تفسير سورة محمد

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الخميس 14 شهر رمضان 1438هـ | عدد الزيارات: 1456 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد

سورة محمد مدنية وآياتها 38

بسم الله الرحمن الرحيم

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَءامَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ ءامَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)

يقول تعالى: (الَّذِينَ كَفَرُوا) أي:بآيات الله، (وصدوا) أي: غيرهم (عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) أي: أبطلها وأذهبها، ولم يجعل لها جزاء ولا ثوابا .

ثم قال: (وَالَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) أي:آمنت قلوبهم وسرائرهم، وانقادت جوارحهم وبواطنهم وظواهرهم، (وَءامَنُوا بِمَا نُـزلَ عَلَى مُحَمَّدٍ) ، عطف خاص على عام، وهو دليل على أنه شرط في صحة الإيمان بعد بعثته صلوات الله وسلامه عليه .

وقوله: (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) جملة معترضة حسنة؛ ولهذا قال: (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) أي: أصلح جميع أحوالهم وقد جاء في حديث تشميت العاطس: يهديكم الله ويصلح بالكم .رواه البخاري

ثم قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ) أي:إنما أبطلنا أعمال الكفار، وتجاوزنا عن سيئات الأبرار، وأصلحنا شؤونهم؛ لأن الذين كفروا اتبعوا الباطل، أي:اختاروا الباطل على الحق، (وَأَنَّ الَّذِينَ ءامَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ) أي:يبين لهم مآل أعمالهم، وما يصيرون إليه في معادهم .

فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)

يقول تعالى مرشدا للمؤمنين إلى ما يعتمدونه في حروبهم مع المشركين: (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ) أي:إذا واجهتموهم فاحصدوهم حصدا بالسيوف، (حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا) أي:أهلكتموهم قتلا (فشدوا الوثاق) رباط الأسارى الذين تأسرونهم، ثم أنتم بعد انقضاء الحرب وانفصال المعركة مخيرون في أمرهم، إن شئتم مننتم عليهم فأطلقتم أساراهم مجانا، وإن شئتم فاديتموهم بمال تأخذونه منهم وتشاطرونهم عليه، وهذه الآية نـزلت بعد وقعة بدر، فإن الله، سبحانه، عاتب المؤمنين على الاستكثار من الأسارى يومئذ ليأخذوا منهم الفداء، والتقلل من القتل يومئذ .

وقوله: (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) حتى لا يبقى شرك .

وقوله: (ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ) أي:هذا ولو شاء الله لانتقم من الكافرين بعقوبة ونَكَال من عنده، (وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) أي:ولكن شرع لكم الجهاد وقتال الأعداء ليختبركم، ويبلو أخباركم

ثم لما كان من شأن القتال أن يُقتل بعض المؤمنين، قال: (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ) أي:لن يذهبها بل يكثرها وينميها ويضاعفها .

ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عَمْرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « يُغفر للشهيد كل ذنب إلا الدَّيْن » والأحاديث في فضل الشهيد كثيرة جدا

وقوله: (سيهديهم) أي:إلى الجنة .

وقوله: (وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ) أي:أحوالهم، (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) أي:عرفهم بها وهداهم إليها

وقد ورد في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار، فيتقاصّون مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا نقوا وهُذّبوا أذن لهم بدخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده، لأحدهم بمسكنه في الجنة أدل بمنـزله كان في الدنيا »

ثم قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) فإن الجزاء من جنس العمل؛ ولهذا قال: (وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)

ثم قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ) ، عكس تثبيت الأقدام للمؤمنين الناصرين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضى الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «تَعِس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة إن أعطى رضى وإن لم يعط سخط تعس وانتكس، وإذا شِيكَ فلا انتقش» ، أي: فلا يقدر على إخراجها

وقوله: (وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) أي:أحبطها وأبطلها؛ ولهذا قال: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنـزلَ اللَّهُ) أي:لا يريدونه ولا يحبونه، (فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ)

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءامَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ (11)

يقول تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) يعني:المشركين بالله المكذبين لرسوله (فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) أي:عاقبهم بتكذيبهم وكفرهم، ونجى المؤمنين من بين أظهرهم؛ ولهذا قال: (وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا)

ثم قال: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءامَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ) ،ولهذا لما قال أبو سفيان صخرُ بن حرب رئيس المشركين يوم أحد حين سأل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر وعمر فلم يجب، فَقالَ: إنَّ هَؤُلَاءِ قُتِلُوا، فلوْ كَانُوا أحْيَاءً لَأَجَابُوا، فَلَمْ يَمْلِكْ عُمَرُ نَفْسَهُ، فَقالَ: كَذَبْتَ يا عَدُوَّ اللَّهِ، أبْقَى اللَّهُ عَلَيْكَ ما يُخْزِيكَ، قالَ أبو سُفْيَانَ: اعْلُ هُبَلُ، فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أجِيبُوهُ قالوا: ما نَقُولُ؟ قالَ: قُولوا: اللَّهُ أعْلَى وأَجَلُّ قالَ أبو سُفْيَانَ: لَنَا العُزَّى ولَا عُزَّى لَكُمْ، فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أجِيبُوهُ قالوا: ما نَقُولُ؟ قالَ: قُولوا اللَّهُ مَوْلَانَا، ولَا مَوْلَى لَكُمْ قالَ أبو سُفْيَانَ: يَوْمٌ بيَومِ بَدْرٍ، والحَرْبُ سِجَالٌ، وتَجِدُونَ مُثْلَةً، لَمْ آمُرْ بهَا ولَمْ تَسُؤْنِي. أخرجه البخاري

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ (13)

ثم قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ) أي:يوم القيامة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ) أي:في دنياهم، يتمتعون بها ويأكلون منها كأكل الأنعام، خَضْما وقضما وليس لهم همة إلا في ذلك ولهذا ثبت في صحيح البخاري: « المؤمن يأكل في مِعىً واحدٍ، والكافر يأكل في سبعة أمعاء » .

ثم قال: (وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) أي:يوم جزائهم

وقوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) يعني:مكة، (أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ) ، وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لأهل مكة، في تكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سيد المرسلين وخاتم الأنبياء، فإذا كان الله، عز وجل، قد أهلك الأمم الذين كذبوا الرسل قبله بسببهم، وقد كانوا أشد قوة من هؤلاء، فماذا ظن هؤلاء أن يفعل الله بهم في الدنيا والأخرى؟ فإن رُفع عن كثير منهم العقوبة في الدنيا لبركة وجود الرسول نبي الرحمة، فإن العذاب باقٍ على الكافرين به في معادهم .

وقوله: (مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) أي: الذين أخرجوك من بين أظهرهم .

وعن ابن عباس:أن النبي صلى الله عليه وسلم قالَ لمكَّةَ " ما أطيبَكِ من بلدٍ وأحبَّكِ إليَّ، ولولا أنَّ قومي أخرجوني منكِ ما سَكَنتُ غيرَكِ" رواه الترمذي وصححه الألباني ، فأعدى الأعداء من عَدَا على الله في حرمه، أو قتل غير قاتله، أو قتل بذُحُول الجاهلية وهو الثأر، فأنـزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ)

أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)

يقول: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) أي:على بصيرة ويقين في أمر الله ودينه، بما أنـزل الله في كتابه من الهدى والعلم، وبما جَبَله الله عليه من الفطرة المستقيمة، (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) أي:ليس هذا .

ثم قال: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) (مَثَلُ الْجَنَّةِ) أي:نعتها : (فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ) أي: غير متغير لا بوحم وهو ما تشمه بعض الحوامل من النساء في الأشهر الثلاثة الأولى ولا بريح منتنة ولا بحرارة ولا بكدورة، بل هو أعذب المياه وأصفاها وأطيبها ريحاً وألذها شرباً .

(وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) أي:بل في غاية البياض والحلاوة والدسومة

(وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) أي:ليست كريهة الطعم والرائحة كخمر الدنيا، بل هي حسنة المنظر والطعم والرائحة .

وقوله (وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) أي:وهو في غاية الصفاء، وحسن اللون والطعم والريح

وفي صحيح البخاري: « فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن ، ومنه تُفَجَّر أنهار الجنة، » .

وقوله: (وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) جميع الثمرات من مختلف الفواكه وغيرها .

وقوله: (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) الستر والتجاوز عن ذنوبهم .

وقوله: (كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ) أي:أهؤلاء الذين ذكرنا منـزلتهم من الجنة كمن هو خالد في النار؟ ليس هؤلاء كهؤلاء، أي:ليس من هو في الدرجات كمن هو في الدركات، (وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا) أي:حارا شديد الحر، لا يستطاع (فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ) أي:قطع ما في بطونهم من الأمعاء والأحشاء، عياذا بالله من ذلك .

وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)

يقول تعالى مخبرا عن المنافقين في بلادتهم وقلة فهمهم حيث كانوا يجلسون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستمعون كلامه ولا يفهمون منه شيئا، فإذا خرجوا من عنده (قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) من الصحابة: (مَاذَا قَالَ آنِفًا) أي:الساعة، لا يعقلون ما يقال ، ولا يكترثون له .

قال الله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) أي:فلا فهم صحيح، ولا قصد صحيح .

ثم قال: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى) أي:والذين قصدوا الهداية وفقهم الله لها فهداهم إليها، وثبتهم عليها وزادهم منها، (وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) أي:ألهمهم رشدهم .

وقوله: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) أي:وهم غافلون عنها، (فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا) أي:أمارات اقترابها فبعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة لأنه خاتم الرسل الذي أكمل الله به الدين، وأقام به الحجة على العالمين وقد أخبر - صلوات الله وسلامه عليه- بأمارات الساعة وأشراطها، وأبان عن ذلك وأوضحه بما لم يؤته نبي قبله .

وروى البخاري عن أنس رضى الله عنه عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أنه قال « بعثت أنا والساعة كهاتين »

ثم قال تعالى: (فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ) أي:فكيف للكافرين بالتذكر إذا جاءتهم القيامة، حيث لا ينفعهم ذلك .

وقوله: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ) هذا إخبار:بأنه لا إله إلا الله، ولا يتأتى كونه آمرا بعلم ذلك؛ ولهذا عطف عليه بقوله: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضى الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة »

والأحاديث في فضل الاستغفار كثيرة جدا

وقوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) أي:يعلم تصرفكم في نهاركم ومستقركم في ليلكم .

وقوله: (وَيَقُولُ الَّذِينَ ءامَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) 23

يقول تعالى مخبرا عن المؤمنين أنهم تمنوا شرعية الجهاد، فلما فرضه الله، عز وجل ، وأمر به لم يثبت ضعفاء الإيمان على امتثال هذه الأوامر كقوله تعالى .

وقال ها هنا: (وَيَقُولُ الَّذِينَ ءامَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) أي:مشتملة على حُكْم القتال؛ ولهذا قال: (فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) أي:من فزعهم ورعبهم وجبنهم من لقاء الأعداء ثم قال مشجعا لهم: (فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) أي:وكان الأولى بهم أن يسمعوا ويطيعوا، أي:في الحالة الراهنة، (فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ) أي:جد الحال، وحضر القتال، (فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ) أي:أخلصوا له النية، (لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) .

وقوله: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي:عن الجهاد ونكلتم عنه، (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) أي:تعودوا إلى ما كنتم فيه من الجاهلية الجهلاء، تسفكون الدماء وتقطعون الأرحام؛ ولهذا قال: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) وهذا نهي عن الإفساد في الأرض عموما، وعن قطع الأرحام خصوصا، بل قد أمر الله تعالى بالإصلاح في الأرض وصلة الأرحام، وهو الإحسان إلى الأقارب في المقال والأفعال وبذل الأموال .

روى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خلق الله الخلق، فلما فرغ منه قامت الرحم فأخذت بحقو الرحمن عز وجل، فقال:مه! فقالت:هذا مقام العائذ بك من القطيعة فقال:ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت:بلى يارب قال:فذاك ، قال أبو هريرة:اقرؤوا إن شئتم: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ)

وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما أن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم، قال : « من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه »

أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)

يقول تعالى آمرًا بتدبر القرآن وتفهمه، وناهيا عن الإعراض عنه، فقال: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) أي:بل على قلوب أقفالها، فهي مُطْبَقَة لا يخلص إليها شيء من معانيه .

ثم قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ) أي:فارقوا الإيمان ورجعوا إلى الكفر، (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ) أي:زين لهم ذلك وحسنه، (وَأَمْلَى لَهُمْ) أي:غرهم وخدعهم، (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نـزلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمْرِ) أي:مالئوهم وناصحوهم في الباطن على الباطل، وهذا شأن المنافقين يظهرون خلاف ما يبطنون؛ ولهذا قال الله عز وجل: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ) أي: يعلم ما يخفون، والله مطلع عليه وعالم به

ثم قال: (فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ) أي:كيف حالهم إذا جاءتهم الملائكة لقبض أرواحهم من أجسادهم، واستخرجتها الملائكة بالعنف والقهر والضرب ، ولهذا قال : (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ)

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29)

يقول تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ) أي:اعتقد المنافقون أن الله لا يكشف أمرهم لعباده المؤمنين؟ بل سيوضح أمرهم ويجليه حتى يفهمهم ذوو البصائر، وقد أنـزل تعالى في ذلك سورة « براءة » ، فبين فيها فضائحهم وما يعتمدونه من الأفعال الدالة على نفاقهم؛ ولهذا إنما كانت تسمى الفاضحة والأضغان:جمع ضغن، وهو ما في النفوس من الحسد والحقد للإسلام وأهله والقائمين بنصره .

وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)

وقوله: (وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ) يقول تعالى:ولو نشاء يا محمد لأريناك أشخاصهم، فعرفتهم عيانا، ولكن لم يفعل تعالى ذلك في جميع المنافقين سترا منه على خلقه، وحملا للأمور على ظاهر السلامة، ورد السرائر إلى عالمها، (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) أي:فيما يبدو من كلامهم الدال على مقاصدهم، يفهم المتكلم من أي الحزبين هو بمعاني كلامه وفحواه، وهو المراد من لحن القول .

وقوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) أي:ولنختبرنكم بالأوامر والنواهي، (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) وليس في تقدم علم الله تعالى بما هو كائن أنه سيكون شك ولا ريب، فالمراد:حتى نعلم وقوعه .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)

يخبر تعالى عمن كفر وصد عن سبيل الله، وخالف الرسول وشاقه، وارتد عن الإيمان من بعد ما تبين له الهدى:أنه لن يضر الله شيئًا، وإنما يضر نفسه ويخسرها يوم معادها، وسيحبط الله عمله فلا يثيبه على سالف ما تقدم من عمله الذي عقبه بردته مثقال بعوضة من خير، بل يحبطه ويمحقه بالكلية، كما أن الحسنات يذهبن السيئات .

ثم أمر تعالى عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله التي هي سعادتهم في الدنيا والآخرة، ونهاهم عن الارتداد الذي هو مبطل للأعمال؛ ولهذا قال: (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) أي:بالردة؛ ولهذا قال بعدها: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) .

ثم قال لعباده المؤمنين: (فَلا تَهِنُوا) أي:لا تضعفوا عن الأعداء، (وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) أي:المهادنة والمسالمة، ووضع القتال بينكم وبين الكفار في حال قوتكم وكثرة عَدَدِكم وعُدَدِكُمْ؛ ولهذا قال: (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ) أي:في حال علوكم على عدوكم، فأما إذا كان الكفار فيهم قوة وكثرة بالنسبة إلى جميع المسلمين، ورأى الإمام في المعاهدة والمهادنة مصلحة، فله أن يفعل ذلك، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صده كفار قريش عن مكة، ودعوه إلى الصلح ووضع الحرب بينهم وبينه عشر سنين، فأجابهم إلى ذلك .

وقوله: (وَاللَّهُ مَعَكُمْ) فيه بشارة عظيمة بالنصر والظفر على الأعداء، (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) أي:ولن يحبطها ويبطلها ويسلبكم إياها، بل يوفيكم ثوابها ولا ينقصكم منها شيئا .

إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)

يقول تعالى تحقيرًا لأمر الدنيا وتهوينا لشأنها: (إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) أي:حاصلها ذلك إلا ما كان منها لله عز وجل؛ ولهذا قال: (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ) أي:هو غني عنكم لا يطلب منكم شيئا، وإنما فرض عليكم الصدقات من الأموال مواساة لإخوانكم الفقراء، ليعود نفع ذلك عليكم، ويرجع ثوابه إليكم .

ثم قال: (إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا) فيحفكم أي يجهدكم إذا طلب منكم ما تكرهون بذله (وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ)

ففي إخراج الأموال إخراج للأضغان فإن المال محبوب، ولا يصرف إلا فيما هو أحب إلى الشخص منه .

وقوله: (هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ) أي:لا يجيب إلى ذلك (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) أي:إنما نقص نفسه من الأجر، وإنما يعود وبال ذلك عليه، (وَاللَّهُ الْغَنِيُّ) أي:عن كل ما سواه، وكل شيء فقير إليه دائما؛ ولهذا قال: (وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ) أي:بالذات إليه فوصفه بالغنى وصف لازم له، ووصف الخلق بالفقر وصف لازم لهم، أي لا ينفكون عنه .

وقوله: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) أي:عن طاعته واتباع شرعه (يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) أي:ولكن يكونون سامعين مطيعين له ولأوامره .

تم تفسير سورة محمد ولله الحمد والمنة

13 - 9 - 1438هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

2 + 9 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 124 الجزء الثالث ‌‌أهمية الغطاء على وجه المرأة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 123 الجزء الثالث ‌‌حكم قيادة المرأة للسيارة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر