تفسير سورة التكوير

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الخميس 4 ربيع الثاني 1437هـ | عدد الزيارات: 2212 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد

سورة التكوير مكية وآياتها 29

عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من سَرَّه أن ينظر إلي يوم القيامة كأنه رأيُ عين فليقرأ " إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ " و " إذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ " و " إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ " رواه الترمذي وصححه الألباني

بسم الله الرحمن الرحيم

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ

التكوير جَمعُ الشيء بعضه إلى بعض

وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " (الشمسُ والقمرُ مكوَّرانِ يوم القيامة) رواه البخاري

وقوله : وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ : أي انتثرت ، وأصل الانكدار الانصباب .

وقوله " وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ : أي صارت كثيباً مهيلاً ثم صارت كالعهن المنفوش ثم تغيرت هبائاً منبثاً وأزيلت عن أماكنها .

وقوله " وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ : العشار من الإبل وهي خيارها والحوامل منها ولا يزال ذلك اسمها حتى تضع وقد اشتغل الناس عنها وعن الانتفاع بها، بعد ما كانوا أرغب شيء فيها، بما دَهَمهم من الأمر العظيم المُفظع الهائل، وهو أمر القيامة وانعقاد أسبابها، ووقوع مقدماتها .

وقوله : وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ : أي جمعت ليوم القيامة ليقتص الله من بعضها لبعض ويرى العباد كمال عدله حتى إنه يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء ثم يقال لها كوني تراباً .

وقوله " وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ : يرسل الله عليها الدّبور فتسعرها ، وتصير نارًا تأجج .

وقوله : وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ : أي جمع كل شكل إلى نظيره، فقرن كل صاحب عمل مع نظيره فجمع الأبرار مع الأبرار والفجار مع الفجار وزوج المؤمنون بالحور العين والكافرون بالشياطين .

وقال تعالى وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ، وإذا الطفلة المدفونة حيةً سئلت يوم القيامة سؤال تطييب لها وتقريع لوائدها بأي ذنب كان دفنها ؟! إذ كانت العرب في الجاهلية تدفن البنات الصغار أحياءً خشية الفقر أو العار

روى أحمد عن حسناء ابنة معاوية الصريمية عن عمها قال : قلت يا رسول الله من في الجنة ؟ قال : النبي في الجنة والشهيد في الجنة والمولود في الجنة والوئيدة في الجنة . رواه أبو داود وصححه الألباني

وقوله " وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ، الصحف المشتملة على ما عمله العاملون من خير وشر (نشرت) فرقت على أهلها فأخذ كتابه بيمينه وأخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره .

وقوله : وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ ، أي أزيلت.

وقوله : وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ، أي أوقد عليها فاستعرت ، والتهبت التهابا لم يكن لها قبل ذلك .

وقوله : وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ : أي قربت إلى أهلها

وقوله : عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ ، هذا هو الجواب، أي إذا وقعت هذه الأمور حينئذ تعلم كل نفس ما عملت وأحضر ذلك لها .

فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ

أقسم تعالى بالخنس فقال (فلا أقسم بالخنس الجوارِ الكنس) وهي النجوم تخنس بالنهار وتظهر بالليل ، وهي جوارٍ في فلكها وفي حال غيابها يقال لها (كنس) من قول العرب أوى الظبي إلى كناسه إذا تغيب فيه .

وقوله : وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ إذا أدبر أي إذا ذهب فتولى.

وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ : أي أضاء ، قال الشاعر:

حَــتّى إذا الصُّبــحُ لــه تَنَفَّســا **** وانجــابَ عَنهــا لَيلُهـا وعَسعَسَـا

فقوله وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ، أي بدت علائم الصبح وشق النور شيئاً فشيئاً حتى يستكمل وتطلع الشمس وهذه آيات عظام أقسم الله بها لقوة سند القرآن وجلالته وحفظه من كل شيطان رجيم فقال (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) يعني أن هذا القرآن لتبليغُ رسول كريم ، أي ملك شريف حَسَن الخلق، بهي المنظر، وهو جبريل، عليه الصلاة والسلام (ذِي قُوَّةٍ) على ما أمره الله به ومن قوته أنه قلب ديار قوم لوط بهم فأهلكهم، (عند ذي العرش) أي جبريل مقرب عند الله له منزلة رفيعة وخصيصة من الله اختصه بها (مكين) أي له مكانة ومنزلة فوق منازل الملائكة كلهم، (مطاع) أي جبريل مطاع في الملأ الأعلى لأنه من الملائكة المقربين نافذ فيهم أمره مطاع رأيه وقوله (أَمِينٍ) صفة لجبريل بالأمانة، وهذا عظيم جدا أن الرب عز وجل يزكي عبده ورسوله الملكي جبريل فهو ذو أمانة وقيام بما أمر به لا يزيد ولا ينقص ولا يتعدى ما حد له وهذا كله يدل على شرف القرآن عند الله فإنه بعث به هذا الملك الكريم الموصوف بتلك الصفات الكاملة والعادة أن الملوك لا ترسل الكريم عليها إلا في أهم المهمات وأشرف الرسائل ولما ذكر فضل الرسول الملكي الذي جاء بالقرآن ذكر فضل الرسول البشري الذي ينزل عليه القرآن ودعا إليه الناس فقال (وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم فهو ليس بمجنون كما يقوله أعدائه المكذبون برسالته المتقولون عليه الأقوال التي يريدون أن يطفئوا بها ما جاء به بل هو أكمل الناس عقلاً وأجزلهم رأياً وأصدقهم لهجة .

وقوله تعالى (وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ) يعني ولقد رأى محمدٌ جبريل الذي يأتيه بالرسالة عن الله عز وجل على الصورة التي خلقه الله عليها له ستمائة جناح بِالأفُقِ الْمُبِينِ أي البين، وهي الرؤية الأولى التي كانت بالبطحاء ، .

وقوله (وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) أي وما هو على ما أوحاه الله إليه بشحيح يكتم بعضه بل هو صلى الله عليه وسلم أمين أهل الأرض الذي بلغ رسالة ربه البلاغ المبين فلم يشح بشيء منه عن غني ولا فقير ولا رئيس ولا مرءوس ولا ذكر ولا أنثى ولا حضري ولا بدوي ولذلك بعثه الله في أمة أمية جاهلة جهلاء فلم يمت صلى الله عليه وسلم حتى كانوا علماء ربانيين وأحبار متفرسين إليه الغاية في العلوم وإليهم المنتهى في استخراج الدقائق والمفهوم وهم الأساتذة وغيرهم قصاراه أن يكون من تلاميذهم .

وقوله (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ) لما ذكر جلالة كتابه وفضله بذكر الرسولين الكريمين، اللذين وصل إلى الناس على أيديهما كتابه، وأثنى الله عليهما بما أثنى، دفع عنه كل آفة ونقص مما يقدح في صدقه، فقال (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ) أي: في غاية البعد عن الله وعن قربه أي وما هذا القرآن بقول شيطان رجيم، أي لا يقدر على حمله، ولا يريده، ولا ينبغي له .

وقوله فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ؟ أي فأين تذهب عقولكم في تكذيبكم بهذا القرآن، مع ظهوره ووضوحه، وبيان كونه جاء من عند الله عز وجل،

وقوله (إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ) أي هذا القرآن ذكر لجميع الناس، يتذكرون به الأوامر والنواهي وحكما ويتذكرون به الأحكام القدرية والشرعية والجزائية وبالجملة يتذكرون به مصالح الدارين وينالون بالعمل به السعادتين ويتعظون (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) بعد ما تبين الرشد من الغي والهدى من الضلال فمن أراد الهداية فعليه بهذا القرآن، فإنه منجاةٌ له وهداية، ولا هداية فيما سواه، (وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) أي ليست المشيئة موكولة إليكم، فمن شاء اهتدى ومن شاء ضل، بل ذلك كله تابع لمشيئة الله عز وجل رب العالمين فمشئته نافذه لا يمكن أن تعارض أو تمانع وفي هذه الآية وأمثالها رد على فرقتي القدرية النفاة والقدرية المجبرة .

تم تفسير سورة التكوير ولله الحمد والمنة.

4 - 4 - 1437هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

5 + 4 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 124 الجزء الثالث ‌‌أهمية الغطاء على وجه المرأة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 123 الجزء الثالث ‌‌حكم قيادة المرأة للسيارة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر