تفسير سورة الانشقاق

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الثلاثاء 25 ربيع الأول 1437هـ | عدد الزيارات: 1826 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد

سورة الانشقاق مكية وآياتها 25

بسم الله الرحمن الرحيم

إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَىٰ سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ * بَلَىٰ إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا * فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ * فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ ۩ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ * فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ

تبدأ السورة الكريمة بطابع الاستسلام لله، استسلام السماء ، واستسلام الأرض في طواعية وخشوع ويسر ، يقول تعالى مبينًا لما يكون في يوم القيامة من تغير الأجرام العظام‏:‏ ‏‏إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّت‏‏ أي‏:‏ انفطرت وتمايز بعضها من بعض، وانتثرت نجومها، وخسف بشمسها وقمرها‏‏ وذلك يوم القيامة .

‏‏وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا‏‏ أي‏:‏ استمعت لأمره، وألقت سمعها، وأصاخت لخطابه، وحق لها ذلك، فإنها مسخرة مدبرة تحت مسخر ملك عظيم، لا يعصى أمره، ولا يخالف حكمه، وحق لها أن تطيع أمره لأنه العظيم الذي لا يمانع ولا يغالب بل قد قهر كل شيء وذل له كل شيء‏‏ .

‏‏وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّت‏‏ أي‏:‏ رجفت وارتجت، ونسفت عليها جبالها، ودك ما عليها من بناء ومعلم، فسويت، ومدها الله تعالى مد الأديم، حتى صارت واسعة جدًا، تسع أهل الموقف على كثرتهم، فتصير قاعًا صفصفًا لا ترى فيها عوجًا ولا أمتا‏‏ .

‏‏وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا‏‏ من الأموات ، ‏‏وَتَخَلَّت‏‏ منهم، فإنه ينفخ في الصور، فتخرج الأموات من الأجداث إلى وجه الأرض، وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ‏‏ أي‏:‏ إنك ساع إلى الله، وعامل بأوامره ونواهيه، ومتقرب إليه إما بالخير وإما بالشر، ثم تلاقي الله يوم القيامة، فلا تعدم منه جزاء بالفضل إن كنت سعيدًا، أو بالعدل إن كنت شقيًا ‏‏.

ولهذا ذكر تفضيل الجزاء، فقال‏:‏ ‏‏فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ‏‏ وهم أهل السعادة ‏‏‏‏فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا‏‏ أي سهلا بلا تعسير أي لا يحقق عليه جميع دقائق أعماله فإن من حوسب كذلك يهلك لا محالة ، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مَن حُوسِبَ عُذِّبَ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلتُ أوَليسَ يقولُ اللَّهُ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8] قَالَتْ: فَقَالَ: إنَّما ذَلِكِ العَرْضُ، ولَكِنْ: مَن نُوقِشَ الحِسَابَ يَهْلِكْ.رواه البخاري

وعن عائشة رصي الله عنها قالت: سمعتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلم يقولُ في بعضِ صلاتهِ : اللهمَّ حاسِبني حسابًا يسيرًا ، فلمَّا انصرف قلتُ : يا نبيَّ اللهِ ما الحسابُ اليسيرُ ؟ قال : أنْ ينظرَ في كتابهِ فيتجاوزَ عنه ، إنَّه من نوقِشَ الحسابَ يومئذٍ يا عائشةُ هلكَ ، وكلُّ ما يصيبُ المؤمِنَ يكفِّرُ الله عزَّ وجلَّ به عنه حتَّى الشوكةُ تشوكهُ " صححه الألباني .

‏‏وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ‏‏ في الجنة ، مَسْرُورًا‏‏ أي فرحا مغتبطا بما أعطاه الله عز وجل إذ نجاه من العذاب وفاز بالثواب، ‏‏وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ‏‏ أي‏:‏ بشماله من خلفه‏‏ تُثْنى يده إلى ورائه ويعطى كتابه بها .

‏‏فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا‏‏ خساراً وهلاكاً (ويصلى سعيرا *إنه كان في أهله مسروراً) أي فرحاً لا يفكر في العواقب ولا يخاف مما أمامه فأعقبه ذلك الفرح اليسير الحزن الطويل (إنه ظن أن لن يحور) أي كان يعتقد أنه لا يرجع إلى الله ولا يعيده بعد موته ، والحور هو الرجوع (بلى إن ربه كان به بصيراً) يعني بلى سيعيده الله كما بدأه ويجازيه على أعماله خيرها وشرها فإنه (كان به بصيراً) أي عليماً خبيراً

‏‏فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ * فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ * فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ‏‏

أقسم في هذا الموضع بآيات الليل، فأقسم بالشفق الذي هو حمرة الأفق، ففي صحيح مسلم، عن عبد الله بن عمرو، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (وَقْتُ صَلَاةِ المَغْرِبِ إذَا غَابَتِ الشَّمْسُ، ما لَمْ يَسْقُطِ الشَّفَقُ) .

‏‏وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ‏‏ أي‏:‏ جمع من حيوانات وغيرها، ‏‏وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ‏‏ أي‏:‏ امتلأ نورًا بإبداره، وذلك أحسن ما يكون وأكثر منافع، والمقسم عليه قوله‏:‏ ‏‏لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ‏‏ ‏‏أي‏:‏‏‏ حالاً بعد حال، أي أنهم يلقون من شدائد يوم القيامة وأهواله أحوالاً .

فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * ‏‏وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ‏‏، أي‏:‏ فماذا يمنعهم من الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر وما لهم إذا قرئت عليهم آيات الرحمن لا يسجدون إعظاماً وإكراماً واحتراماً فلا يخضعون للقرآن، ولا ينقادون لأوامره ونواهيه،

وفي الصحيحين عن أبي رافع قال: صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ (إذا السماء انشقت) فسجد فقلت له فقال سجدت خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه) ، بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ‏‏ أي‏:‏ يعاندون الحق بعدما تبين، فلا يستغرب عدم إيمانهم وعدم انقيادهم للقرآن، فإن المكذب بالحق عنادًا، لا حيلة فيه إذ سجيتهم التكذيب والعناد والمخالفة للحق، ‏‏وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ‏‏، يكتمون في صدورهم (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏‏) فأخبرهم- يا محمد- بأن الله عز وجل قد أعد لهم عذابا أليما .

وقوله (إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) هذا استثناء منقطع، يعني لكن الذين آمنوا- أي:بقلوبهم- وعملوا الصالحات بجوارحهم ( لَهُمْ أَجْرٌ ) أي:في الدار الآخرة

غَيْرُ مَمْنُونٍ:أي غير مقطوع، فالله عز وجل له المنة على أهل الجنة في كل حال وآن ولحظة، وإنما دخلوها بفضله ورحمته لا بأعمالهم، فله عليهم المنة دائما سرمدًا، والحمد لله وحده أبدا؛ ولهذا يلهمون تسبيحه وتحميده كما يلهمون النَّفَس .

تم تفسير سورة الانشقاق ولله الحمد والمنة

25 - 3 - 1437هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

2 + 5 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر