تفسير سورة الصافات

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الأحد 22 ربيع الأول 1439هـ | عدد الزيارات: 1644 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

سورة الصافات مكية وآياتها 182

روى النسائي عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، قال:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالتخفيف، ويؤمنا بالصافات " صححه الألباني

بسم الله الرحمن الرحيم

والصافات صفا (1) فالزاجرات زجرا (2) فالتاليات ذكرا (3) إن إلهكم لواحدٌ (4) رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق (5)

أقسم الله تعالى بالملائكة تصف في عبادتها صفوفا متراصة، وتزجر السحاب وتسوقه بأمر الله، وتتلو ذكر الله، فلما كانوا متألهين لربهم متعبدين في خدمته ولا يعصونه طرفة عين أقسم بهمعلى ألوهيته

وقد روى مسلم عن جابر بن سمُرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم؟) قلنا: وكيف تصف الملائكة عند ربهم؟ قال: (يتمون الصفوف الأولى ويتراصون في الصف).

وقوله: (إن إلهكم لواحدٌ) هذا هو المقسم عليه، أنه تعالى لا إله إلا هو (رب السماوات والأرض وما بينهما) أي: من المخلوقات، (ورب المشارق) أي: هو المالك المتصرف في الخلق بتسخيره بما فيه من كواكب ثوابت، وسيارات تبدو من المشرق، وتغرب من المغرب واكتفى بذكر المشارق عن المغارب لدلالتها عليه .

إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب (6) وحفظا من كل شيطان مارد (7) لا يسمعون إلى الملإ الأعلى ويقذفون من كل جانب (8) دحورا ولهم عذابٌ واصبٌ (9) إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهابٌ ثاقبٌ (10)

يخبر تعالى أنه زين السماء الدنيا للناظرين إليها من أهل الأرض (بزينة الكواكب)

وقوله ها هنا: (وحفظا) تقديره: وحفظناها حفظا، (من كل شيطان مارد) يعني: المتمرد العاتي إذا أراد أن يسترق السمع، أتاه شهاب ثاقب فأحرقه، ولهذا قال: (لا يسمعون إلى الملإ الأعلى) أي: لئلا يصلوا إلى الملأ الأعلى، وهي السماوات ومن فيها من الملائكة، إذا تكلموا بما يوحيه الله مما يقوله من شرعه وقدره، ولهذا قال (ويقذفون) أي: يرمون (من كل جانب) أي: من كل جهة يقصدون السماء منها، (دحورا) أي: رجما يدحرون به ويزجرون، ويمنعون من الوصول إلى ذلك، (ولهم عذابٌ واصبٌ) أي: في الدار الآخرة لهم عذاب دائم موجع مستمر .

وقوله: (إلا من خطف الخطفة) أي: إلا من اختطف من الشياطين الخطفة، وهي الكلمة يسمعها من السماء فيلقيها إلى الذي تحته، ويلقيها الآخر إلى الذي تحته، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها بقدر الله قبل أن يأتيه الشهاب فيحرقه، فيذهب بها الآخر إلى الكاهن، ولهذا قال: (إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهابٌ ثاقبٌ) أي: مستنير .

روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال:" كان للشياطين مقاعد في السماء فكانوا يستمعون الوحي قال: وكانت النجوم لا تجري، وكانت الشياطين لا ترمى قال: فإذا سمعوا الوحي نـزلوا إلى الأرض، فزادوا في الكلمة تسعا قال: فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، جعل الشيطان إذا قعد مقعده جاء شهاب فلم يخطئه حتى يحرقه قال: فشكوا ذلك إلى إبليس، فقال: ما هذا إلا من أمر حدث قال: فبث جنوده، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي بين جبلي نخلة قال: فرجعوا إلى إبليس فأخبروه، فقال: هذا الذي حدث " صححه أحمد شاكر

فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب (11) بل عجبت ويسخرون (12) وإذا ذكروا لا يذكرون (13) وإذا رأوا آية يستسخرون (14) وقالوا إن هذا إلا سحرٌ مبينٌ (15) أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون (16) أوآباؤنا الأولون (17) قل نعم وأنتم داخرون (18) فإنما هي زجرةٌ واحدةٌ فإذا هم ينظرون (19)

يقول تعالى: فاسأل هؤلاء المنكرين للبعث: أيما أشد خلقا هم أم السماوات والأرض، وما بينهما من الملائكة والشياطين والمخلوقات العظيمة؟ فإنهم يقرون أن هذه المخلوقات أشد خلقا منهم، وإذا كان الأمر كذلك فلم ينكرون البعث؟ وهم يشاهدون ما هو أعظم مما أنكروا ثم بين أنهم خلقوا من شيء ضعيف، فقال (إنا خلقناهم من طين لازب) أي: الذي يلتزق بعضه ببعض .

وقوله: (بل عجبت ويسخرون) أي: بل عجبت - يا محمد- من تكذيب هؤلاء المنكرين للبعث، وأنت موقن مصدق بما أخبر الله به من الأمر العجيب، وهو إعادة الأجسام بعد فنائها .

وهم بخلاف أمرك، من شدة تكذيبهم يسخرون مما تقول لهم من ذلك

(وإذا رأوا آية) أي: دلالة واضحة على ذلك (يستسخرون) وإذا رأوا معجزة دالة على نبوتك يسخرون منها ويعجبون .

(وقالوا إن هذا إلا سحرٌ مبينٌ) أي: إن هذا الذي جئت به إلا سحر مبين، (أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون * أوآباؤنا الأولون) يستبعدون ذلك ويكذبون به، (قل نعم وأنتم داخرون) أي: قل لهم يا محمد: نعم تبعثون يوم القيامة بعد ما تصيرون ترابا وعظاما، (وأنتم داخرون) أي: حقيرون تحت القدرة العظيمة .

ثم قال: (فإنما هي زجرةٌ واحدةٌ فإذا هم ينظرون) أي: إنما هو أمر واحد من الله عز وجل، يدعوهم دعوة واحدة أن يخرجوا من الأرض، فإذا هم [قيام] بين يديه، ينظرون إلى أهوال يوم القيامة .

وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين (20) هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون (21) احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون (22) من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم (23) وقفوهم إنهم مسئولون (24) ما لكم لا تناصرون (25) بل هم اليوم مستسلمون (26)

يخبر تعالى عن قول الكفار يوم القيامة أنهم يرجعون على أنفسهم بالملامة، ويعترفون بأنهم كانوا ظالمين لأنفسهم في الدار الدنيا، فإذا عاينوا أهوال القيامة ندموا كل الندم حيث لا ينفعهم الندم، (وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين) فيقال لهم (هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون)

يقال لهم على وجه التقريع والتوبيخ، ويأمر الله الملائكة أن تميز الكفار من المؤمنين في الموقف في محشرهم ومنشرهم، ولهذا قال تعالى: (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم) قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه أي: أشباههم يجيء صاحب الربا مع أصحاب الربا، وصاحب الزنى مع أصحاب الزنى، وصاحب الخمر مع أصحاب الخمر، (وما كانوا يعبدون من دون الله) أي: من الأصنام والأنداد، تحشر معهم في أماكنهم .

وقوله: (فاهدوهم إلى صراط الجحيم) أي: أرشدوهم إلى طريق جهنم .

وقوله: (وقفوهم إنهم مسئولون) أي: قفوهم حتى يسألوا عن أعمالهم وأقوالهم التي صدرت عنهم في الدار الدنيا، يعني احبسوهم إنهم محاسبون، ثم يقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ: (ما لكم لا تناصرون) أي: كما زعمتم أنكم جميع منتصر، (بل هم اليوم مستسلمون) أي: منقادون لأمر الله، لا يخالفونه ولا يحيدون عنه .

وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون (27) قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين (28) قالوا بل لم تكونوا مؤمنين (29) وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين (30) فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون (31) فأغويناكم إنا كنا غاوين (32) فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون (33) إنا كذلك نفعل بالمجرمين (34) إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون (35) ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون (36) بل جاء بالحق وصدق المرسلين (37)

يذكر تعالى أن الكفار يتلاومون في عرصات القيامة، كما يتخاصمون في دركات النار، فقالوا لهم : (إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين) أي:بالقوة والغلبة فتضلونا.

وقوله: (قالوا بل لم تكونوا مؤمنين) أي: ما زلتم مشركين كما نحن مشركين (وما كان لنا عليكم من سلطان) أي: من حجة على صحة ما دعوناكم إليه، (بل كنتم قوما طاغين) أي: بل كان فيكم طغيان ومجاوزة للحق، فلهذا استجبتم لنا وتركتم الحق الذي جاءتكم به الأنبياء، وأقاموا لكم الحجج على صحة ما جاءوكم به، فخالفتموهم .

(فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون * فأغويناكم إنا كنا غاوين) ، يقول الكبراء للمستضعفين: حقت علينا كلمة الله: إنا من الأشقياء الذائقين العذاب يوم القيامة، (فأغويناكم) أي: دعوناكم إلى الضلالة، (إنا كنا غاوين) أي: دعوناكم إلى ما نحن فيه، فاستجبتم لنا، قال الله تعالى: (فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون) أي: الجميع في النار، كل بحسبه، (إنا كذلك نفعل بالمجرمين * إنهم كانوا) أي: في الدار الدنيا (إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون) أي: يستكبرون أن يقولوها، كما يقولها المؤمنون .

عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أُمِرتُ أن أقاتلَ النَّاسَ حتَّى يَشهَدوا أن لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ مُحمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ وأن يستَقبِلوا قِبلتَنا وأن يأكُلوا ذَبيحتَنا وأن يُصلُّوا صلاتَنا فإذا فعلوا ذلِكَ حُرِّمَت علَينا دماؤُهُم وأموالُهُم إلَّا بحقِّها لَهُم ما للمسلِمينَ وعلَيهم ما علَى المسلِمينَ) رواه أبو داود وصححه الألباني

(ويقولون أئنا لتاركو ءالهتنا لشاعر مجنون) أي: أنحن نترك عبادة آلهتنا وآلهة آبائنا عن قول هذا الشاعر المجنون، يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

قال الله تعالى تكذيبا لهم، وردا عليهم: (بل جاء بالحق) يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بالحق في جميع شرعة الله له من الإخبار والطلب، (وصدَّق المرسلين) أي: صدقهم فيما أخبروه عنه من الصفات الحميدة، والمناهج السديدة، وأخبر عن الله في شرعه وأمره كما أخبروا.

إنكم لذائقو العذاب الأليم (38) وما تجزون إلا ما كنتم تعملون (39) إلا عباد الله المخلَصين (40) أولئك لهم رزقٌ معلومٌ (41) فواكه وهم مكرمون (42) في جنات النعيم (43) على سرر متقابلين (44) يطاف عليهم بكأس من معين (45) بيضاء لذة للشاربين (46) لا فيها غولٌ ولا هم عنها يُنـزَفون (47) وعندهم قاصرات الطرف عينٌ (48) كأنهن بيضٌ مكنونٌ (49)

يقول تعالى مخاطبا للناس: (إنكم لذائقو العذاب الأليم * وما تجزون إلا ما كنتم تعملون) ، ثم استثنى من ذلك عباده المخلصين، فقال : (إلا عباد الله المخلصين) أي: فإنهم غير ذائقي العذاب الأليم، أنهم أخلصوا لله الأعمال فأخلصهم واختصهم برحمته، وجاد عليهم بلطفه .

وقوله: (أولئك لهم رزقٌ معلومٌ) أي: غير مجهول، إنما هو رزق عظيم جليل لا يُجهل أمره ولا يُبلغ كنهه ثم فسره بقوله تعالى (فواكه) أي: من جميع أنواع الفواكه التي تتفكه بها النفس للذتها في لونها وطعمها (وهم مكرمون) أي: لا مهانون محتقرون، بل معظمون مبجلون موقرون، أكرمهم أكرم الأكرمين، وجاد عليهم بأنواع الكرامات من نعيم القلوب والأرواح والأبدان (في جنات النعيم * على سرر متقابلين) أي: الجنات التي النعيم وصفها والسرور نعتها وذلك لما جمعته مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وسلمت من كل ما يخل بنعيمها من جميع المكدرات والمنغصات ومن كرامتهم عند ربهم وإكرام بعضهم بعضا أنهم (على سرر) وهي المجالس المرتفعة المزينة بأنواع الأكسية الفاخرة المزخرفة المجملة فهم متكئون عليها على وجه الراحة والطمأنينة والفرح (متقابلين) أي: فيما بينهم، قد صفت قلوبهم ومحبتهم فيما بينهم، ونعموا بإجتماع بعضهم مع بعض، فإن مقابلة وجوههم تدل على تقابل قلوبهم، وتأدب بعضهم مع بعض، فلم يستدبره أو يجعله إلى جانبه، بل من كمال السرور والأدب ما دل عليه ذلك التقابل .

وقوله (يطاف عليهم بكأس من معين * بيضاء لذة للشاربين * لا فيها غولٌ ولا هم عنها يُنـزَفون) ، فنـزه الله خمر الآخرة عن الآفات التي في خمر الدنيا، من صداع الرأس ووجع البطن - وهو الغول- وذهابها بالعقل جملة، فقال تعالى هاهنا: (يطاف عليهم بكأس من معين) أي: يتردد الولدان المستعدون لخدمتهم عليهم بالأشربة اللذيذة بالكاسات الجميلة المنظر المترعة من الرحيق المختوم بالمسك وهي كاسات الخمر وتلك الخمر تخالف خمر الدنيا من كل وجه (بيضاء) من أحسن الألوان وفي طعمها (لذة للشاربين) يلتذ شاربها بها وقت شربها وبعده، وأنها سالمة (لا فيها غولٌ ولا هم عنها ينزفون) ليس فيها أذى للجسم ولا للعقل .

قال ابن عباس: في الخمر أربع خصال: السكر، والصداع، والقيء، والبول فذكر الله خمر الجنة فنـزهها عن هذه الخصال .

وقوله: (وعندهم قاصرات الطرف) أي: عفيفات لا ينظرن إلى غير أزواجهن

وقوله (عينٌ) أي: حسان الأعين جميلاتها

وقوله: (كأنهن بيضٌ مكنونٌ) أي: مصون لم تمسه الأيدي، وذلك من حسنهن وصفائهن وكون ألوانهن أحسن الألوان وأبهاها ليس فيه كدر ولا شين .

فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون (50) قال قائلٌ منهم إني كان لي قرينٌ (51) يقول أءِنَّك لمن المصدقين (52) أءِذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءِنا لمدينون (53) قال هل أنتم مطلعون (54) فاطلع فرآه في سواء الجحيم (55) قال تالله إن كدتَ لتردين (56) ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين (57) أفما نحن بميتين (58) إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين (59) إن هذا لهو الفوز العظيم (60) لمثل هذا فليعمل العاملون (61)

يخبر تعالى عن أهل الجنة أنه أقبل بعضهم على بعض يتساءلون، أي: عن أحوالهم، وكيف كانوا في الدنيا، وماذا كانوا يعانون فيها؟ وذلك من حديثهم وهم جلوس على السرر، والخدم بين أيديهم، يسعون ويجيئون بكل خير عظيم، من مآكل ومشارب، وغير ذلك مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر .

(قال قائلٌ منهم إني كان لي قرينٌ يقول أءنك لمن المصدقين) أي: قرين في الدنيا ينكر البعث ويلومني على تصديقه به ويقول: أأنت تصدق بالبعث والنشور والحساب والجزاء؟! يقول ذلك على وجه التعجب والتكذيب والاستبعاد، والكفر والعناد (أءِذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءِنا لمدينون) أي: مجزيون بأعمالنا

قال: (قال هل أنتم مطلعون) أي: مشرفون يقول المؤمن لأصحابه وجلسائه من أهل الجنة لننظر إليه فنزداد غبطة وسروراً بما نحن فيه ويكون ذلك رأي العين (فاطلع فرآه في سواء الجحيم) أي: رأى قرينه في وسط العذاب وغمراته .

(قال تالله إن كدتَ لتردين) يقول المؤمن مخاطبا للكافر: والله إن كدت لتهلكني لو أطعتك (ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين) أي: ولولا فضل الله علي لكنت معك في العذاب، ولكنه تفضل ورحمني فهداني * إلا للإيمان، وأرشدني إلى توحيده .

وقوله: (أفما نحن بميتين موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين) هذا من كلام المؤمن مبتهجاً من نعمة الله بما أعطاه من الخلد في الجنة والإقامة في دار الكرامة، لا موت فيها ولا عذاب؛ ولهذا قال: (إن هذا لهو الفوز العظيم) الذي حصل لهم به كل خير وكل ما تهوى النفوس وتشتهي واندفع عنهم به كل محذور ومكروه .

وقوله: (لمثل هذا فليعمل العاملون) هو من كلام الله تعالى، ومعناه: لمثل هذا النعيم وهذا الفوز فليعمل العاملون في الدنيا، ليصيروا إليه في الآخرة .

أذلك خيرٌ نزلا أم شجرة الزقوم (62) إنا جعلناها فتنة للظالمين (63) إنها شجرةٌ تخرج في أصل الجحيم (64) طلعها كأنه رءوس الشياطين (65) فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون (66) ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم (67) ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم (68) إنهم ألفوا آباءهم ضالين (69) فهم على آثارهم يُهرعون (70)

يقول الله تعالى: أهذا الذي ذكره من نعيم الجنة وما فيها من مآكل ومشارب ومناكح وغير ذلك من الملاذ - خير ضيافة وعطاء (أم شجرة الزقوم)؟ أي: التي في جهنم

وقوله: (إنا جعلناها فتنة) أي: عذاباً ونكالاً، (للظالمين) أنفسهم بالكفر والمعاصي

وقوله: (إنها شجرةٌ تخرج في أصل الجحيم) أي: أصل منبتها في قرار النار، (طلعها كأنه رءوس الشياطين) تبشيع لها وتكريه لذكرها وإنما شبهها برءوس الشياطين وإن لم تكن معروفة عند المخاطبين؛ لأنه قد استقر في النفوس أن الشياطين قبيحة المنظر .

وقوله: (فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون) ، ذكر تعالى أنهم يأكلون من هذه الشجرة التي لا أبشع منها، ولا أقبح من منظرها، مع ما هي عليه من سوء الطعم والريح والطبع، فإنهم ليضطرون إلى الأكل منها، لأنهم لا يجدون إلا إياها، .

روى الترمزي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لو أنَّ قطرةً من الزَّقُّومِ قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيفَ بمن يكون طعامُهُ صححه الألباني

وقوله تعالى: (ثم إن لهم عليها) أي: على أثر هذا الطعام (لشوبا من حميم) أي: ماء حارا قد تناهى حره، وقوله: (ثم إن مرجعهم) أي: مآلهم (لإلى الجحيم) ليذوقوا من عذابه الشديد وحره العظيم ما ليس عليه مزيد من الشقاء .

وكأنه قيل ما الذي أوصلهم إلى هذه الدار، فقال (إنهم ألفوا آباءهم ضالين) أي: إنما جازيناهم بذلك لأنهم وجدوا آباءهم على الضلالة فاتبعوهم فيها بمجرد ذلك، من غير دليل ولا برهان؛ ولهذا قال: (فهم على آثارهم يُهرعون) أي: يسرعون في الضلالة، فلم يلتفتوا إلى ما دعتهم إليه الرسل، ولا إلى ما حذرتهم عنه الكتب ولا إلى أقوال الناصحين .

ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين (71) ولقد أرسلنا فيهم منذرِين (72) فانظر كيف كان عاقبة المنذَرين (73) إلا عباد الله المخلَصين (74)

يخبر تعالى عن الأمم الماضية أن أكثرهم كانوا ضالين يجعلون مع الله آلهة أخرى وذكر تعالى أنه أرسل فيهم منذرين، ينذرون بأس الله، ويحذرونهم سطوته ونقمته، ممن كفر به وعبد غيره، وأنهم تمادوا على مخالفة رسلهم وتكذيبهم فأهلك المكذبين ودمرهم، ونجى المؤمنين ونصرهم وظفرهم، ولهذا قال: (فانظر كيف كان عاقبة المنذَرين * إلا عباد الله المخلَصين)

قوله :ولقد نادانا نوحٌ فلنعم المجيبون (75) ونجيناه وأهله من الكرب العظيم (76) وجعلنا ذريته هم الباقين (77) وتركنا عليه في الأخرين (78) سلامٌ على نوح في العالمين (79) إنا كذلك نجزي المحسنين (80) إنه من عبادنا المؤمنين (81) ثم أغرقنا الأخرين (82)

لما ذكر تعالى عن أكثر الأولين أنهم ضلوا عن سبيل النجاة، شرع يبين ذلك مفصلا فذكر نوحا، عليه السلام، وما لقى من قومه من التكذيب، وأنه لم يؤمن منهم إلا القليل مع طول المدة حيث لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما مع خمسين قبل النبوة،(ولقد نادانا نوحٌ فلنعم المجيبون) أي: لدعاء الداعين وسماع تبتلهم وتضرعهم أجابه إجابة طابقت ما سأل (ونجيناه وأهله من الكرب العظيم) ، وهو التكذيب والأذى وأغرق جميع الكافرين، (وجعلنا ذريته هم الباقين) وأبقى ذريته متسلسلين فجميع الناس من ذرية نوح عليه السلام .

وقوله: (وتركنا عليه في الأخرين) جعل له ثناء حسنا مستمرا إلى وقت الأخرين وذلك لأنه محسن في عبادة الخالق، محسن إلى الخلق، وهذه سنته تعالى في المحسنين أن ينشر لهم من الثناء على حسب إحسانهم .

وقوله تعالى: (سلامٌ على نوح في العالمين) مفسر لما أبقى عليه من الذكر الجميل والثناء الحسن أنه يُسَلم عليه في جميع الطوائف والأمم، (إنا كذلك نجزي المحسنين) أي: هكذا نجزي من أحسن من العباد في طاعة الله، نجعل له لسان صدق يُذكر به بعده بحسب مرتبته في ذلك .

ثم قال: (إنه من عبادنا المؤمنين) أي المصدقين الموحدين الموقنين إذ أن الإيمان أرفع منازل العباد وأنه مشتمل على جميع شرائع الدين وأصوله لأن الله مدح به خواص خلقه، (ثم أغرقنا الأخرين) أي: أهلكناهم، فلم تبق منهم عين تطرف، ولا ذكر لهم ولا عين ولا أثر، ولا يُعرفون إلا بهذه الصفة القبيحة .

وإن من شيعته لإبراهيم (83) إذ جاء ربه بقلب سليم (84) إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون (85) أئفكا آلهة دون الله تريدون (86) فما ظنكم برب العالمين (87)

قال (وإن من شيعته لإبراهيم) وإن من شيعة نوح عليه السلام ومن هو على طريقته في النبوة والرسالة ودعوة الخلق إلى الله إبراهيم الخليل عليه السلام

(إذ جاء ربه بقلب سليم) سليم من الشرك والشبه والشهوات المانعة من تصور الحق والعمل به، وإذا كان العبد سليماً سلم من كل شر، وحصل له كل خير، ومن سلامته أنه سليم من غش الخلق وحسدهم، وغير ذلك من مساوئ الأخلاق، ولهذا نصح الخلق في الله، وبدأ بأبيه وقومه فقال (إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون) هذا استفهام على وجه الإنكار وإلزام لهم بالحجة (أئفكا آلهة دون الله تريدون) أي: أتعبدون من دون الله آلهة كذباً ليست بآلهة ولا تصلح للعبادة (فما ظنكم برب العالمين) أن يفعل بكم، وقد عبدتم معه غيره، وهذا ترهيب لهم بالجزاء والعقاب على الإقامة على شركهم .

فنظر نظرة في النجوم (88) فقال إني سقيمٌ (89) فتولوا عنه مدبرين (90) فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون (91) ما لكم لا تنطقون (92) فراغ عليهم ضربا باليمين (93) فأقبلوا إليه يَزِفون (94) قال أتعبدون ما تنحتون (95) والله خلقكم وما تعملون (96) قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم (97) فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين (98)

إنما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام لقومه ذلك، ليقيم في البلد إذا ذهبوا إلى عيدهم، فإنه كان قد أزف خروجهم إلى عيد لهم، فأحب أن يختلي بآلهتهم ليكسرها، فقال لهم كلاما هو حق في نفس الأمر، فهموا منه أنه سقيم على مقتضى ما يعتقدونه، (فتولوا عنه مدبرين) العرب تقول لمن تفكر نظر في النجوم، أي نظر في السماء متفكرا فيما يلهيهم به، فقال: (إني سقيمٌ) أي: مريض

فعن أبي هريرة ، رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات ثنتين في ذات الله قوله (إني سقيم ) والثانية قوله (بل فعله كبيرهم هذا) وواحدة في شأن سارة ، فانه قدم أرض جبار ومعه سارة وكانت أحسن الناس فقال لها إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك فإن سألك فأخبريه أنك أختي لأنك أختي في الإسلام فإني لا أعلم في الأرض مسلما غيري وغيرك ، فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبارأتاه فقال له : لقد قدم أرضك امرأةٌ لا ينبغي لها أن تكون إلا لك فأرسل إليها فأتي بها وقام إبراهيم عليه السلام إلى الصلاة فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها فقبضت يده قبضة شديدة فقال لها : ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرك ففعلت فعاد فقبضت أشد من القبضة الأولى فقال لها مثل ذلك ففعلت فعاد فقبضت أشد من القبضتين الأوليين فقال:ادعي الله أن يطلق يدي فلك الله ألا أضرك ففعلت وأطلقت يده ، ودعا الذي جاء بها فقال له إنك إنما أتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان فأخرجها من أرضي وأعطها هاجر، فأقبلت تمشي فلمَّا رآها إبراهيم عليه السلام انصرف(يعني من الصلاة ) فقال لها مهيم ؟ قالت : خيرا ، كفَّ الله يد الفاجر وأخدم خادما " قال أبو هريرة فتلك أمكم يابني ماء السماء ، رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم

ولهذا قال تعالى: (فتولوا عنه مدبرين) أي: إلى عيدهم، (فراغ إلى آلهتهم) أي: ذهب إليها بعد أن خرجوا في سرعة واختفاء، (فقال ألا تأكلون) ، وذلك أنهم كانوا قد وضعوا بين أيديها طعاما قربانا لتُبَرِك لهم فيه .

وقوله: (فراغ عليهم ضربا باليمين) ضربهم باليمين لأنها أشد وأنكى؛ ولهذا تركهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون، وقوله هاهنا: (فأقبلوا إليه يَزِفون): أي يسرعون ويهرعون ويريدون أن يوقعوا به بعدما بحثوا .

فإنهم لما رجعوا ما عرفوا من أول وهلة من فَعل ذلك حتى كشفوا واستعلموا، فعرفوا أن إبراهيم، عليه السلام، هو الذي فعل ذلك فلما جاءوا ليعاتبوه أخذ في تأنيبهم وعيبهم، فقال: (أتعبدون ما تنحتون) ؟! أي: أتعبدون من دون الله من الأصنام ما أنتم تنحتونها وتجعلونها بأيديكم؟ (والله خلقكم وما تعملون) (ما) مصدرية، فيكون تقدير الكلام: والله خلقكم وعملكم؛ فعند ذلك لما قامت عليهم الحجة عدلوا إلى أخذه باليد والقهر، فقالوا: (ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم) وكان من أمرهم أن نجاه الله من النار وأظهره عليهم، وأعلى حجته ونصرها؛ ولهذا قال تعالى: (فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين) رد الله كيدهم في نحورهم وجعل النار على إبراهيم بردا وسلاما .

وقال إني ذاهبٌ إلى ربي سيهدين (99) رب هب لي من الصالحين (100) فبشرناه بغلام حليم (101) فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين (102) فلما أسلما وتله للجبين (103) وناديناه أن يا إبراهيم (104) قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين (105) إن هذا لهو البلاء المبين (106) وفديناه بذبح عظيم (107) وتركنا عليه في الأخرين (108) سلامٌ على إبراهيم (109) كذلك نجزي المحسنين (110) إنه من عبادنا المؤمنين (111) وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين (112) وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسنٌ وظالمٌ لنفسه مبينٌ (113)

يقول تعالى مخبرا عن خليله إبراهيم عليه السلام: أنه بعد ما نصره الله على قومه وأيس من إيمانهم بعدما شاهدوا من الآيات العظيمة، هاجر من بين أظهرهم إلى الأرض المباركة أرض الشام، وقال: (إني ذاهبٌ إلى ربي سيهدين) يدلني على ما فيه الخير لي من أمر ديني ودنياي (رب هب لي) ولدا يكون (من الصالحين) يعني: أولادا مطيعين عوضا من قومه وعشيرته الذين فارقهم وذلك عندما أيس من قومه ولم ير فيهم خيرا دعا الله أن يهب له غلاماً صالحا ينفع الله به في حياته وبعد مماته فاستجاب الله له وقال (فبشرناه بغلام حليم) وهذا الغلام هو إسماعيل عليه السلام، فإنه أول ولد بشر به إبراهيم، عليه السلام، وهو أكبر من إسحاق باتفاق المسلمين وأهل الكتاب .

وقوله: (فلما بلغ معه السعي) أي: كبر وترعرع وصار يذهب مع أبيه ويمشي معه وقد كان إبراهيم، عليه السلام، يذهب في كل وقت يتفقد ولده وأم ولده بمكة وينظر في أمرهما .

(فلما بلغ معه السعي) يعني: شب وارتحل وأطاق ما يفعله أبوه من السعي والعمل، (فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى) رؤيا الأنبياء وحي، ثم تلا هذه الآية: (قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى).

وإنما أعلم ابنه بذلك ليكون أهون عليه، وليختبر صبره وجلده وعزمه من صغره على طاعة الله تعالى وطاعة أبيه وأمر الله تعالى لا بد من تنفيذه .

(قال يا أبت افعل ما تؤمر) أي: امض لما أمرك الله من ذبحي، (ستجدني إن شاء الله من الصابرين) أي: سأصبر وأحتسب ذلك عند الله عز وجل وصدق، صلوات الله وسلامه عليه، فيما وعد .

قال الله تعالى: (فلما أسلما) أي: استسلما لأمر الله وانقادا له؛ إبراهيم امتثل أمر الله، وإسماعيل طاعة الله وأبيه .

ومعنى (وتلَّه للجبين) أي: صرعه على وجهه ليذبحه من قفاه، ولا يشاهد وجهه عند ذبحه، ليكون أهون عليه .

وقوله تعالى: (وناديناه) في تلك الحال والأمر المدهش (أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا) أي: قد فعلت ما أمرت به فإنك وطنت نفسك على ذلك وفعلت كل سبب ولم يبق إلا إمرار السكين على حلقه (إنا كذلك نجزي المحسنين) أي: هكذا نصرف عمن أطاعنا المكاره والشدائد، ونجعل لهم من أمرهم فرجا ومخرجا .

قال تعالى: (إن هذا لهو البلاء المبين) أي: الاختبار الواضح الجلي؛ حيث أمر بذبح ولده، فسارع إلى ذلك مستسلما لأمر الله، منقادا لطاعته .

وقوله: (وفديناه بذبح عظيم) استنقذنا اسماعيل فجعلنا بديلاً عنه كبشا عظيما من الغنم ذبحه إبراهيم في مِنى فكان عظيما من جهة أنه كان فداء لإسماعيل ومن جملة العبادات الجليلة وقربانا وسنة إلى يوم القيامة .

وقوله (وتركنا عليه في الأخرين) أي: وأبقينا عليه ثناء صادقا في الأخرين، كما كان الأولين، فكل وقت بعد إبراهيم عليه السلام فإنه فيه محبوب معظم مثنى عليه (سلام على إبراهيم) أي: تحية عليه (كذلك نجزي المحسنين) في عبادة الله ومعاملة خلقه أن نفرج عنهم الشدائد ونجعل لهم العاقبة والثناء الحسن، (إنه من عبادنا المؤمنين) بما أمر الله بالإيمان به الذي بَلغ بهم الإيمان إلى درجة اليقين .

وقوله: (وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين) هذه البشارة الثانية بإسحاق جزاء له على صبره ورضاه بأمر ربه وطاعته له والذي من ورائه يعقوب فبشر بوجوده وبقائه ووجود ذريته وكونه نبيا من الصالحين فهي بشارات متعددة .

وقوله: (وباركنا عليه وعلى إسحاق) أي: أنزلنا عليهما البركة التي هي النمو والزيادة في علمهما وعملهما ومن ذريتهما نشر الله ثلاث أمم عظيمة، أمة العرب من ذرية إسماعيل، وأمة بني إسرائيل، وأمة الروم من ذرية إسحاق (ومن ذريتهما محسنٌ وظالمٌ لنفسه مبينٌ) أي: منهم الصالح والطالح والعادل والظالم الذي تبين ظلمه بكفره وشركه .

ولقد مننا على موسى وهارون (114) ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم (115) ونصرناهم فكانوا هم الغالبين (116) وآتيناهما الكتاب المستبين (117) وهديناهما الصراط المستقيم (118) وتركنا عليهما في الآخرين (119) سلامٌ على موسى وهارون (120) إنا كذلك نجزي المحسنين (121) إنهما من عبادنا المؤمنين (122)

يذكر تعالى ما أنعم به على موسى وهارون من النبوة والنجاة بمن آمن معهما من قهر فرعون وقومه، وما كان يعتمده في حقهم من الإساءة العظيمة، من قتل الأبناء واستحياء النساء، والعبودية والمذلة، ثم بعد هذا كله نصرهم عليهم، وأقر أعينهم منهم، فغلبوهم، كما أنـزل الله على موسى الكتاب العظيم الواضح الجلي المستبين، وهو التوراة فقال: (وآتيناهما الكتاب المستبين * وهديناهما الصراط المستقيم) أي: في الأقوال والأفعال .

(وتركنا عليهما في الآخرين) أي: أبقينا لهما من بعدهما ذكرا جميلا وثناء حسنا، ثم فسره بقوله: (سلامٌ على موسى وهارون * إنا كذلك نجزي المحسنين * إنهما من عبادنا المؤمنين) .

وإن إلياس لمن المرسلين (123) إذ قال لقومه ألا تتقون (124) أتدعون بعلا وتذرون أحسنَ الخالقين (125) اللهَ ربَكم وربَ آبائكم الأولين (126) فكذبوه فإنهم لمحضرون (127) إلا عباد الله المخلَصين (128) وتركنا عليه في الأخرين (129) سلامٌ على إل ياسين (130) إنا كذلك نجزي المحسنين (131) إنه من عبادنا المؤمنين (132)

يمدح تعالى عبده ورسوله إلياس عليه الصلاة والسلام بالنبوة والرسالة والدعوة إلى الله وأنه أمر قومه بالتقوى وعبادة الله وحده

(إذ قال لقومه ألا تتقون) أي: ألا تخافون الله في عبادتكم غيره؟

وقوله: (أتدعون بعلا) أي: كيف تعبدون صنما ضعيفا مخلوقا (وتذرون أحسن الخالقين * الله ربكم ورب آبائكم الأولين) أي: هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له

قال الله تعالى: (فكذبوه) فيما دعاهم إليه فلم ينقادوا له، قال الله تعالى متوعدا لهم (فإنهم لمحضرون) أي للعذاب يوم الحساب

(إلا عباد الله المخلَصين) أي: الذين أخلصهم الله ومنّ عليهم باتباع نبيهم فإنهم غير محضرين في العذاب وإنما لهم من الله جزيل الثواب

وقوله: (وتركنا عليه) أي: على إلياس (في الأخِرين) أي: ثناء حسنا

(سلامٌ على إل ياسين) أي: تحية من الله ومن عباده عليه

وقوله: (إنا كذلك نجزي المحسنين * إنه من عبادنا المؤمنين) أثنى الله عليه كما أثنى على إخوانه صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .

وإن لوطا لمن المرسلين (133) إذ نجيناه وأهله أجمعين (134) إلا عجوزا في الغابرين (135) ثم دمرنا الأخرين (136) وإنكم لتمرون عليهم مصبحين (137) وبالليل أفلا تعقلون (138)

هذا ثناء منه تعالى على عبده ورسوله لوط بالنبوة والرسالة، ودعوته إلى اللّه قومه، ونهيهم عن الشرك وفعل الفاحشة

فلما لم ينتهوا، نجاه اللّه وأهله أجمعين، فسروا ليلا فنجوا

(إلا عجوزا في الغابرين) هي زوجته هلكت مع الذين هلكوا من قومه لكفرها

(ثمّ دمّرنا الأخرين) بعد خروج لوط عليه السلام ومن آمن معه أهلكنا الباقين المكذبين من قومه .

(وإنّكم لتمرّون عليهم) أي: إنكم يا أهل مكة لتمرون في أسفاركم إلى بلاد الشام على منازل قوم لوط وآثارهم (مصبحين * وباللّيل) أي: في هذه الأوقات، يكثر ترددكم إليها ومروركم بها، فلم تقبل الشك والمرية (أفلا تعقلون) الآيات والعبر، وتنزجرون عما يوجب الهلاك .

وإن يونس لمن المرسلين (139) إذ أبق إلى الفلك المشحون (140) فساهم فكان من المدحضين (141) فالتقمه الحوت وهو مُليمٌ (142) فلولا أنه كان من المسبحين (143) للبث في بطنه إلى يوم يبعثون (144) فنبذناه بالعراء وهو سقيمٌ (145) وأنبتنا عليه شجرة من يقطين (146) وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون (147) فآمنوا فمتعناهم إلى حين (148)

هذا ثناء منه تعالى على عبده ورسوله يونس بن متى كما أثنى على إخوانه المرسلين بالنبوة والرسالة

ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الله تعالى : (لا ينبغي لعبد لي أن يقول: أنا خير من يونس بن متى)

وقوله: (إذ أبق إلى الفلك المشحون) إذ هرب من بلده نينوى بالعراق غاضبا على قومه حين لم يؤمنوا به وركب سفينة مملوءة ركابا وأمتعة

(فساهم) أي: قارع (فكان من المدحضين) أي: المغلوبين وذلك أن السفينة أحاطت بها الأمواج من كل جانب، وأشرفوا على الغرق، فساهموا على من تقع عليه القرعة يلقى في البحر، لتخف بهم السفينة، فوقعت القرعة على نبي الله يونس، عليه الصلاة والسلام فألقي في البحر، فابتلعه الحوت، ويونس عليه السلام آت بما يلام عليه .

وقوله: (فلولا أنه كان من المسبحين * للبث في بطنه إلى يوم يبعثون) فلولا ما تقدم له من كثرة العبادة والعمل الصالح قبل وقوعه في بطن الحوت وتسبيحه وهو في بطن الحوت بقوله (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) الأنبياء 87 ، لمكث في بطن الحوت وصار له قبرا إلى يوم القيامة .

وقال تعالى (فنبذناه بالعراء وهو سقيم) فطرحناه من بطن الحوت وألقيناه في أرض خالية عارية من الشجر والبناء وهو ضعيف البدن .

وقال تعالى (وأنبتنا عليه شجرة من يقطين) من القرع تظله وينتفع بها

وللقرع فوائد، منها: سرعة نباته، وتظليل ورقه لكبره، ونعومته، وأنه لا يقربها الذباب، وجودة أغذية ثمره، وأنه يؤكل نيئا ومطبوخا بلبه وقشره أيضا وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان يحب الدباء، ويتتبعه من حواشي الصحفة " رواه البخاري

وقوله تعالى: (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) الذين أرسل إليهم أولاً أُمر بالعود إليهم بعد خروجه من الحوت، فصدقوه .

وقوله: (أو يزيدون) بل يزيدون

وقوله: (فآمنوا) أي: فئامن هؤلاء القوم الذين أرسل إليهم يونس، عليه السلام (فمتعناهم إلى حين) أي: إلى وقت آجالهم .

فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون (149) أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون (150) ألا إنهم من إفكهم ليقولون (151) ولد الله وإنهم لكاذبون (152) أصطفى البنات على البنين (153) ما لكم كيف تحكمون (154) أفلا تذكرون (155) أم لكم سلطانٌ مبينٌ (156) فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين (157) وجعلوا بينه وبين الجِنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون (158) سبحان الله عما يصفون(159)إلا عباد الله المخلصين (160)

يقول تعالى منكرا على هؤلاء المشركين في جعلهم لله البنات، سبحانه، ولهم ما يشتهون، أي: من الذكور، أي: يودون لأنفسهم الجيد ولا يختار لنفسه إلا البنين يقول تعالى: فكيف نسبوا إلى الله تعالى القسم الذي لا يختارونه لأنفسهم؟ ولهذا قال: (فاستفتهم) أي: سلهم على سبيل الإنكار عليهم (ألربك البنات ولهم البنون) .

وقوله: (أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون) أي: كيف حكموا على الملائكة أنهم إناث وما شاهدوا خلقهم؟

وقوله: (ألا إنهم من إفكهم) أي: من كذبهم (ليقولون * ولد الله) أي: صدر منه الولد (وإنهم لكاذبون) فذكر الله عنهم في الملائكة ثلاثة أقوال في غاية الكفر والكذب، فأولا جعلوهم بنات الله، فجعلوا لله ولدا وجعلوا ذلك الولد أنثى، ثم عبدوهم من دون الله وكل منها كاف في التخليد في نار جهنم .

ثم قال منكرا عليهم: (أصطفى البنات على البنين) أي: أي شيء يحمله عن أن يختار البنات دون البنين؟ ولهذا قال: (ما لكم كيف تحكمون) أي: ما لكم عقول تتدبرون بها ما تقولون؟

(أفلا تذكرون * أم لكم سلطانٌ مبينٌ) أي: حجة على ما تقولونه

(فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين) أي: هاتوا برهانا على ذلك يكون مستندا إلى كتاب منـزل من السماء عن الله: أنه اتخذ ما تقولونه، فإن ما تقولونه لا يمكن استناده إلى عقل، بل لا يجوزه العقل بالكلية .

وقوله: (وجعلوا بينه وبين الجِنة نسبا) أي: جعل هؤلاء المشركون بالله بين الله وبين الجِنة نسبا حيث زعموا أن الملائكة بنات الله وأن أمهاتهن سروات الجِنة (ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون) أي: أن الجِنة قد علمت أنهم محضرون بين يدى الله ليجازيهم فهم عباد أذلاء فلو كان بينهم وبينه نسب، لم يكونوا كذلك .

وقوله: (سبحان الله عما يصفون) أي: تعالى وتقدس وتنـزه عن أن يكون له ولد، وعما يصفه به الظالمون الملحدون علوا كبيرا .

وقوله: (إلا عباد الله المخلَصين) فإنه لم ينزه نفسه عما وصفوه به لإنهم لم يصفوه إلا بما يليق بجلاله وبذلك كانوا مخلَصين .

فإنكم وما تعبدون (161) ما أنتم عليه بفاتنين (162) إلا من هو صال الجحيم (163) وما منا إلا له مقامٌ معلومٌ (164) وإنا لنحن الصافون (165) وإنا لنحن المسبحون (166) وإن كانوا ليقولون (167) لو أن عندنا ذكرا من الأولين (168) لكنا عباد الله المخلَصين (169) فكفروا به فسوف يعلمون (170)

يقول تعالى مخاطبا للمشركين (فإنكم وما تعبدون * ما أنتم عليه بفاتنين * إلا من هو صال الجحيم) أي: ما ينقاد لمقالكم وما أنتم عليه من الضلالة والعبادة الباطلة من هو أضل منكم ممن ذري للنار فهذا الضرب من الناس هو الذي ينقاد لدين الشرك والكفر والضلالة .

ثم قال تعالى منـزها للملائكة مما نَسبوا إليهم من الكفر بهم والكذب عليهم أنهم بنات الله: (وما منا إلا له مقامٌ معلومٌ) أي: له موضع مخصوص في السماوات ومقامات العبادة لا يتجاوزه ولا يتعداه

(وإنا لنحن الصافون) أي: نقف صفوفا في الطاعة .

في صحيح مسلم عن حذيفة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فُضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض مسجدا، وتربتها طهورا)

(وإنا لنحن المسبحون) أي: والمقدسون لله سبحانه من كل ما لا يليق بجناب كبريائه

وقوله: (وإن كانوا ليقولون * لو أن عندنا ذكرا من الأولين * لكنا عباد الله المخلَصين) يخبر تعالى أن هؤلاء المشركين يظهرون التمني ويقولون لو جاءنا من الذكر والكتب ما جاء الأولين لأخلصنا لله العبادة (فكفروا به فسوف يعلمون) ، وعيد أكيد وتهديد شديد، على كفرهم بربهم – عز وجل - وتكذيبهم - رسوله صلى الله عليه وسلم

ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين (171) إنهم لهم المنصورون (172) وإن جندنا لهم الغالبون (173) فتول عنهم حتى حين (174) وأبصرهم فسوف يبصرون (175) أفبعذابنا يستعجلون (176) فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذَرين (177) وتول عنهم حتى حين (178) وأبصر فسوف يبصرون (179)

يقول تعالى: (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين) أي: تقدم في الكتاب الأول أن العاقبة للرسل وأتباعهم في الدنيا والآخرة، ولهذا قال:(ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون) أي: في الدنيا والآخرة كما تقدم بيان نصرتهم على قومهم ممن كذبهم وخالفهم، وكيف أهلك الله الكافرين، ونجى عباده المؤمنين .

(وإن جندنا لهم الغالبون) أي: تكون لهم العاقبة

وقوله جل وعلا (فتول عنهم حتى حين) أي: اصبر على أذاهم لك، وانتظر إلى وقت مؤجل، فإنا سنجعل لك العاقبة والنصرة والظفر .

وقوله: (وأبصرهم فسوف يبصرون) أي: أنظرهم وارتقب ماذا يحل بهم من العذاب والنكال على مخالفتك وتكذيبك؛ ولهذا قال على وجه التهديد والوعيد: (فسوف يبصرون) ثم قال عز وجل (أفبعذابنا يستعجلون) أي: هم إنما يستعجلون العذاب لتكذيبهم وكفرهم ، فإن الله يغضب عليهم بذلك، ويعجل لهم العقوبة، ومع هذا أيضا كانوا من كفرهم وعنادهم يستعجلون العذاب والعقوبة .

قال الله تعالى: (فإذا نـزل بساحتهم فساء صباح المنذَرين) أي: فإذا نـزل العذاب بمحلتهم، فبئس ذلك اليوم يومهم، بإهلاكهم ودمارهم .

ولهذا ثبت في الصحيحين عن أنس، رضي الله عنه، قال: صبح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، فلما خرجوا بفؤوسهم ومساحيهم ورأوا الجيش، رجعوا وهم يقولون: محمد والله، محمد والخميس فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الله أكبر، خَربت خيبر إنا إذا نـزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين)

وقوله: (فتول عنهم حتى حين * وأبصرهم فسوف يبصرون) تأكيد لما تقدم من الأمر بذلك .

سبحان ربك رب العزة عما يصفون (180) وسلامٌ على المرسلين (181) والحمد لله رب العالمين (182)

ينـزه تعالى نفسه الكريمة ويقدسها ويبرئها عما يقوله الظالمون المكذبون المعتدون - تعالى وتقدس عن قولهم علوا كبيرا- ولهذا قال: (سبحان ربك رب العزة) ، أي: ذي العزة التي لا ترام، (عما يصفون) أي: عن قول هؤلاء المعتدين المفترين

(وسلامٌ على المرسلين) أي: سلام الله عليهم في الدنيا والأخرة؛ لسلامة ما قالوه في ربهم، وصحته وحقيته

(والحمد لله رب العالمين) أي: له الحمد في الأولى والأخرة في كل حال ولما كان التسبيح يتضمن التنـزيه والتبرئة من النقص بدلالة المطابقة، ويستلزم إثبات الكمال، كما أن الحمد يدل على إثبات صفات الكمال مطابقة، ويستلزم التنـزيه من النقص - قرن بينهما في هذا الموضع، وفي مواضع كثيرة من القرآن؛ ولهذا قال: (سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلامٌ على المرسلين * والحمد لله رب العالمين)

تم تفسير سورة الصافات ولله الحمد والمنة.

22 - 3 - 1439هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

7 + 3 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 124 الجزء الثالث ‌‌أهمية الغطاء على وجه المرأة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 123 الجزء الثالث ‌‌حكم قيادة المرأة للسيارة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر