تفسير سورة الأحقاف

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الإثنين 18 شهر رمضان 1438هـ | عدد الزيارات: 1244 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد

سورة الأحقاف مكية وآياتها 35

بسم الله الرحمن الرحيم

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5)

هذه الحروف وغيرها من الحروف المقطَّعة في أوائل السور فيها إشارة إلى إعجاز القرآن، فقد وقع به تحدي المشركين، فعجزوا عن معارضته، وهو مركَّب من هذه الحروف التي تتكون منها لغة العرب فدَلَّ عجز العرب عن الإتيان بمثله - مع أنهم أفصح الناس- على أن القرآن وحي من الله .

(تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) هذا ثناء منه تعالى على كتابه العزيز وتعظيم له، في ضمن ذلك ارشاد للعباد إلى الإهتداء بنوره والإقبال على تدبر آياته واستخراج كنوزه

كما وصف نفسه بالعزة التي لا ترام، والحكمة في الأقوال والأفعال، ثم قال: (مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ) أي: لا على وجه العبث والباطل، (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) أي: إلى مدة معينة مضروبة لا تزيد ولا تنقص .

قوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) أي: لاهون عما يراد بهم، وقد أنـزل إليهم كتابا وأرسل إليهم رسول، وهم معرضون عن ذلك كله، أي: وسيعلمون غبّ ذلك .

ثم قال: (قُلْ) أي: لهؤلاء المشركين العابدين مع الله غيره: (أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ) أي: أرشدوني إلى المكان الذي استقلوا بخلقه من الأرض، (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ) أي: ولا شرك لهم في السموات ولا في الأرض، وما يملكون من قطمير، إن المُلْك والتصرّف كله إلا الله، عز وجل، فكيف تعبدون معه غيره، وتشركون به؟ من أرشدكم إلى هذا؟ من دعاكم إليه؟ أهو أمركم به؟ أم هو شيء اقترحتموه من عند أنفسكم؟ ولهذا قال: (اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا) أي: هاتوا كتابا من كتب الله المنـزلة على الأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام، يأمركم بعبادة هذه الأصنام، (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) أي: موروث من الرسل يأمر بذلك ومن العلم أنهم عاجزون أن يأتوا عن أحد من الرسل بدليل يدل على ذلك بل نجزم ونتيقن أن جميع الرسل دعوا إلى توحيد ربهم ونهوا عن الشرك به (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) أي: لا دليل لكم نقليًا ولا عقليا على ذلك

وقوله: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ) أي: لا أضل ممن يدعو أصناما، ويطلب منها ما لا تستطيعه إلى يوم القيامة، وهي غافلة عما يقول، لا تسمع ولا تبصر ولا تبطش؛ لأنها جماد حجَارة صُمّ .

وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)

قوله تعالى : (وإذا حشر الناس) يوم القيامة للحساب والجزاء كانت الآلهة التي يدعونها في الدنيا لهم أعداء تتبرأ منهم وتنكر علمها بعبادتهم إياها.

ويقول تعالى مخبرا عن المشركين في كفرهم وعنادهم: أنهم إذا تتلى عليهم آيات الله بينات، أي: في حال بيانها ووضوحها وجلائها، يقولون: (هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي: سحر واضح، وقد كَذَبوا وافتروا وضَلّوا وكفروا (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) يعنون: محمدا صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) أي: لو كذبت عليه وزعمت أنه أرسلني - وليس كذلك- لعاقبني أشد العقوبة، ولم يَقْدرْ أحد من أهل الأرض، لا أنتم ولا غيركم أن يجيرني منه ، وقال : (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) ، هذا تهديد لهم ، ووعيد أكيد ، وترهيب شديد .

وقوله: (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ترغيب لهم إلى التوبة والإنابة، أي: ومع هذا كله إن رجعتم وتبتم، تاب عليكم وعفا عنكم، وغفر لكم ورحم .

وقوله: (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ) أي: لست بأول رسول طرق العالم، بل قد جاءت الرسل من قبلي، فما أنا بالأمر الذي لا نظير له حتى تستنكروني وتستبعدوا بعثتي إليكم، فإنه قد أرسل الله قبلي جميع الأنبياء إلى الأمم .

وقوله: (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) أي: لست إلا بشراً ليس بيدي من الأمر شيء والله تعالى المتصرف بي وبكم، الحاكم علي وعليكم .

وقوله: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ) أي: إنما أتبع ما ينـزله الله عليَّ من الوحي، (وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي: بين النّذَارة، وأمري ظاهر لكل ذي لب وعقل .

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)

يقول تعالى: (قُلْ) يا محمد لهؤلاء المشركين الكافرين بالقرآن: (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ) هذا القرآن (مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ) أي: ما ظنكم أن الله صانع بكم إن كان هذا الكتاب الذي جئتكم به قد أنـزله عليَّ لأبلغكموه، وقد كَفَرتم به وكذبتموه، (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) أي: وشهد على صحته الموفقون من أهل الكتاب الذين عندهم من الحق ما يعرفون أنه الحق، فآمنوا به واهتدوا كعبد الله بن سلام فتطابقت أنباء الأنبياء وأتباعهم النبلاء واستكبرتم أيها الجهلاء، فهل هذا إلا أعظم الظلم وأشد الكفر .

(إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ومن الظلم الإستكبار عن الحق بعد التمكن منه .

وقوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءامَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ) أي: قالوا عن المؤمنين بالقرآن: لو كان القرآن خيرا ما سبقنا هؤلاء إليه يعنون بلالا وعمارا وصُهَيبا وخبابا وأشباههم وأقرانهم من المستضعفين والعبيد والإماء، وما ذاك إلا لأنهم عند أنفسهم يعتقدون أن لهم عند الله وجاهة وله بهم عناية وقد غلطوا في ذلك غلطا فاحشا، وأخطئوا خطأ بينا ولهذا قالوا: (لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ) وأما أهل السنة والجماعة فيقولون في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة: هو بدعة؛ لأنه لو كان خيرا لسبقونا إليه، لأنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها .

وقوله: (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ) أي: بالقرآن (فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ) أي: كذب (قَدِيمٌ) أي: مأثور عن الأقدمين، فينتقصون القرآن وأهله، وهذا هو الكبر الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : « بطر الحق، وغَمْط الناس» رواه مسلم

ثم قال:(وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى) وهو التوراة (إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ) يعني: القرآن (مُصَدِّقٌ) أي: لما قبله من الكتب (لِسَانًا عَرَبِيًّا) أي: فصيحا بينا واضحا، (لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ) أي: مشتمل على النّذارة للكافرين والبشارة للمؤمنين .

وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ) أي: إن الذين أقروا بربهم وشهدوا له بالوحدانية وإلتزموا طاعته وداوموا على ذلك (ثُمَّ اسْتَقَامُوا) مدتة حياتهم، (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) أي: من كل شر أمامهم، (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على ما خلفوا وراءهم، (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) أي: الأعمال سبب لنيل الرحمة لهم وسُبُوغها عليهم .

وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)

لما ذكر تعالى في الآية الأولى التوحيد له وإخلاص العبادة والاستقامة إليه، عطف بالوصية بالوالدين، كما هو مقرون في غير ما آية من القرآن فقال : (وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا) أي: أمرناه بالإحسان إليهما والحنو عليهما .

فعن سعد بن أبي وقاص قال:حَلَفَتْ أُمُّ سَعْدٍ أَنْ لا تُكَلِّمَهُ أَبَدًا حتَّى يَكْفُرَ بدِينِهِ، وَلَا تَأْكُلَ وَلَا تَشْرَبَ، قالَتْ: زَعَمْتَ أنَّ اللَّهَ وَصَّاكَ بوَالِدَيْكَ، وَأَنَا أُمُّكَ، وَأَنَا آمُرُكَ بهذا، قالَ: مَكَثَتْ ثَلَاثًا حتَّى غُشِيَ عَلَيْهَا مِنَ الجَهْدِ، فَقَامَ ابْنٌ لَهَا يُقَالُ له عُمَارَةُ، فَسَقَاهَا، فَجَعَلَتْ تَدْعُو علَى سَعْدٍ، فأنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ في القُرْآنِ هذِه الآيَةَ: {وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بوَالِدَيْهِ حُسْنًا وإنْ جَاهَدَاكَ علَى أَنْ تُشْرِكَ بي} وَفِيهَا {وَصَاحِبْهُما في الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}.رواه مسلم

(حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا) أي: قاست بسببه في حال حمله مشقة وتعبا، من وِحَام وغشيان وثقل وكرب، إلى غير ذلك مما تنال الحوامل من التعب والمشقة، (وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا) أي: بمشقة أيضا من الطلق وشدته، (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا)

(حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ) أي: قوى وشب وارتجل (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) أي: تناهى عقله وكمل فهمه وحلمه .

(قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي) أي: ألهمني (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ) أي: في المستقبل، (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) أي: نسلي وعقبي، (إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) وهذا فيه إرشاد لمن بلغ الأربعين أن يجدد التوبة والإنابة إلى الله، عز وجل، ويعزم عليها .

قال الله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ) أي: هؤلاء المتصفون بما ذكرنا، التائبون إلى الله المنيبون إليه، المستدركون ما فات بالتوبة والاستغفار، هم الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا، ويتجاوز عن سيئاتهم، فيغفر لهم الكثير من الزلل، ويتقبل منهم اليسير من العمل، (فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ) أي: هم في جملة أصحاب الجنة، وهذا حكمهم عند الله كما وعد الله من تاب إليه وأناب؛ ولهذا قال: (وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ)

وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)

لما ذكر تعالى حال الداعين للوالدين البارين بهما وما لهم عنده من الفوز والنجاة، عطف بحال الأشقياء العاقين للوالدين فقال: (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا) - وهذا عام في كل من قال هذا .

روى البخاري عن يوسف بن مَاهَك قال: كان مَرْوان على الحجاز، استعمله معاوية بن أبي سفيان، فخطب وجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه، فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئا، فقال: خذوه فدخل بيت عائشة، رضي الله عنها، فلم يقدروا عليه، فقال مروان: إن هذا الذي أنـزل الله فيه: (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنـزل الله فينا شيئا من القرآن، إلا أن الله أنـزل عُذرِي

وقوله: (أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ) أي: أن أبعث (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) أن قد مضى الناس فلم يرجع منهم مخبر، (وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ) أي: يسألان الله فيه أن يهديه ويقولان لولدهما: (وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ) قال الله تعالى (أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ) أي: دخلوا في زمرة أشباههم وأضرابهم من الكافرين الخاسرين أنفسهم وأهليهم يوم القيامة .

وقوله: (أولئك الذين) بعد قوله: (وَالَّذِي قَالَ) جنس يعم كل من كان كذلك بهذه الحالة الذميمة، (حق عليهم القول) أي حقت عليهم كلمة العذاب (في) جملة (أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس) على الكفر والتكذيب فسيدخل هؤلاء في غمارهم ويخرقون في تيارهم (إنهم كانوا خاسرين) والخسران فوات رأس مال الإنسان، وإذا فقد رأس ماله، فالأرباح من باب أولى وأحرى فهم قد فاتهم الإيمان ولم يحصلوا شيئاً من النعيم ولا سلموا من عذاب الجحيم .

وقوله: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) أي: لكل عذاب بحسب عمله، (وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي: لا يظلمهم مثقال ذرة فما دونها .

فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ ليَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا يَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ فِي الْأُفُقِ مِنْ الْمَشْرِقِ أَوْ الْمَغْرِبِ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ قَالَ بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ) رواه البخاري ومسلم

وقوله: (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا) أي: يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا .

وقوله: (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) فجوزوا من جنس عملهم، فكما نَعَّموا أنفسهم واستكبروا عن اتباع الحق، وتعاطوا الفسق والمعاصي، جازاهم الله بعذاب الهون، وهو الإهانة والخزي والآلام الموجعة، والحسرات المتتابعة والمنازل في الدركات المفظعة، أجارنا الله من ذلك كله .

وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)

يقول تعالى مسليا لنبيه في تكذيب من كذبه من قومه: (وَاذْكُرْ) بالثناء الجميل، (أَخَا عَادٍ) وهو هود، عليه السلام، بعثه الله إلى عاد الأولى، وكانوا يسكنون (بالأحقاف) وهي منازلهم المعروفة بالأحقاف وهي الرمال الكثيرة في أرض حضر موت جنوب اليمن .

روى ابن ماجه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يرحمنا الله، وأخا عاد» صححه البوصيري في الزوائد

وقوله: (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) يعني: وقد أرسل الله إلى من حَول بلادهم من القرى مرسلين ومنذرين ، فأجابه قومه قائلين: (أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا) أي: لتصدنا (عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) استعجلوا عذاب الله وعقوبته، استبعادًا منهم وقوعه .

(قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ) أي: الله أعلم بكم إن كنتم مستحقين لتعجيل العذاب فيفعل ذلك بكم، وأما أنا فمن شأني أني أبلغكم ما أرسلت به، (وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ) أي: لا تعقلون ولا تفهمون

قال الله تعالى: (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) أي: لما رأوا العذاب مستقبلهم، اعتقدوا أنه عارض ممطر، ففرحوا واستبشروا به ، وقد كانوا ممحلين محتاجين إلى المطر، قال الله تعالى: (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي: هو العذاب الذي قلتم: (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) .

(تُدَمِّرُ) أي: تخرب (كُلَّ شَيْءٍ) من بلادهم، مما من شأنه الخراب (بِأَمْرِ رَبِّهَا) أي: بإذن الله لها في ذلك، ولهذا قال: (فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ) أي: قد بادوا كلهم عن آخرهم ولم تبق لهم باقية، (كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) أي: هذا حكمنا فيمن كذب رسلنا، وخالف أمرنا .

وروى مسلم في صحيحه عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال: «اللهم، إني أسألك خيرها، وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها، وشر ما أرسلت به» قالت: وإذا تَخَيَّلت السماء تغير لونه، وخرج ودخل، وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سري عنه، فعرفت ذلك في وجهه قالت عائشة: فسألته، فقال: لعله ياعائشة كما قال قوم عاد: (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا)

وقوله تعالى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)

يقول تعالى: ولقد مكنا الأمم السالفة في الدنيا من الأموال والأولاد، وأعطيناهم منها ما لم نعطكم مثله ولا قريبا منه، (وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) أي: وأحاط بهم العذاب والنكال الذي كانوا يكذبون به ويستبعدون وقوعه، أي: فاحذروا أيها المخاطبون أن تكونوا مثلهم، فيصيبكم مثل ما أصابهم من العذاب في الدنيا والآخرة .

وقوله: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى) يعني: أهل مكة، قد أهلك الله الأمم المكذبة بالرسل مما حولها كعاد، وكانوا بالأحقاف في حضر موت جنوب اليمن وثمود، وكانت منازلهم شمال غرب بلاد الحرمين بين المدينة المنورة وتبوك على بعد 22 كيلو متر شمال محافظة العلا، وكذلك سبأ وهم أهل اليمن، ومدين وكانت في طريقهم وممرهم إلى غزة بأرض فلسطين، وكذلك بحيرة قوم لوط إذ كانوا يسكنون منطقة الأغوار الأردنية والفلسطينية، كانوا يمرون بها أيضا .

وقوله: (وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ) أي: بيناها ووضحناها، (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً) أي: فهلا نصروهم عند احتياجهم إليهم، (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) أي: بل ذهبوا عنهم أحوج ما كانوا إليهم، (وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ) أي: كذبهم، (وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) أي: وافتراؤهم في اتخاذهم إياهم آلهة، وقد خابوا وخسروا في عبادتهم لها، واعتمادهم عليها .

وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32)

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها وانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بنخلة عامدا إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا - والله- الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك حين رجعوا إلى قومهم، قالوا يا قومنا إنا سمعنا قرآنا عجبا، يهدي إلى الرشد فآمنا به، ولن نشرك بربنا أحدا، وأنـزل الله على نبيه : قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ [الجن: 1] ، وإنما أوحي إليه قول الجن. رواه البخار ومسلم واللفظ للبخاري

فقوله تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ) أي: طائفة من الجن، (يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا) أي: استمعوا وهذا أدب منهم

وقوله: (فَلَمَّا قُضِيَ) أي: فرغ (وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) أي: رجعوا إلى قومهم فأنذروهم ما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقد استدل بهذه الآية على أنه في الجن نُذُرٌ، وليس فيهم رسل: ولا شك أن الجن لم يبعث الله منهم رسولا .

فقال مخبرًا عنهم: (قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنـزلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ) لأن كتاب موسى أصل للإنجيل وعمدة لبني اسرائيل في أحكام الشرع وإنما الإنجيل متمم ومكمل ومغير لبعض الأحكام .

(مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) أي: من الكتب المنـزلة قبله على الأنبياء وقولهم: (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ) أي: في الاعتقاد والإخبار، (وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) في الأعمال، فإن القرآن يشتمل على شيئين خبر وطلب ، فخبره صدق، وطلبه عدل ، وهكذا قالت الجن: (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ) في الاعتقادات، (وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) أي: في العمليات .

(يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ) فيه دلالة على أنه تعالى أرسل محمدًا صلوات الله وسلامه عليه إلى الثقلين الإنس والجن حيث دعاهم إلى الله، وقرأ عليهم السورة التي فيها خطاب الفريقين، وتكليفهم ووعدهم ووعيدهم، وهي سورة الرحمن؛ ولهذا قال (أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ) .

وقوله: (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) (من) للتبعيض (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) أي: ويقيكم من عذابه الأليم .

ثم قال مخبرا عنه: (وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضِ) أي: بل قدرة الله شاملة له ومحيطة به، (وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ) أي: لا يجيرهم منه أحدٌ (أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) وهذا مقامُ تهديد وترهيب، فَدَعَوا قومهم بالترغيب والترهيب؛ ولهذا نجع في كثير منهم، وجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفودا وفودا، كما تقدم بيانه .

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)

يقول تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا) أي: هؤلاء المنكرون للبعث يوم القيامة، المستبعدون لقيام الأجساد يوم المعاد (أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ) أي: ولم يَكْرثهُ خَلْقُهن، بل قال لها: «كوني» فكانت، بلا ممانعة ولا مخالفة، بل طائعة مجيبة خائفة وجلة، أفليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى؟ ولهذا قال: (بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .

ثم قال متهددا ومتوعدا لمن كفر به: (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ) أي: يقال لهم: أما هذا حق؟ أفسحر هذا؟ أم أنتم لا تبصرون؟ (قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا) أي: لا يسعهم إلا الاعتراف، (قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) ثم قال تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر على تكذيب من كذبه من قومه، (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) أي: على تكذيب قومهم لهم، وأولي العزم هم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، وخاتم الأنبياء كلهم محمد صلى الله عليه وسلم .

(وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) أي: لا تستعجل لهم حلول العقوبة بهم .

(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ) ، وحاصل ذلك أنهم استقصروا مدة لبثهم في الدنيا وفي البرزخ حين عاينوا يوم القيامة وشدائدها وطولها .

وقوله: (بَلاغٌ) هذا القرآن العظيم الذي بينا لكم فيه البيان التام، بلاغ لكم وزاد إلى الدار الآخرة ونعم الزاد والبلغة، زاد يوصل إلى دار النعيم ويعصم من عذاب أليم فهو أفضل زاد يتزوده الخلائق وأجل نعمة أنعم الله بها عليهم .

وقوله: (فَهَلْ يُهْلَكُ) بالعقوبات (إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ) أي: الذين لا خير فيهم وقد خرجوا عن طاعة ربهم ولم يقبلوا الحق الذي جاءتهم به الرسل واعذر الله لهم وأنذرهم فاستمروا على تكذيبهم وكفرهم .

نسأل الله العصمة من الذنوب والخطايا

تم تفسير سورة الأحقاف ولله الحمد والمنة

17 - 9 - 1438هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

7 + 8 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر