع عنهم عذاب الله أحد، ولا رده عنهم راد، ولا وقاهم واق .

ثم ذكر علة أخذه إياهم وذنوبهم التي ارتكبوها واجترموها، فقال: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) أي: بالدلائل الواضحات والبراهين القاطعات، (فَكَفَرُوا) أي: مع هذا البيان والبرهان كفروا وجحدوا، (فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ) أي: أهلكهم ودمَّر عليهم وللكافرين أمثالها، (إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ) أي: ذو قوة عظيمة وبطش شديد، وهو (شَدِيدُ الْعِقَابِ) أي: عقابه أليم شديد وجيع أعاذنا الله منه .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ ءامَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)

يقول تعالى مسليا لنبيه صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه من قومه، ومبشرا له بأن العاقبة والنصرة له في الدنيا والآخرة، كما جرى لموسى بن عمران ، فإن الله تعالى أرسله بالآيات البينات، والدلائل الواضحات؛ ولهذا قال: (بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ) والسلطان هو: الحُجة والبرهان

(إِلَى فِرْعَوْنَ) هو: ملك القبط بالديار المصرية، (وَهَامَانَ) وهو: وزيره في مملكته (وَقَارُونَ) وكان أكثر الناس في زمانه مالا وتجارة (فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ) أي: كذبوه وجعلوه ساحرا مموها كذابا في أن الله أرسله .

(فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا) أي: بالبرهان القاطع الدال على أن الله تعالى أرسله إليهم، (قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ ءامَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ) وهذا أمر من فرعون بقتل ذكور بني إسرائيل لأجل الاحتراز من وجود موسى، ولإذلال هذا الشعب وتقليل عددهم، ولكي يتشاءموا بموسى، عليه السلام .

قال الله تعالى: (وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ) أي: وما مكرهم وقصدهم الذي هو تقليل عدد بني إسرائيل لئلا يُنصروا عليهم، إلا ذاهب وهالك في ضلال .

(وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) وهذا عَزْمٌ من فرعون لعنه الله على قتل موسى، عليه السلام، أي: قال لقومه: دعوني حتى أقتل لكم هذا، (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) أي: لا أبالي منه وهذا في غاية الجحد والعناد .

وقوله قبحه الله : (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ) يعني: موسى، يخشى فرعون أن يُضِلَّ موسى الناس ويغير رسومهم وعاداتهم .

(وقال موسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ) أي: لما بلغه قول فرعون: (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى) قال موسى: استجرتُ بالله وعُذْتُ به من شره وشر أمثاله؛ ولهذا قال: (إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ) أيها المخاطبون، (مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ) أي: عن الحق، مجرم، (لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ) ؛ ولهذا جاء في الحديث عن أبي موسى، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خاف قوما قال: « اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم » رواه أبو داود وصححه الألباني .

وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)

هذا الرجل المؤمن كان قبْطيا من آل فرعون، وقد انفعل فرعون لكلامه واستمعه، وكف عن قتل موسى، عليه السلام

وقد كان هذا الرجلُ يكتم إيمانه عن قومه القبط، فلم يظهر إلا هذا اليوم حين قال فرعون: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى ، فأخذت الرجل غضبة لله عز وجل، و « أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر » ، صححه الألباني، ولا أعظم من هذه الكلمة عند فرعون وهي قوله: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ) لأجل أن يقول ربي الله ، اللهم إلا ما رواه البخاري عن عروة بن الزبير قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد شيء مما صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عُقْبة بن أبي مُعَيط، فأخذ بمَنْكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولَوَى ثوبه في عنقه، فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر، رضي الله عنه، فأخذ بمنكبة ودَفَع عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ)

وقوله: (وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ) أي: كيف تقتلون رجلا لكونه يقول: « ربي الله » ، وقد أقام لكم البرهان على صدق ما جاءكم به من الحق؟ ثم تَنـزل معهم في المخاطبة فقال: (وَإِنْ يَكُ كَاذِبا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) يعني: إذا لم يظهر لكم صحة ما جاءكم به، فمن العقل والرأي التام والحزم أن تتركوه ونفسه، فلا تؤذوه، فإن يك كاذبا فإن الله سيجازيه على كذبه بالعقوبة في الدنيا والآخرة، وإن يك صادقا وقد آذيتموه يصبكم بعض الذي يعدكم، فإنه يتوعدكم إن خالفتموه بعذاب في الدنيا والآخرة، فمن الجائز عندكم أن يكون صادقا، فينبغي على هذا ألا تتعرضوا له، بل اتركوه وقومه يدعوهم ويتبعونه .

وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) أي: لو كان هذا الذي يزعم أن الله أرسله إليكم كاذبا كما تزعمون، لكان أمره بينا، يظهر لكل أحد في أقواله وأفعاله، وهذا نرى أمره سديدا ومنهجه مستقيما، ولو كان من المسرفين الكذابين لما هداه الله، وأرشده إلى ما ترون من انتظام أمره وفعله .

ثم قال المؤمن محذرا قومه زوال نعمة الله عنهم وحلول نقمة الله بهم: (يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأرْضِ) أي: قد أنعم الله عليكم بهذا الملك والظهور في الأرض بالكلمة النافذة والجاه العريض، فراعوا هذه النعمة بشكر الله، وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم، واحذروا نقمة الله إن كذبتم رسوله، (فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا) أي: لا تغني عنكم هذه الجنود وهذه العساكر، ولا ترد عنا شيئا من بأس الله إن أرادنا بسوء .

(قَالَ فِرْعَوْنُ) لقومه، رادّا على ما أشار به هذا الرجل الصالح البار الراشد الذي كان أحق بالملك من فرعون: (مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى) أي: ما أقول لكم وأشير عليكم إلا ما أراه لنفسي وقد كذب فرعون، فإنه كان يتحقق صدق موسى فيما جاء به من الرسالة .

فقوله: (مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى) كذب فيه وافترى، وخان الله ورسوله ورعيته، فغشهم وما نصحهم وكذا قوله: (وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ) أي: وما أدعوكم إلا إلى طريق الحق والصدق والرشد وقد كذب أيضا في ذلك، وإن كان قومه قد أطاعوه واتبعوه ، وفي الحديث « ما مِنْ عبدٍ يسترْعيه اللهُ رعيَّةً ، يموتُ يومَ يموتُ ، وهوَ غاشٌّ لرعِيَّتِهِ ، إلَّا حرّمَ اللهُ عليْهِ الجنَّةَ » صححه الألباني

يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْما لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)

هذا إخبار من الله، عز وجل، عن هذا الرجل الصالح، مؤمن آل فرعون: أنه حذر قومه بأس الله في الدنيا والآخرة فقال: (يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأحْزَابِ) أي: الذين كذبوا رسل الله في قديم الدهر، كقوم نوح وعاد وثمود، والذين من بعدهم من الأمم المكذبة، كيف حل بهم بأس الله، وما رده عنهم راد، ولا صده عنهم صاد

(وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْما لِلْعِبَادِ) أي: إنما أهلكهم الله بذنوبهم، وتكذيبهم رسله، ومخالفتهم أمره فأنفذ فيهم قدره، ثم قال: (وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ) يعني: يوم القيامة، وسمي بذلك لأنه ينادي فيه بعض الناس بعضا من هول الموقف في ذلك اليوم

وقوله: (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) أي: ذاهبين هاربين ولهذا قال: (مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ) أي: ما لكم مانع يمنعكم من بأس الله وعذابه، (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) أي: من أضله فلا هادي له غيره .

وقوله: (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ) يعني: أهل مصر، قد بعث الله فيهم رسولا من قبل موسى، وهو يوسف، عليه السلام، كان عزيز أهل مصر، وكان رسولا يدعو إلى الله أمته القبط، فما أطاعوه تلك الساعة إلا لمجرد الوزارة والجاه الدنيوي؛ ولهذا قال: (فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولا) أي: يئستم فقلتم طامعين: (لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولا) وذلك لكفرهم وتكذيبهم (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ) أي: كحالكم هذا

ثم قال:(الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ) أي: الذين يدفعون الحق بالباطل، ويجادلون الحجج بغير دليل وحجة معهم من الله، فإن الله يمقت على ذلك أشد المقت؛ ولهذا قال تعالى: (كَبُرَ مَقْتا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي: والمؤمنون أيضا يُبغضُون من تكون هذه صفته، فإن من كانت هذه صفته، يطبع الله على قلبه، فلا يعرف بعد ذلك معروفا، ولا ينكر منكرا؛ ولهذا قال: (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ) أي: على اتباع الحق (جَبَّارٍ) .

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ (37)

يقول تعالى مخبرا عن فرعون، وعتوه، وتمرده، وافترائه في تكذيبه موسى، عليه السلام، أنه أمر وزيره هامان أن يبني له صرحا، وهو: القصر العالي المنيف الشاهق وكان اتخاذه من الآجر المضروب من الطين المشوي .

وقوله: (لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ) أي: أبواب السماوات، (فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأظُنُّهُ كَاذِبا) ، وهذا من كفره وتمرده، أنه كذب موسى في أن الله، عز وجل، أرسله إليه، قال الله تعالى: (وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) أي: بصنيعه هذا الذي أراد أن يوهم به الرعية أنه يعمل شيئا يتوصل به إلى تكذيب موسى، عليه السلام؛ ولهذا قال تعالى: (وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ) يعني: إلا في خسار

وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَة فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)

يقول المؤمن لقومه ممن تمرد وطغى وآثر الحياة الدنيا، ونسي الجبار الأعلى، فقال لهم: (يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ) لا كما كذب فرعون في قوله: وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ

ثم زهدهم في الدنيا التي قد آثروها على الأخرى، وصدتهم عن التصديق برسول الله موسى صلى الله عليه وسلم] ، فقال: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ) أي: قليلة زائلة فانية عن قريب تذهب وتزول وتضمحل، (وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) أي: الدار التي لا زوال لها، ولا انتقال منها ولا ظعن عنها إلى غيرها، بل إما نعيم وإما جحيم، ولهذا قال (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَة فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا) أي: واحدة مثلها (وَمَنْ عَمِلَ صَالِحا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ) أي: لا يتقدر بجزاء بل يثيبه الله، ثوابا كثيرا لا انقضاء له ولا نفاد .

وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّا وَعَشِيّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)

يقول لهم المؤمن: ما بالي أدعوكم إلى النجاة، وهي عبادة الله وحده لا شريك له وتصديق رسوله الذي بعثه (وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لأكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) أي: جهل بلا دليل (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) أي: هو في عزته وكبريائه يغفر ذنب من تاب إليه، (لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) يقول: حقا يقينا .

(لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ) أي: لا يستحق الدعوة إليه والحث على اللجأ إليه في الدنيا ولا في الآخرة لعجزه ونقصه، وأنه لا يملك نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا .

وقوله: (وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ) أي: في الدار الآخرة، فيجازي كلا بعمله؛ ولهذا قال:(وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) أي: خالدين فيها بإسرافهم، وهو شركهم بالله .

(فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ) أي: سوف تعلمون صدق ما أمرتكم به ونهيتكم عنه، ونصحتكم ووضحت لكم، وتتذكرونه، وتندمون حيث لا ينفعكم الندم، (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ) أي: وأتوكل على الله وأستعينه، وأقاطعكم وأباعدكم، (إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) أي: هو بصير بهم، فيهدي من يستحق الهداية، ويضل من يستحق الإضلال، وله الحجة البالغة، والحكمة التامة، والقدر النافذ .

وقوله تعالى : (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا) أي: في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فنجاه الله مع موسى، عليه السلام، وأما في الآخرة فبالجنة (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ) وهو: الغرق في اليم، ثم النقلة منه إلى الجحيم فإن أرواحهم تعرض على النار صباحا ومساء إلى قيام الساعة، فإذا كان يوم القيامة اجتمعت أرواحهم وأجسادهم في النار؛ ولهذا قال: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) أي: أشده ألما وأعظمه نكالا وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور، وهي قوله: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّا وَعَشِيّا)

روى البخاري عن عائشة ، رضي الله عنها، أن يهودية دخلت عليها فقالت: أعاذك الله من عذاب القبر فسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر؟ فقال: « نعم عذاب القبر حق » قالت عائشة: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدُ صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر .

فهذا يدل على أنه بادر إلى تصديق اليهودية في هذا الخبر، وقرر عليه

وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أحدكم إذا مات عُرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله، عز وجل، إلى يوم القيامة» أخرجاه في الصحيحين

وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْما مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ (50)

يخبر تعالى عن تحاج أهل النار في النار، وتخاصمهم، وفرعون وقومه من جملتهم (فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ) وهم: الأتباع (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) وهم: القادة والسادة والكبراء: (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعا) أي: أطعناكم فيما دعوتمونا إليه في الدنيا من الكفر والضلال، (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبا مِنَ النَّارِ) أي: قسطا تتحملونه عنا

(قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا) أي: لا نتحمل عنكم شيئا، كفى بنا ما عندنا، وما حملنا من العذاب والنكال (إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ) أي: يقَسم بيننا العذاب بقدر ما يستحقه كل منا .

(وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْما مِنَ الْعَذَابِ) لما علموا أن الله، سبحانه، لا يستجيب منهم ولا يستمع لدعائهم سألوا الخزنة وهم كالبوابين لأهل النار أن يدعوا لهم الله أن يخفف عن الكافرين ولو يوما واحدا من العذاب .

فقالت لهم الخزنة رادين عليهم: (أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) أي: أوما قامت عليكم الحجج في الدنيا على ألسنة الرسل؟ (قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا) أي: أنتم لأنفسكم، فنحن لا ندعو لكم ولا نسمع منكم ولا نود خلاصكم، ونحن منكم براء، ثم نخبركم أنه سواء دعوتم أو لم تدعوا لا يستجاب لكم ولا يخفف عنكم؛ ولهذا قالوا : (وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ) أي: لا يتقبل ولا يستجاب .

إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدى وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)

في صحيح البخاري عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله تعالى: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب» ولهذا أهلك تعالى قوم نوح وعاد وثمود، وأصحاب الرس، وقوم لوط، وأهل مدين، وأشباههم وأضرابهم ممن كذب الرسل وخالف الحق وأنجى الله من بينهم المؤمنين، فلم يهلك منهم أحدا وعذب الكافرين، فلم يفلت منهم أحدا .

(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ) أي: يوم القيامة تكون النصرة أعظم وأكبر وأجل

فالأشهاد: الملائكة يشهدون للرسل بالبلاغ وعلى الكافرين بالتكذيب

(يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِين) وهم المشركون (مَعْذِرَتُهُم) أي: لا يقبل منهم عذر ولا فدية، (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ) أي: الإبعاد والطرد من الرحمة، (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) وهي النار

وقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى) وهو ما بعثه الله به من الهدى والنور، (وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ) أي: جعلناه متوارثا بينهم من قرن إلى آخر وهو التوراة (هُدى) وهو العلم بالأحكام الشرعية وغيرها (وَذِكْرَى) أي: التذكر للخير بالترغيب فيه، وعن الشر بالترهيب منه، وليس ذلك لكل أحد، وإنما هو (لأولِي الألْبَابِ) وهي: العقول الصحيحة السليمة .

وقوله: (فَاصْبِرْ) أي: يا محمد، (إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ) أي: وعدناك أنا سنعلي كلمتك، ونجعل العاقبة لك ولمن اتبعك، والله لا يخلف الميعاد وهذا الذي أخبرناك به حق لا مرية فيه ولا شك

وقوله: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) هذا تهييج للأمة على الاستغفار، (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ) أي: في أواخر النهار وأوائل الليل، (وَالإبْكَارِ) وهي أوائل النهار وأواخر الليل

وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ) أي: يدفعون الحق بالباطل، ويردون الحجج الصحيحة بالشبه الفاسدة بلا برهان ولا حجة من الله، (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ) أي: ما في صدورهم إلا كبر على اتباع الحق، واحتقار لمن جاءهم به، وليس ما يرومونه من إخمال الحق وإعلاء الباطل بحاصل لهم، بل الحق هو المرفوع، وقولهم وقصدهم هو الموضوع، (فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ) أي: من شر مثل هؤلاء المجادلين في آيات الله بغير سلطان (إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ) بجميع الأصوات على اختلافها (الْبَصِيرُ) بجميع المرئيات بأي محل وموضع وزمان كانت .

لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (59)

يقول تعالى منبها على أنه يعيد الخلائق يوم القيامة، وأن ذلك سهل عليه، يسير لديه بأنه خلق السماوات والأرض، وخلقُهما أكبر من خلق الناس بدأة وإعادة، فمن قدر على ذلك فهو قادر على ما دونه بطريق الأولى والأحرى، (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ؛ فلهذا لا يتدبرون هذه الحجة ولا يتأملونها، كما كان كثير من العرب يعترفون بأن الله خلق السماوات والأرض، وينكرون المعاد، استبعادا وكفرا وعنادا، وقد اعترفوا بما هو أولى مما أنكروا .

ثم قال: (وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ) أي كما لا يستوي الأعمى الذي لا يبصر شيئا، والبصير الذي يرى ما انتهى إليه بصره، بل بينهما فرق عظيم، كذلك لا يستوي المؤمنون الأبرار والكفرة الفجار، (قَلِيلا مَا تَتَذَكَّرُونَ) أي: ما أقل ما يتذكر كثير من الناس .

ثم قال: (إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ) أي لكائنة وواقعة (لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) أي: لا يصدقون بها، بل يكذبون بوجودها .

وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)

هذا من فضله، تبارك وتعالى، وكرمه أنه ندب عباده إلى دعائه، وتكفل لهم بالإجابة

عن النعمان بن بشير، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الدعاء هو العبادة » ثم قال: (وقال ربكم ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) رواه الترمذي وصححه الألباني

وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي) أي: عن دعائي وتوحيدي، (سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) أي: صاغرين حقيرين

اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارا وَالسَّمَاءَ بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)

يقول تعالى ممتنا على خلقه، بما جعل لهم من الليل الذي يسكنون فيه ويستريحون من حركات ترددهم في المعايش بالنهار، وجعل النهار مبصرا، أي: مضيئا، ليتصرفوا فيه بالأسفار، وقطع الأقطار، والتمكن من الصناعات، (إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) أي: لا يقومون بشكر نعم الله عليهم

ثم قال: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلا هُوَ) أي: الذي فعل هذه الأشياء هو الله الواحد الأحد، خالق الأشياء، الذي لا إله غيره، ولا رب سواه، (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي: فكيف تعبدون غيره من الأصنام، التي لا تخلق شيئا، بل هي مخلوقة منحوتة .

وقوله: (كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) أي: عقوبة على جحدهم لآيات الله وتعديهم على رسله صرفوا عن التوحيد والإخلاص .

وقوله: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَارا) أي: جعلها مستقرا لكم، بساطا مهادا تعيشون عليها، وتتصرفون فيها، وتمشون في مناكبها، وأرساها بالجبال لئلا تميد بكم، (وَالسَّمَاءَ بِنَاء) أي: سقفا للعالم محفوظا، (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) أي: فخلقكم في أحسن الأشكال، ومنحكم أكمل الصور في أحسن تقويم، (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ) أي: من المآكل والمشارب في الدنيا فذكر أنه خلق الدار، والسكان، والأرزاق فهو الخالق الرازق ، وقال بعد خلق هذه الأشياء: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) أي: فتعالى وتقدس وتنـزه رب العالمين كلهم

ثم قال: (هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ) أي: هو الحي أزلا وأبدا، لم يزل ولا يزال، وهو الأول والآخر، والظاهر والباطن، (لا إِلَهَ إِلا هُوَ) أي: لا نظير له ولا عديل له، (فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي: موحدين له مقرين بأنه لا إله إلا هو (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) أي: جميع المحامد والمدائح والثناء لله رب العالمين .

قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلا مُسَمّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)

يقول تعالى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: إن الله ينهى أن يُعْبَد أحد سواه من الأصنام والأنداد والأوثان

وقد بيَّن تعالى أنه لا يستحق العبادة أحد سواه، في قوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخا) أي: هو الذي يقلبكم في هذه الأطوار كلها، وحده لا شريك له، وعن أمره وتدبيره وتقديره يكون ذلك كله، (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) أي: من قبل أن يوجد ويخرج إلى هذا العالم، بل تسقطه أمه سقطا، ومنهم من يتوفى صغيرا، وشابا، وكهلا قبل الشيخوخة ، وقوله (وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أحوالكم، فتعلمون أن المطور لكم في هذه الأطوار كامل الاقتدار، وأنه الذي لا تتنبغي العبادة إلا له، وأنكم ناقصون من كل وجه

ثم قال: (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي: هو المتفرد بذلك، لا يقدر على ذلك أحد سواه، (فَإِذَا قَضَى أَمْرا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي: لا يخالف ولا يمانع، بل ما شاء كان .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)

يقول تعالى: ألا تعجب يا محمد من هؤلاء المكذبين بآيات الله، ويجادلون في الحق والباطل، كيف تُصرف عقولهم عن الهدى إلى الضلال، (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا) أي: من الهدى والبيان، (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) هذا تهديد شديد، ووعيد أكيد، من الرب، جل جلاله، لهؤلاء

وقوله: (إِذِ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ) أي: متصلة بالأغلال، بأيدي الزبانية (فِي الْحَمِيمِ) أي: يجرون في الماء الحار الذي اشتد غليانه وحره (ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) يوقد عليهم اللهب العظيم

(ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي: قيل لهم: أين الأصنام التي كنتم تعبدونها من دون الله؟ هل ينصرونكم اليوم؟ (قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا) أي: ذهبوا فلم ينفعونا، (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئا) أي: جحدوا عبادتهم ، ولهذا قال: (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ)

وقوله: (ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) أي: تقول لهم الملائكة: هذا الذي أنتم فيه جزاء على فرحكم في الدنيا بغير الحق، ومرحكم وأشركم وبطركم، (ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) أي: فبئس المْنـزلُ الذي فيه الهوان والعذاب الشديد، لمن استكبر عن آيات الله، واتباع دلائله وحُججه .

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)

يقول تعالى آمرا رسوله، صلى الله عليه وسلم، بالصبر على تكذيب من كذبه من قومه؛ فإن الله سينجز لك ما وعدك من النصر والظفر على قومك، وجعل العاقبة لك ولمن اتبعك في الدنيا والآخرة، (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) أي: في الدنيا وكذلك وقع، فإن الله أقر أعينهم من كبرائهم وعظمائهم، أبيدوا في يوم بدر ثم فتح الله عليه مكة وسائر جزيرة العرب في أيام حياته صلى الله عليه وسلم .

وقوله: (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) أي: فنذيقهم العذاب الشديد في الآخرة

ثم قال مسليا له: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) ، (وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) وهم أكثر ممن ذكر بأضعاف أضعاف .

وقوله: (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ) أي: ولم يكن لواحد من الرسل أن يأتي قومه بخارق للعادات، إلا أن يأذن الله له في ذلك، فيدل ذلك على صدقه فيما جاءهم به، (فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ) وهو عذابه ونكاله المحيط بالمكذبين (قُضِيَ بِالْحَقِّ) فينجو المؤمنون، ويهلك الكافرون؛ ولهذا قال: (وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ)

اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَة فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)

يقول تعالى ممتنا على عباده، بما خلق لهم من الأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم فالإبل تركب وتؤكل وتحلب، ويحمل عليها الأثقال في الأسفار والرحال إلى البلاد النائية، والأقطار الشاسعة والبقر تؤكل، ويشرب لبنها، ويحرث بها الأرض والغنم تؤكل، ويشرب لبنها، والجميع تجز أصوافها وأشعارها وأوبارها، فيتخذ منها الأثاث والثياب والأمتعة، ولهذا قال: (لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَة فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ)

وقوله: (وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ) أي: حججه وبراهينه في الآفاق وفي أنفسكم، (فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ) أي: لا تقدرون على إنكار شيء من آياته، إلا أن تعاندوا وتكابروا .

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّة وَآثَارا فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)

يخبر تعالى عن الأمم المكذبة بالرسل في قديم الدهر، وماذا حل بهم من العذاب الشديد، مع شدة قواهم، وما أَثّروه في الأرض، وجمعوه من الأموال، فما أغنى عنهم ذلك شيئا، ولا رد عنهم ذرة من بأس الله؛ وذلك لأنهم لما جاءتهم الرسل بالبينات، والحجج القاطعات، والبراهين الدامغات، لم يلتفتوا إليهم، ولا أقبلوا عليهم، واستغنوا بما عندهم من العلم في زعمهم عما جاءتهم به الرسل .

(وَحَاقَ بِهِمْ) أي: أحاط بهم (مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) أي: يكذبون ويستبعدون وقوعه

(فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا) أي: عاينوا وقوع العذاب بهم، (قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) أي: وحدوا الله وكفروا بالطاغوت، ولكن حيث لا تُقَال العثرات، ولا تنفع المعذرة ولهذا قال: (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ) أي: هذا حكم الله في جميع مَنْ تاب عند معاينة العذاب: أنه لا يقبل؛ ولهذا جاء في الحديث: « إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر » حسنه الألباني ، أي: فإذا غرغر وبلغت الروح الحنجرة، وعاين الملك، فلا توبة حينئذ؛ ولهذا قال: (وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ)

انتهى تفسير سورة غافر ولله الحمد والمنة

15 - 2 - 1439هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

4 + 2 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 124 الجزء الثالث ‌‌أهمية الغطاء على وجه المرأة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 123 الجزء الثالث ‌‌حكم قيادة المرأة للسيارة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر