تفسير سورة القمر

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الأحد 4 شعبان 1438هـ | عدد الزيارات: 1309 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد

سورة القمر مكية وآياتها 55

بسم الله الرحمن الرحيم

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4 ) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)

يخبر تعالى عن اقتراب الساعة وفراغ الدنيا وانقضائها ، وعن سهل بن سعد قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولبُعِثتُ أنا والساعة هكذا » وأشار بإصبعيه:السبابة والوسطى. أخرجه البخاري ومسلم ، وقوله: (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ): قد كان هذا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى البخاري عن أنس بن مالك؛ أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، فأراهم القمر شِقَّتين حتى رأوا حِرَاءً بينهما.وقوله: (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً) أي:دليلا وحجة وبرهانا (يعرضوا) أي:لا ينقادون له، بل يعرضون عنه ويتركونه وراء ظهورهم، (وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) أي:ويقولون:هذا الذي شاهدناه من الحجج، سحرٌ سحرنا به .ومعنى (مُسْتَمِرٌّ) أي: ذاهب (وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) أي:كذبوا بالحق إذ جاءهم، واتبعوا ما أمرَتهم به آراؤهم وأهواؤهم من جهلهم وسخافة عقولهموقوله: (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) أي:أن الخير واقع بأهل الخير، والشر واقع بأهل الشروقوله: (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأنْبَاءِ) أي:من الأخبار عن قصص الأمم المكذبين بالرسل، وما حل بهم من العقاب والنكال والعذاب، مما يتلى عليهم في هذا القرآن، (مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ) أي:ما فيه واعظ لهم عن الشرك والتمادي على التكذيبوقوله: (حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ) أي:في هدايته تعالى لمن هداه وإضلاله لمن أضله، (فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ) يعني :أي شيء تغني النذر عمن كتب الله عليه الشقاوة، وختم على قلبه؟ فمن الذي يهديه من بعد الله؟

فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ(6)

يقول تعالى: فتول ، يا محمد ، عن هؤلاء الذين إذا رأوا آية يعرضوا ويقولوا:هذا سحر مستمر، فأعرض عنهم وانتظرهم، ( يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ ) أي:إلى شيء منكر فظيع، وهو موقف الحساب وما فيه من البلاء، بل والزلازل والأهوال .

خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)

(خشَّعًا أَبْصَارُهُمْ) أي:ذليلة أبصارهم ( يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ ) وهي:القبور، (كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ) أي:كأنهم في انتشارهم وسرعة سيرهم إلى موقف الحساب إجابة للداعي (جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ) في الآفاق؛ ولهذا قال مُهْطِعِينَ أي:مسرعين (إِلَى الدَّاعِي) ، لا يخالفون ولا يتأخرون، (يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ) أي:يوم شديد الهول عَبُوس قَمْطَرِير .

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ 9 فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)

يقول تعالى: (كَذَّبَتْ) قبل قومك يا محمد (قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا) أي صرحوا له بالتكذيب واتهموه بالجنون وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (وَازْدُجِرَ) أي:انتهروه وزجروه

وأوعدوه .( فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ) أي:إني ضعيف عن هؤلاء وعن مقاومتهم فَانْتَصِرْ أنت لدينك قال الله تعالى: ( فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ) قال السدي:هو الكثير وَفَجَّرْنَا الأرْضَ عُيُونًا أي:نبعت جميعُ أرجاء الأرض، حتى التنانير التي هي مكان النيران نبعت عيونا، فَالْتَقَى الْمَاءُ أي:من السماء ومن الأرض (عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) أي:أمر مقدر .عن ابن عباس: ( فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ ) كثير، لم تمطر السماء قبل ذلك اليوم ولا بعده، ولا من السحاب؛ فتحت أبواب السماء بالماء من غير سحاب ذلك اليوم، فالتقى الماءان على أمر قد قدر .(وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ) هي المسامير ، وواحدها دسار، ويقال:دَسيروقوله: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) أي:بأمرنا بمرأى منا وتحت حفظنا وكلاءتنا (جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ) أي جزاء لهم على كفرهم بالله وانتصارًا لنوح، عليه السلام .وقوله: (وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً) المراد من ذلك جنس السفن، وقوله: (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أي:فهل من يتذكر ويتعظ ؟وقوله: ( فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ) أي:كيف كان عذابي لمن كفر بي وكذب رسلي ولم يتعظ بما جاءت به نُذُري، وكيف انتصرت لهم، وأخذت لهم بالثأر .(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) أي:سهلنا لفظه، ويسرنا معناه لمن أراده، ليتذكر الناس .قال ابن عباس: لولا أن الله يسره على لسان الآدميين، ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله، عز وجل .وقوله: ( فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) أي:فهل من متذكر بهذا القرآن الذي قد يَسَّر الله حفظه ومعناه؟

كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)

يقول تعالى مخبرا عن عاد قوم هود:إنهم كذبوا رسولهم أيضا، كما صنع قوم نوح، وأنه تعالى أرسل ( عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا ) ، وهي الباردة الشديدة البرد، فِي يَوْمِ نَحْسٍ أي:عليهم قاله الضحاك، وقتادة، والسّدّي ( مُسْتَمِرٍّ ) عليهم نحسه ودماره؛ لأنه يوم اتصل فيه عذابهم الدنيوي بالأخروي .وقوله: ( تَنـزعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ) وذلك أن الريح كانت تأتي أحدهم فترفعه حتى تغيبه عن الأبصار، ثم تنكسه على أم رأسه، فيسقط إلى الأرض، فتثلغ رأسه فيبقى جثة بلا رأس؛ ولهذا قال: ( كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ )

كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27)

وهذا إخبار عن ثمود أنهم كذبوا رسولهم صالحا، (فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) ، يقولون:لقد خبنا وخسرنا إن سلمنا كُلّنا قيادنا لواحد منا .ثم تعجبوا من إلقاء الوحي عليه خاصة من دونهم، ثم رموه بالكذب فقالوا:(بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ)أي:متجاوز في حد الكذب قال الله تعالى:(سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأشِرُ) وهذا تهديد لهم شديد ووعيد أكيد .ثم قال تعالى:(إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ) أي:اختبارا لهم؛ أخرج الله لهم ناقة عظيمة عُشراء من صخرة صمَّاء طبق ما سألوا، لتكون حجة الله عليهم في تصديق صالح، عليه السلام، فيما جاءهم به ثم قال آمرا لعبده ورسوله صالح:(فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ) أي:انتظر ما يؤول إليه أمرهم، واصبر عليهم، فإن العاقبة لك والنصر لك في الدنيا والآخرة .

وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ ( 29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)

(وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) أي:يوم لهم ويوم للناقة .وقوله: (كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) قال مجاهد:إذا غابت حضروا الماء، وإذا جاءت حضروا اللبن ، ثم قال تعالى:(فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ) قال المفسرون:هو عاقر الناقة، واسمه قُدّار بن سالف، وكان أشقى قومه ، فَتَعَاطَى أي: فَخسر( فَعَقَرَ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ) أي:فعاقبتهم، فكيف كان عقابي لهم على كفرهم بي وتكذيبهم رسولي؟ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ أي:فبادوا عن آخرهم لم تبق منهم باقية، وخَمَدوا وهَمَدوا كما يهمد يَبِيس الزرع والنبات قاله غير واحد من المفسرين والمحتظر - قال السدي- :هو المرعى بالصحراء حين ييبس .وقال ابن زيد:كانت العرب يجعلون حِظَارًا على الإبل والمواشي من يَبِيس الشوك، فهو المراد من قوله: (كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ)

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)

يقول تعالى مخبرا عن قوم لوط كيف كذبوا رسولهم وخالفوه، وارتكبوا المحظور من إتيان الذكور، وهي الفاحشة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين؛ ولهذا أهلكهم الله هلاكا لم يُهلكه أمةً من الأمم، فإنه تعالى أمر جبريل، عليه السلام، فحمل مدائنهم حتى وصل بها إلى عَنَان السماء، ثم قلبها عليهم وأرسلها، وأتبعت بحجارة من سجيل منضود؛ ولهذا قال هاهنا ( إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا ) وهي:الحجارة، ( إِلا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ ) أي:خرجوا من آخر الليل فنجوا مما أصاب قومهم، ولم يؤمن بلوط من قومه أحد ولا رجل واحد حتى ولا امرأته، أصابها ما أصاب قومها، وخرج نبي الله لوط وبنات له من بين أظهرهم سالما لم يمسَسْه سوء؛ ولهذا قال تعالى: ( كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ * وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا ) أي:ولقد كان قبل حلول العذاب بهم قد أنذرهم بأس الله وعذابه، فما التفتوا إلى ذلك، ولا أصغوا إليه، بل شكوا فيه وتماروا به، ( وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ ) وذلك ليلة ورَدَ عليه الملائكة:جبريل، وميكائيل، وإسرافيل في صورة شباب مُرد حِسان محنَةً من الله بهم، فأضافهم لوط عليه السلام وبعثت امرأته العجوز السوءُ إلى قومها، فأعلمتهم بأضياف لوط، فأقبلوا يُهْرَعُونَ إليه من كل مكان، فأغلق لوط دونهم الباب، فجعلوا يحاولون كسر الباب، وذلك عشية، ولوط، عليه السلام، يدافعهم ويمانعهم دون أضيافه، فلما اشتد الحال وأبوا إلا الدخول، خرج عليهم جبريل، عليه السلام، ومسح على أعينهم فطمسها الله، فرجعوا على أدبارهم يتحسسون بالحيطان، ويتوعدون لوطا، عليه السلام .وقال الله تعالى: (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ) أي:لا محيد لهم عنه، ولا انفكاك لهم منه، (فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)

وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)

يقول تعالى مخبرا عن فرعون وقومه إنهم جاءهم رسول الله موسى وأخوه هارون بالبشارة إن آمنوا، والنذارة إن كفروا، وأيدهما بمعجزات عظيمة وآيات متعددة، فكذبوا بها كلها، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، أي:فأبادهم الله ولم يُبق منهم مخبراً ولا عيناً ولا أثراً .ثم قال: ( أَكُفَّارُكُمْ ) أي:أيها المشركون من كفار قريش خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ يعني:من الذين تقدم ذكرهم ممن أهلكوا بسبب تكذيبهم الرسل، وكفرهم بالكتب:أأنتم خير أم أولئك؟ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ أي:أم معكم من الله براءة ألا ينالكم عذاب ولا نكال؟ ثم قال مخبرا عنهم:(أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِر) أي:يعتقدون أنهم مناصرون بعضهم بعضا، وأن جمعهم يغني عنهم من أرادهم بسوء،قال الله تعالى: ( سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) أي:سيتفرق شملهم ويغلبون .روى البخاري عن ابن عباس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال - وهو في قُبَّة له يوم بدر- : « اللهم إني أنْشُدُكَ عهدَكَ ووعدَكَ، اللهم إن تشأ لا تُعبد بعد اليوم » فأخذ أبو بكر، رضي الله عنه، بيده وقال:حسبك يا رسول الله! ألْحَحَتَ على ربك وهو يثب في الدرع فخرج وهو يقول: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ"

وقال تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)

يخبرنا تعالى عن المجرمين أنهم في ضلال عن الحق، وسُعُر مما هم فيه من الشكوك والاضطراب في الآراء، وهذا يشمل كل من اتصف بذلك من كافر ومبتدع من سائر الفرق .ثم قال: ( يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ) أي:كما كانوا في سُعُر وشك وتردد أوردهم ذلك النار، وكما كانوا ضلالا سُحبوا فيها على وجوههم، لا يدرون أين يذهبون، ويقال لهم تقريعا وتوبيخا:( ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) .وقوله: ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) ، أي:قدر قدرا، وهدى الخلائق إليه؛ ولهذا يستدل بهذه الآية الكريمة أئمةُ السنة على إثبات قَدَر الله السابق لخلقه، وهو علمه الأشياء قبل كونها وكتابته لها قبل برئها، وردّوا بهذه الآية وبما شاكلها من الآيات، وما ورد في معناها من الأحاديث الثابتات على الفرْقة القَدرية الذين نبغوا في أواخر عصر الصحابة وعن أبي هُرَيرَة قال: جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله في القدر، فنـزلت: ( يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)

وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)

وقوله: (وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) وهو إخبار عن نفوذ مشيئته في خلقه كما أخبر بنفوذ قدره فيهم، فقال: (وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ) أي:إنما نأمر بالشيء مرة واحدة، لا نحتاج إلى تأكيد بثانية، فيكون ذلك الذي نأمر به حاصلا موجودا كلمح البصر ، لا يتأخر طرفة عين.وقوله: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ) يعني:أمثالكم وسلفكم من الأمم السابقة المكذبين بالرسل، (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أي:فهل من متعظ بما أخزى الله أولئك، وقدر لهم من العذاب ، وقوله: (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) أي:مكتوب عليهم في الكتب التي بأيدي الملائكة عليهم السلام ، (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ) أي:من أعمالهم (مُسْتَطَرٌ) أي:مجموع عليهم، ومسطر في صحائفهم، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.

وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: « يا عائشةُ، إيَّاكِ ومُحَقِّراتِ الأعمال ، فإن لها من الله طالبًا » رواه ابن ماجه وصححه الألباني وقوله: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) أي:بعكس ما الأشقياء فيه من الضلال والسُّعر والسحب في النار على وجوههم، مع التوبيخ والتقريع والتهديد .وقوله: (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) أي:في دار كرامة الله ورضوانه وفضله، وامتنانه وجوده وإحسانه، (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) أي:عند الملك العظيم الخالق للأشياء كلها ومقدرها، وهو مقتدر على ما يشاء مما يطلبون ويريدون .

تم تفسير سورة القمر ولله الحمد والمنة.

4 - 8 - 1438هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

2 + 4 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 124 الجزء الثالث ‌‌أهمية الغطاء على وجه المرأة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 123 الجزء الثالث ‌‌حكم قيادة المرأة للسيارة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر