تفسير سورة القيامة

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الإثنين 9 شعبان 1437هـ | عدد الزيارات: 1863 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد

سورة القيامة مكية وآياتها 40

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ 1 وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ 2 أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ 3 بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ 4 بَلْ يُرِيدُ الإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ 5 يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ 6

أقسم الله سبحانه بيوم الحساب والجزاء وأقسم بالنفس المؤمنة التقية التي تلوم صاحبها على ترك الطاعات وفِعْل الموبقات، والمقسوم عليه هاهنا هو إثبات الميعاد، والرد على ما يزعمه الجهلة من العباد من عدم بَعث الأجساد؛ ولهذا قال تعالى (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) ليست لا هنا نافية، ولا زائدة وإنما أتي بها للاستفتاح والاهتمام بما بعدها، ولكثرة الإتيان بها مع اليمين، لا يستغرب الاستفتاح بها، وإن لم تكن في الأصل موضوعة للاستفتاح .

فالمقسم به في هذا الموضع، هو المقسم عليه، وهو البعث بعد الموت، وقيام الناس من قبورهم، ثم وقوفهم ينتظرون ما يحكم به الرب عليهم .

وقوله (أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ) أي يوم القيامة، أيظن أن لا نقدر على إعادة عظامه وجمعها من أماكنها المتفرقة (بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ) قوله (قادرين) حال من قوله (نجمع) أي أيظن الإنسان أنا لا نجمع عظامه بل سنجمعها قادرين على أن نسوي بنانه أي قدرتنا صالحة لجمعها ولو شئنا لبعثناهم أزيد مما كان فنجعل بنانه وهي أطراف أصابعه مستويه .

قوله (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هو الكافر يكذب بيوم الحساب ولهذا قال بعده (يسأل أيان يوم القيامة) أي يقول متى يكون يوم القيامة إنما سؤاله سؤال استبعاد لوقوعه وتكذيب لوجوده .

ثم ذكر أحوال القيامة فقال :

فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ 7 وَخَسَفَ الْقَمَرُ 8 وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ 9 يَقُولُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ 10 كَلا لا وَزَرَ 11 إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ 12 يُنَبَّأُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ 13 بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ 14 وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ 15

أي: إذا كانت القيامة برقت الأبصار من الهول العظيم، وشخصت فلا تطرف .

فالمقصود أن الأبصار تنبهر يوم القيامة وتخشع وتحار وتذل لشدة الأهوال من عظم ما تشاهده يوم القيامة من الأمور .

وقوله (وَخَسَفَ الْقَمَرُ) أي ذهب نوره، (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) أي في ذهاب الضوء فلا ضوء لواحد منهما عندها (يَقُولُ الإنْسَانُ يومئذ أَيْنَ الْمَفَرُّ) أي إذا عاين ابن آدم هذه الأهوال يوم القيامة حينئذ يريد أن يفر ويقول أين المفر أي أين المهرب .

قال تعالى ( كَلا لا وَزَرَ إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ) أي: لا نجاة (لا وزر) أي ليس لكم مكات تعتصمون فيه ولهذا قال (إلى ربك يومئذ المستقر) أي المرجع والمصير، فليس في إمكان أحد أن يستتر أو يهرب عن ذلك الموضع، بل لا بد من إيقافه ليجزى بعمله، ولهذا قال (يُنَبَّؤا الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ) أي: يخبر بجميع أعماله قديمها وحديثها أولها وآخرها صغيرها وكبيرها (بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) أي: شاهد على نفسه عالم بما فعله (وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) : ولو جادل عنها فهو بصير بها فالعبد وإن اعتذر عما عمله، فاعتذاره لا يفيده شيئا، لأنه يشهد عليه سمعه وبصره، وجميع جوارحه بما كان يعمل، ولأن استعتابه قد ذهب وقته وزال نفعه .

لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)

كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءه جبريل بالوحي، وشرع في تلاوته عليه، بادره النبي صلى الله عليه وسلم من الحرص قبل أن يفرغ ، وتلاه مع تلاوة جبريل إياه، فوجَّهه الله وعلَّمه ،

فقال : لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ، ثم ضمن له تعالى أنه لا بد أن يحفظه ويقرأه، ويجمعه الله في صدره، فقال: إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ، فالحرص الذي في خاطرك، إنما الداعي له حذر الفوات والنسيان، فإذا ضمنه الله لك فلا موجب لذلك .

فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ أي: إذا كمل جبريل قراءة ما أوحى الله إليك، فحينئذ اتبع ما قرأه وأقرأه .

ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ أي: بيان معانيه، فوعده بحفظ لفظه وحفظ معانيه، وهذا أعلى ما يكون، فامتثل صلى الله عليه وسلم لأدب ربه، فكان إذا تلا عليه جبريل القرآن بعد هذا، أنصت له، فإذا فرغ قرأه

وفي هذه الآية أدب لأخذ العلم، أن لا يبادر المتعلم المعلم قبل أن يفرغ من المسألة التي شرع فيها، فإذا فرغ منها سأله عما أشكل عليه، وكذلك إذا كان في أول الكلام ما يوجب الرد أو الاستحسان، أن لا يبادر برده أو قبوله، حتى يفرغ من ذلك الكلام، ليتبين ما فيه من حق أو باطل، وليفهمه فهما يتمكن به من الكلام عليه، وفيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كما بين للأمة ألفاظ الوحي، فإنه قد بين لهم معانيه .

كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ 20 وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ 21

ليس الأمر كما زعمتم يا معشر المشركين أن لا بعث ولا جزاء بل أنتم قوم تحبون الدنيا وزينتها وتتركون الآخرة ونعيمها .


وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ 22 إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ 23

ثم ذكر ما يدعو إلى إيثار الآخرة، ببيان حال أهلها وتفاوتهم فيها، فقال في جزاء المؤثرين للآخرة على الدنيا: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ أي: حسنة بهية، لها رونق ونور، مما هم فيه من نعيم القلوب، وبهجة النفوس، ولذة الأرواح، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ أي: تراه عيانا ، وقد ثبتت رؤية المؤمنين لله عز وجل في الدار الآخرة في الأحاديث الصحاح ، من طرق متواترة عند أئمة الحديث ، لا يمكن دفعها ولا منعها منها حديث أبي سعيد الخدري - : أن ناسا قالوا : يا رسول الله ، هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ قَالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ :" نَعَمْ، هلْ تُضَارُّونَ في رُؤْيَةِ الشَّمْسِ بالظَّهِيرَةِ ضَوْءٌ ليسَ فِيهَا سَحَابٌ، قالوا: لَا، قَالَ وهلْ تُضَارُّونَ في رُؤْيَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ ضَوْءٌ ليسَ فِيهَا سَحَابٌ؟ قالوا: لَا، قَالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ما تُضَارُونَ في رُؤْيَةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ يَومَ القِيَامَةِ، إلَّا كما تُضَارُونَ في رُؤْيَةِ أحَدِهِمَا" رواه البخاري


وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ 24 تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ 25

هذه وجوه الأشقياء الفجار يوم القيامة تكون عابسة كالحة تستيقن أنها هالكة ستدخل النار .


كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ 26 وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ 27 وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ 28 وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ 29 إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ 30 فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى 31 وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى 32 ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى 33 أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى 34 ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى 35 أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى 36 أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى 37 ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى 38 فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى 39 أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى 40

يعظ تعالى عباده بذكر حال المحتضر عند السياق ، وأنه إذا بلغت روحه التراقي، وهي العظام التي بين ثغرة النحر والعاتق كقوله (فلو لا إذ بلغت الحلقوم)، فحينئذ يشتد الكرب، (وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ) قال بعض الحاضرين لبعض هل من راق يرقيه لأنهم انقطعت آمالهم من الأسباب العادية، فلم يبق إلا الأسباب الإلهية ولكن القضاء والقدر، إذا حتم وجاء فلا مرد له، وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ للدنيا ، وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ أي: اجتمعت الشدائد والتفت، وعظم الأمر وصعب الكرب، وأريد أن تخرج الروح التي ألفت البدن ولم تزل معه، فتساق إلى الله تعالى، حتى يجازيها بأعمالها، ويقررها بفعالها .

فهذا الزجر الذي ذكره الله يسوق القلوب إلى ما فيه نجاتها، ويزجرها عما فيه هلاكها ولكن المعاند الذي لا تنفع فيه الآيات، لا يزال مستمرا على بغيه وكفره وعناده .

فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى، فهذا إخبار عن الكافر الذي كان في الدار الدنيا مكذب للحق بقلبه متولي عن العمل بقالبه فلا خير فيه باطناً ولا ظاهراً ولهذا قال (فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ثم ذهب إلى أهله يتمطى) أي أشرا بطرا كسلاناً لا همة له ولا عمل .

أولى لك فأولى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى : وهذه كلمات وعيد، كررها لتكرير وعيده، ثم ذكر الإنسان بخلقه الأول، فقال (أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى) أي: معطلا ، لا يؤمر ولا ينهى، ولا يثاب ولا يعاقب؟ هذا حسبان باطل وظن بالله بغير ما يليق بحكمته، فالمقصود هنا إثبات الميعاد والرد على من أنكره من أهل الزيغ والجهل والعناد ولهذا قال مستدلاً على الإعادة بالبداءة (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى) ثُمَّ كَانَ بعد المني عَلَقَةً أي: دما، فَخَلَقَ الله منها الحيوان وسواه أي: أتقنه وأحكمه، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ : الذي خلق الإنسان وطوره إلى هذه الأطوار المختلفة (بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) على إعادة الخلق بعد فنائهم

ونقول (بلى) في مثل هذه المواضع في صلاة النافلة أو في خارج الصلاة .

تم تفسير سورة القيامة ولله الحمد والمنة

9 - 8 - 1437هـ

بَلْ يُرِيدُ الإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

6 + 4 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 124 الجزء الثالث ‌‌أهمية الغطاء على وجه المرأة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 123 الجزء الثالث ‌‌حكم قيادة المرأة للسيارة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر