تفسير سورة المرسلات

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الإثنين 2 شعبان 1437هـ | عدد الزيارات: 3588 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد

سورة المرسلات مكية وآياتها 50

روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال:" بينما نحن مع النبي صلى الله عليه وسلم، في غار ، إذ نـزلت عليه: « وَالْمُرْسَلاتِ » فإنه ليتلوها وإني لأتلقاها من فيه، وإن فاه لرطب بها"

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا 1 فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا 2 وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا 3 فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا 4 فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا 5 عُذْرًا أَوْ نُذْرًا 6 إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ 7 فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ 8 وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ 9 وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ 10 وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ 11 لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ 12 لِيَوْمِ الْفَصْلِ 13 وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ 14 وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ 15

قال الله تعالى (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا) أقسم الله تعالى بالرياح حين تهب متتابعة ، وقوله تعالى (فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا) هي الرياح يقال عصفت الريح إذا هبت بتصويت .

قوله تعالى (وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا) هي الرياح التي تنشر السحاب في آفاق السماء كما يشاء الرب عز وجل .

وقوله (فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا، فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا، عُذْرًا أَوْ نُذْرًا) يعني الملائكة، تنزل بأمر الله على الرسل تفرق بين الحق والباطل والهدى والغي والحلال والحرام، وتلقي إلى الرسل وحياً فيه إعذار إلى الخلق، وإنذار لهم عقاب الله إن خالفوا أمره .

قوله تعالى (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ) هذا هو المقسم عليه بهذه الأقسام، أي:ما وعدتم به من قيام الساعة، والنفخ في الصور، وبعث الأجساد وجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد، ومجازاة كل عامل بعمله، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، إن هذا كله (لَوَاقِع) أي:لكائن لا محالة .

قوله تعالى (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) أي ذهب ضوؤها

قوله تعالى (وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ) أي انفطرت وانشقت تدلت أرجاؤها ووهت أطرافها

قوله تعالى (وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ) أي ذهب بها، فلا يبقى لها عين ولا أثر

قوله تعالى (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) : أي أجلت

قوله تعالى (لأيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) استفهام للتعظيم والتفخيم والتهويل

ثم أجاب بقوله (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) أي: الفصل بين الخلائق، بعضهم لبعض، وحساب كل منهم منفردا

قوله تعالى (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ) ما: مبتدأ، أدراك: خبره، أي: أي شيء جعلك دارياً ما هو فوضع موضع الضمير، يوم الفصل: لزيادة تفظيع وتهويل، لأن محط الفائدة بيان كون يوم الفصل أمراً بديعاً هائلاً .

ثم توعد المكذب بهذا اليوم فقال (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي: يا حسرتهم، وشدة عذابهم، وسوء منقلبهم، أخبرهم الله وأقسم لهم فلم يصدقوه، فاستحقوا العقوبة البليغة .

أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ 16 ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ 17 كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ 18 وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ 19

أي: أما أهلكنا المكذبين السابقين، ثم نتبعهم بإهلاك من كذب من الآخرين، وهذه سنته السابقة واللاحقة في كل مجرم لا بد من عذابه ، فلم لا تعتبرون بما ترون وتسمعون ؟

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ، بعدما شاهدوا من الآيات البينات، والعقوبات الفاضحات لأمثالهم .

أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ 20 فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ 21 إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ 22 فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ 23 وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ 24

أي: أما خلقناكم أيها الآدميون مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ، أي: في غاية الحقارة، خرج من بين الصلب والترائب، حتى جعله الله فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ، وهو الرحم، به يستقر وينمو .

قوله تعالى (إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) ووقت مقدر، يعني من مدة معينة من ستة أشهر إلى تسعة أشهر، ولهذا قال (فَقَدَرْنَا) أي: قدرنا ودبرنا ذلك الجنين، في تلك الظلمات، ونقلناه من النطفة إلى العلقة ثم إلى المضغة إلى أن جعله الله جسدا، ثم نفخ فيه الروح، ومنهم من يموت قبل ذلك .

قوله تعالى (فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ) يعني بذلك نفسه المقدسة حيث كان قدرا تابعا للحكمة، موافقا للحمد

قوله تعالى (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بعدما بين الله لهم الآيات، وأراهم العبر والبينات .

أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا 25 أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا 26 وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا 27 وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ 28

قوله تعالى (أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا، أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا) أي بطنها لأمواتكم، وظهرها لأحيائكم، فيكفت الميت فلا يرى منه شيء .
وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ ، أي: جبالا ترسي الأرض، لئلا تميد بأهلها، فثبتها الله بالجبال الراسيات الشامخات أي: الطوال العراض، وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا ، أي: عذبا زلالا .

قوله تعالى (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) مع ما أراهم الله من النعم التي انفرد الله بها، واختصهم بها، قابلوها بالتكذيب .

انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ 29 انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ 30 لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ 31 إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ 32 كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ 33 وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ 34

هذا من الويل الذي أعد للمجرمين المكذبين، أن يقال لهم يوم القيامة: انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ، ثم فسر ذلك بقوله: انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَب، يعني: لَهَبَ النار إذا ارتفع وصَعِدَ معه دخان، فمن شدته وقوته أن له ثلاث شعب .

لا ظَلِيلٍ ، ذلك الظل أي: لا راحة فيه ولا طمأنينة، وَلا يُغْنِي ، من مكث فيه مِنَ اللَّهَبِ ، بل اللهب قد أحاط به، يمنة ويسرة ومن كل جانب .

ثم ذكر عظم شرر النار، الدال على عظمها وفظاعتها وسوء منظرها ، فقال :

إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ ، أي كل شررة كالقصر من القصور في عظمها فشبه الشرر بالقصر، ثم شبهه في لونه بالجمالات الصفر، وهي الإبل السود؛ والعرب تسمي السود من الإبل صفرا، أي هن سود. وإنما سميت السود من الإبل صفرا لأنه يشوب سوادها شيء من صفرة (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) وعيد من الله للمكذبين

هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ 35 وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ 36 وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ 37 هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ 38 فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ 39 وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ 40

أي: هذا اليوم العظيم الشديد على المكذبين، لا ينطقون فيه من الخوف والوجل الشديد، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ، أي: لا تقبل معذرتهم، ولو اعتذروا .

قوله تعالى (هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأوَّلِينَ) أي أنه جمعهم بقدرته في صعيد واحد يسمعهم الداعي ليفصل بينهم، ويحكم بين الخلائق، فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ ، تقدرون على الخروج من ملكي وتنجون به من عذابي، فَكِيدُونِ ، أي: ليس لكم قدرة ولا سلطان، فهذا تهديد شديد ووعيد أكيد .

ففي ذلك اليوم، تبطل حيل الظالمين، ويضمحل مكرهم وكيدهم، ويستسلمون لعذاب الله، ويبين لهم كذبهم في تكذيبهم وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ .

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ 41 وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ 42 كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ 43 إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ 44 وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ 45

لما ذكر عقوبة المكذبين، ذكر ثواب المحسنين، فقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ أي: المتصفين بالتصديق في أقوالهم وأفعالهم وأعمالهم، ولا يكونون كذلك إلا بأدائهم الواجبات، وتركهم المحرمات .

فِي ظِلالٍ ، من كثرة الأشجار المتنوعة، الزاهية البهية، وَعُيُونٍ ، جارية من السلسبيل، والرحيق وغيرهما، وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ، أي: من خيار الفواكه وطيبها، ويقال لهم: كُلُوا وَاشْرَبُوا ، من المآكل الشهية، والأشربة اللذيذة هَنِيئًا ، أي: من غير منغص ولا مكدر، ولا يتم هناؤه حتى يسلم الطعام والشراب من كل آفة ونقص، وحتى يجزموا أنه غير منقطع ولا زائل، بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ، فأعمالكم هي السبب الموصل لكم إلى هذا النعيم المقيم، وهكذا كل من أحسن في عبادة الله وأحسن إلى عباد الله، ولهذا قال: إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ، ولو لم يكن لهم من هذا الويل إلا فوات هذا النعيم، لكفى به حرمانا وخسرانا .

كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ 46 وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ 47 وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ 48 وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ 49 فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ 50

هذا تهديد ووعيد للمكذبين، أنهم وإن أكلوا في الدنيا وشربوا وتمتعوا باللذات، وغفلوا عن القربات، فإنهم مجرمون، يستحقون ما يستحقه المجرمون، فستنقطع عنهم اللذات، وتبقى عليهم التبعات، وقوله (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) أي: إذا أمر هؤلاء الجهلة من الكفار أن يكونوا من المصلين مع الجماعة امتنعوا من ذلك واستكبروا عنه ولهذا قال (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَقوله تعالى (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) أي: إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن، فبأي كلام يؤمنون به ؟‍

فليس بعد النور المبين إلا دياجي الظلمات ولا بعد الصدق الذي قامت الأدلة والبراهين على صدقه إلا الكذب الصراح والإفك المبين .

تم تفسير سورة المرسلات ولله الحمد والمنة

2 - 8 - 1437هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

8 + 8 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر