تفسير سورة النجم

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الأحد 11 شعبان 1438هـ | عدد الزيارات: 1262 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد

سورة النجم مكية وآياتها 62

روى البخاري عن عبد الله بن مسعود قال : أولُ سورة أنـزلت فيها سَجْدة: (والنَّجم)

بسم الله الرحمن الرحيم

وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى (4)

أقسم الله تعالى بالنجوم إذا غابت ، ولله أن يقسم بما شاء من خلقه ، والمخلوق لا يقسم إلا بالخالق وقوله:( مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ) هذا هو المقسم عليه، وهو الشهادة للرسول، صلوات الله وسلامه عليه، بأنه بار راشد تابع للحق، ليس بضال، وهو:الجاهل الذي يسلك على غير طريق بغير علم، والغاوي:هو العالم بالحق العادل عنه قصدًا إلى غيره، فنـزه الله سبحانه وتعالى رسوله وشَرْعَه عن مشابهة أهل الضلال كالنصارى وطرائق اليهود، وعن علم الشيء وكتمانه والعمل بخلافه، بل هو صلوات الله وسلامه عليه، وما بعثه الله به من الشرع العظيم في غاية الاستقامة والاعتدال والسداد؛ ولهذا قال: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) أي:ما يقول قولا عن هوى وغرض، (إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى) أي:إنما يقول ما أمر به، يبلغه إلى الناس كاملا موفَّراً من غير زيادة ولا نقصان .وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو، قال: كنتُ أَكتُبُ كلَّ شيءٍ أَسمَعُهُ مِن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أُرِيدُ حِفْظَهُ، فنَهَتْنِي قُرَيشٌ، وقالوا: أَتكتُبُ كلَّ شيءٍ تَسمَعُهُ ورسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَشَرٌ يَتكلَّمُ في الغضبِ والرِّضا؟ فأَمسَكْتُ عن الكِتابِ، فذَكَرْتُ ذلكَ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأَوْمأَ بأُصبُعِهِ إلى فيه، فقال: اكتُبْ؛ فوالَّذي نفْسي بيدِهِ، ما يَخْرُجُ منه إلَّا حقٌّ. (رواه أبو داود وصححه الألباني )

عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ( 5 ) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ( 6 ) وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى ( 7 ) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ( 8 ) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ( 9 ) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ( 10 ) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ( 11 ) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ( 13 ) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى(18 )

يقول تعالى مخبرًا عن عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم أنه عَلَّمه الذي جاء به إلى الناس ( شَدِيدُ الْقُوَى ) ، وهو جبريل، عليه السلام .

وقوله : ( ذُو مِرَّةٍ ) أي:ذو قوة، وروى عبد الله بن عمرٍو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تحل الصدقة لغنيٍّ، ولا لِذِي مِرّة سَوِيّ ) .رواه أبو داود وصححه الألباني

وقوله: ( فَاسْتَوَى ) يعني:جبريل، عليه السلام

( وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى ) يعني:جبريل، استوى في الأفق الأعلى، أي أفق السماء الذي هو أعلى من الأرض .

( ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ) جبريل من النبي صلى الله عليه وسلم لإيصال الوحي إليه (فَتَدَلَّى) عليه من الأفق الأعلى (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ) فكان في قربه منه قدر قوسين، والقوس معروف (أَوْ أَدْنَى) أي أقرب من القوسين، وهذا يدل على كمال مباشرته للرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة وأنه لا واسطة بينه وبين جبريل عليه السلام .

وروى البخاري ومسلم عن الشيباني قال: سألت زرّ بن حبيش عن قوله (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) قال:أخبرني عبد الله بن مسعود رضى الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح .

(فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) فأوحى الله إلى عبده محمد ما أوحى بواسطة جبريل، (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى) روى مسلم عن ابن عباس: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) ، (وَلَقَدْ رَآهُ نـزلَةً أُخْرَى)

وقوله: (وَلَقَدْ رَآهُ نـزلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى) ، هذه هي المرة الثانية التي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها جبريل على صورته التي خلقه الله عليها .

وروى أحمد أيضا عن مسروق قال:كنت متكئا عند عائشة فقلت:أليس الله يقول: وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ (التكوير:23) ، ( وَلَقَدْ رَآهُ نـزلَةً أُخْرَى ) فقالت:أنا أول هذه الأمة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، فقال: ( إنماهو جبريل عليه السلام لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين ، رأيته منهبطا من السماء سادًّا عِظَمُ خلقه ما بين السماء إلى الأرض . أخرجه مسلم

وقوله تعالى: ( إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ) وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهي به إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السابعة ، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيُقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها فيُقبض منها، ( إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ) قال:فراش من ذهب، قال:وأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا:أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغُفر لمن لا يشرك بالله شيئًا من أمته المُقحمات. ورواه مسلم

وقوله: ( مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ) :ما ذهب يمينا ولا شمالا ( وَمَا طَغَى ) ما جاوز ما أمر به .وهذه صفة عظيمة في الثبات والطاعة، فإنه ما فعل إلا ما أمر به، ولا سأل فوق ما أعطي .وقوله: (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى)أي:الدالة على قدرتنا وعظمتنا

أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى ( 19 ) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى ( 20 ) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى ( 21 ) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى ( 22 ) إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى ( 23 ) أَمْ لِلإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى ( 24 ) فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى ( 25 ) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ( 26 )

يقول تعالى مُقَرِّعا للمشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد والأوثان، واتخاذهم لها البيوت مضاهاة للكعبة التي بناها خليل الرحمن، عليه الصلاة والسلام: أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ ؟ وكانت اللات صخرةً بيضاء منقوشة، وعليها بيت بالطائف له أستار وسَدَنة، وحوله فناء معظّم عند أهل الطائف، وهم ثقيف ومن تابعها، يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش .وكانوا قد اشتقوا اسمها من اسم الله تعالى، فقالوا:اللات، يعنون مؤنثة منه، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا ، وكذا العُزَّى من العزيز .وكانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة، وهي بين مكة والطائف، كانت قريش يعظمونها، كما قال أبو سفيان يوم أحد:لنا العزى ولا عزَّى لكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قولوا:الله مولانا، ولا مولى لكم ) وروى البخاري من حديث الزهري، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من حلف فقال في حلفه:واللات والعزى، فليقل:لا إله إلا الله ومن قال لصاحبه:تعال أقَامرْك، فليتصدق) .وهذا محمول على من سبق لسانه في ذلك، كما كانت ألسنتهم قد اعتادته في زمن الجاهلية ،وأما ( مناة ) فكانت بالمُشَلَّل - عند قُدَيد، بين مكة والمدينة- وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتها يعظمونها، ويُهلّون منها للحج إلى الكعبة وقد كانت بجزيرة العرب وغيرها طواغيت أخر تعظمها العرب كتعظيم الكعبة غير هذه الثلاثة التي نص عليها في كتابه العزيز، وإنما أفرد هذه بالذكر لأنها أشهر من غيرها .ولهذا قال تعالى: ( أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى ) ؟ ثم قال: ( أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى ) ؟ أي:أتجعلون له ولدا، وتجعلون ولده أنثى، وتختارون لأنفسكم الذكور، فلو اقتسمتم أنتم ومخلوق مثلكم هذه القسمة لكانت (قِسْمَةٌ ضِيزَى) أي:جورا باطلة، فكيف تقاسمون ربكم هذه القسمة التي لو كانت بين مخلوقين كانت جورا وسفها .ثم قال منكرا عليهم فيما ابتدعوه وأحدثوه من الكذب والافتراء والكفر، من عبادة الأصنام وتسميتها آلهة: ( إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ ) أي:من تلقاء أنفسكم ( مَا أَنـزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ) أي:من حجة، (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأنْفُسُ) أي:ليس لهم مستند إلا حسن ظنهم بآبائهم الذين سلكوا هذا المسلك الباطل قبلهم، وإلا حظ نفوسهم في رياستهم وتعظيم آبائهم الأقدمين، (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى) أي:ولقد أرسل الله إليهم الرسل بالحق المنير والحجة القاطعة، ومع هذا ما اتبعوا ما جاؤوهم به، ولا انقادوا له .ثم قال: ( أَمْ لِلإنْسَانِ مَا تَمَنَّى ) أي:ليس كل من تمنى خيرا حصل له ، فما كل من زعم أنه مهتد يكون كما قال، ولا كل من ود شيئا يحصل له وقوله: ( فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأولَى ) أي:إنما الأمر كله لله، مالك الدنيا والآخرة، والمتصرف في الدنيا والآخرة، فهو الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن ، وقوله تغالى :(وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى) فإذا كان هذا في حق الملائكة المقربين، فكيف ترجون أيها الجاهلون شفاعة هذه الأصنام والأنداد عند الله، وهو لم يشرع عبادتها ولا أذن فيها، بل قد نهى عنها على ألسنة جميع رسله، وأنـزل بالنهي عن ذلك جميع كتبه ؟

إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى ( 27 ) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ( 28 ) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ( 29 ) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى ( 30 )

يقول تعالى منكرا على المشركين في تسميتهم الملائكة تسمية الأنثى، وجعلهم لها أنها بنات الله، ولهذا قال: ( وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْم ) أي:ليس لهم علم صحيح يصدق ما قالوه، بل هو كذب وزور وافتراء، وكفر شنيع (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) أي:لا يجدي شيئا، ولا يقوم أبدا مقام الحق وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث) .

وقوله: ( فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا ) أي:أعرِضْ عن الذي أعرَضَ عن الحق واهجره .

وقوله: ( وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ) أي:وإنما أكثر همه ومبلغ علمه الدنيا، فذاك هو غاية ما لا خير فيه ولذلك قال: ( ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ) أي:طلب الدنيا والسعي لها هو غاية ما وصلوا إليه

وعن بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم لا تجعل الدنيا أكبر هَمِّنَا، ولا مَبْلَغَ علمنا ) .صححه الألباني

وقوله: ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى ) أي:هو الخالق لجميع المخلوقات، والعالم بمصالح عباده، وهو الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وذلك كله عن قدرته وعلمه وحكمته، وهو العادل الذي لا يجور أبدًا، لا في شرعه ولا في قَدَره .

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)

يخبر تعالى أنه مالك السماوات والأرض، وأنه الغني عما سواه، الحاكم في خلقه بالعدل، وخلق الخلق بالحق، (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) أي:يجازي كلا بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر .

ثم فسر المحسنين بأنهم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، أي:لا يتعاطون المحرمات والكبائر، وإن وقع منهم بعض الصغائر فإنه يغفر لهم ويستر عليهم، فقال : ( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ ) وهذا استثناء منقطع؛ لأن اللمم من صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال .

روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال:ما رأيت شيئًا أشبه باللمَم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ( إن الله تعالى كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فَزِنَا العين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تَمنَّى وتَشْتَهِي، والفرج يُصدِّق ذلك و يُكَذِّبه ) أخرجه البخاري

وقوله: ( إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ) أي:رحمته وَسِعَت كل شيء، ومغفرته تَسَع الذنوب كلها لمن تاب منها .

وقوله: ( هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْض ) أي:هو بصير بكم، عليم بأحوالكم وأفعالكم وأقوالكم التي تصدر عنكم وتقع منكم، حين أنشأ أباكم آدم من الأرض، واستخرج ذريته من صلبه أمثال الذَّر، ثم قسمهم فريقين:فريقا للجنة وفريقا للسعير وكذا قوله: ( وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ) قد كتب الملك الذي يُوَكَّل به رزقَه وأجَلَه وعمله، وشقي أم سعيد.

وقوله: ( فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ) أي:تمدحوها وتشكروها وتمنوا بأعمالكم، ( هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ) .

وروى مسلم في صحيحه عن محمد بن عمرو بن عطاء قال:سميت ابنتي بَرّةَ، فقالت لي زينب بنت أبي سلمة:إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم، وسميت بَرَّة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزكوا أنفسكم، الله أعلم بأهل البر منكم ) فقالوا:بم نسميها؟ قال: (سموها زينب).

وعن أبي بكْرَة قال:أثنى رَجُلٌ على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ويلك! قطعت عُنُقَ صاحبك ، قطعت عُنُقَ صاحبك- مرارًا- إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة فليقل:أحسب فلانا - والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحدا- أحسبه كذا وكذا، إن كان يعلم ذلك منه ) رواه البخاري

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى ( 33 ) وَأَعْطَى قَلِيلا وَأَكْدَى ( 34 ) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى ( 35 ) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى ( 36 ) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ( 37 ) أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ( 38 ) وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى (41)

يقول تعالى ذَامًّا لمن تولى عن طاعة الله: ( وَأَعْطَى قَلِيلا وَأَكْدَى ) :أطاع قليلا ثم قطعه كمثل القوم إذا كانوا يحفرون بئرًا، فيجدون في أثناء الحفر صخرة تمنعهم من تمام العمل، فيقولون: ( أكدينا ) ، ويتركون العمل .

وقوله: ( أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى ) أي:أعند هذا الذي قد أمسك يده خشية الإنفاق، وقطع معروفه، أعنده علم الغيب أنه سينفد ما في يده، حتى قد أمسك عن معروفه، فهو يرى ذلك عيانا؟! أي:ليس الأمر كذلك، وإنما أمسك عن الصدقة والمعروف والبر والصلة بخلا وشحا وهلعا .

وقوله: ( أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) قال قتادة: ( وَفَّى ) طاعة الله، وأدى رسالته الى خلقه .

وروى الترمذي في جامعه عن أبي الدرداء وأبي ذر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله، عز وجل، أنه قال: ( ابن آدم اركع لي أربع ركعات من أول النهار، أكفك آخره ) وقال حديث حسن غريب، وصححه الألباني .

ثم شرع تعالى يبين ما كان أوحاه في صحف إبراهيم وموسى فقال: ( أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) أي:كل نفس ظلمت نفسها بكفر أو شيء من الذنوب فإنما عليها وزرها، لا يحمله عنها أحد، (وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى) أي:كما لا يحمل عليه وزر غيره، كذلك لا يحصل من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه ومن هذه الآية الكريمة استنبط الشافعي، رحمه الله، ومن اتبعه أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى؛ لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم؛ ولهذا لم يندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته ولا حثهم عليه، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة، رضي الله عنهم، ولو كان خيرا لسبقونا إليه، وباب القربات يقتصر فيه على النصوص، ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء، فأما الدعاء والصدقة فذاك مجمع على وصولهما، ومنصوص من الشارع عليهما .

وأما الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث:من ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية، أو علم ينتفع به ) ، فهذه الثلاثة في الحقيقة هي من سعيه وكده وعمله، كما جاء في الحديث: ( إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه ) صححه الألباني، والصدقة الجارية كالوقف ونحوه هي من آثار عمله ووقفه، والعلم الذي نشره في الناس فاقتدى به الناس بعده هو أيضا من سعيه وعمله، وثبت في صحيح مسلم:(من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، لا ينقص من أجورهم شيئا) .

وقوله: (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى) أي:يوم القيامة، وقوله: (ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى) أي:الأوفر .

وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44)

يقول تعالى مخبرا ( وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ) أي:المعاد يوم القيامة .

وقوله: ( وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ) أي:خلق في عباده الضحك، والبكاء وسببهما وهما مختلفان

( وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ) أمات من أراد موته من خلقه ، وأحيا من أراد حياته منهم

وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى ( 45 ) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى ( 46 ) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى ( 47 ) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى ( 48 ) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى ( 49 ) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى ( 50 ) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى ( 51 ) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى ( 52 ) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى ( 53 ) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى ( 54 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى ( 55 )

(وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى) من المخلوقات (مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى) تصب في الرحم

وقوله: (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأخْرَى) أي:كما خلق البداءة هو قادر على الإعادة، وهي النشأة الآخرة يوم القيامة (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى) أي:مَلَّك عباده المال، وجعله لهم قُنْيَة مقيما عندهم، لا يحتاجون إلى بيعه، فهذا تمام النعمة عليهم .

وقوله: ( وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى ) :هو هذا النجم الوقاد الذي يقال له:(مِرْزَم الجوزاء ) كانت طائفة من العرب يعبدونه .

( وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأولَى ) وهم:قوم هود ويقال لهم:عاد بن إرم بن سام بن نوح ، فكانوا من أشد الناس وأقواهم وأعتاهم على الله وعلى رسوله فأهلكهم الله بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ .

وقوله: ( وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى ) ، أي:دمرهم فلم يبق منهم أحدا، ( وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْل ) أي:من قبل هؤلاء، ( إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى ) أي:أشد تمردا من الذين من بعدهم، ( وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى ) يعني:مدائن لوط، قَلَبها عليهم فجعل عاليها سافلها، وأمطر عليهم حجارة من سجيل منضود؛ ولهذا قال: ( فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى ) يعني:من الحجارة التي أرسلها عليهم .

( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى ) أي:ففي أي نعم الله عليك أيها الإنسان تمتري؟

هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى ( 56 ) أَزِفَتِ الآزِفَةُ ( 57 ) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ ( 58 ) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ( 59 ) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ ( 60 ) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ ( 61 ) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ( 62 )

( هَذَا نَذِيرٌ ) يعني:محمدا صلى الله عليه وسلم ( مِنَ النُّذُرِ الأولَى ) أي:من جنسهم، أرسل كما أرسلوا .

( أَزِفَتِ الآزِفَة ) أي:اقتربت القريبة، وهي القيامة، ( لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ ) أي:لا يدفعها إذاً من دون الله أحد، ولا يطلع على علمها سواه .

ثم قال تعالى منكرا على المشركين في استماعهم القرآن وإعراضهم عنه وتلهيهم: ( تَعْجَبُونَ ) من أن يكون صحيحا، (وَتَضْحَكُونَ منه استهزاء وسخرية) (وَلا تَبْكُونَ) أي:كما يفعل الموقنون به .

وقوله: ( وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ ) أي غافلون لاهون عنه وعن تدبره وهذا من قلة عقولكم، وزيف أديانكم، فلو عبدتم الله وطلبتم رضاه في جميع الأحوال لما كنتم بهذه المثابة التي يأنف منها أولى الألباب ولهذا قال تعالى آمرا لعباده بالسجود له والعبادة والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم والتوحيد والإخلاص: ( فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ) أي:فاخضعوا له وأخلصوا ووحدوا .

تم تفسير سورة النجم ولله الحمد والمنة

11 - 8 - 1438هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

4 + 7 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 124 الجزء الثالث ‌‌أهمية الغطاء على وجه المرأة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 123 الجزء الثالث ‌‌حكم قيادة المرأة للسيارة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر