تفسير سورة الجاثية

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الخميس 21 شهر رمضان 1438هـ | عدد الزيارات: 1506 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد

سورة الجاثية مكية وآياتها 37

بسم الله الرحمن الرحيم

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)

يُرشد تعالى خلقه إلى التفكر في آلائه ونعمه، وقدرته العظيمة التي خلق بها السموات الأرض، وما فيهما من المخلوقات المختلفة الأجناس والأنواع من الملائكة والجن والإنس، والدواب والطيور والوحوش والسباع والحشرات، وما في البحر من الأصناف المتنوعة، واختلاف الليل والنهار في تعاقبهما دائبين لا يفتران، هذا بظلامه وهذا بضيائه، وما أنـزل الله تعالى من السحاب من المطر في وقت الحاجة إليه، وسماه رزقًا؛ لأن به يحصل الرزق، (فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) أي: بعد ما كانت هامدة لا نبات فيها ولا شيء وقوله: (وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ) أي: جنوبا وشمالاً ، شرقاً وغرباً، بحرية وبرية، ليلية ونهارية ومنها ما هو للمطر، ومنها ما هو للقاح، ومنها ما هو غذاء للأرواح، ومنها ما هو عقيم لا ينتج .وقال أولا (لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) ، ثم (يوقنون) ثم (يعقلون) وهو تَرَقٍّ من حال شريف إلى ما هو أشرف منه وأعلى .

تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)

يقول تعالى: هذه آيات الله - يعني القرآن بما فيه من الحجج والبينات- (نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ) أي: متضمنة الحق من الحق، فإذا كانوا لا يؤمنون بها ولا ينقادون لها، فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ؟ثم قال: (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) أي: أفاك في قوله كذاب، حلاف مهين أثيم في فعله وقوله كافر بآيات الله؛ ولهذا قال: (يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ) أي: تقرأ عليه (ثُمَّ يُصِرُّ) أي: على كفره وجحوده استكبارًا وعنادا (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا) أي: كأنه ما سمعها، (فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) أي فأخبره أن له عند الله يوم القيامة عذابا أليما موجعا .(وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا) أي: إذا حفظ شيئًا من القرآن كفر به واتخذه سخريا وهزوا، (أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) أي: في مقابلة ما استهان بالقرآن واستهزأ به؛ ولهذا روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو .ثم فسر العذاب الحاصل له يوم معاده فقال: (مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ) أي: كل من اتصف بذلك سيصيرون إلى جهنم يوم القيامة، (وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا) أي: لا تنفعهم أموالهم ولا أولادهم، (وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ) أي: ولا تغني عنهم الآلهة التي عبدوها من دون الله شيئًا، (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) .ثم قال تعالى: (هَذَا هُدًى) يعني القرآن (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) وهو المؤلم الموجع .

اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)

يذكر تعالى نعمه على عبيده فيما سخر لهم من البحر (لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ) ، وهي السفن فيه بأمره تعالى، فإنه هو الذي أمر البحر أن يحملها (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي: في المتاجر والمكاسب، (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي: على حصول المنافع المجلوبة إليكم من الأقاليم النائية والآفاق القاصية .ثم قال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ) أي: من الكواكب والجبال، والبحار والأنهار، وجميع ما تنتفعون به، أي: الجميع من فضله وإحسانه وامتنانه ولهذا قال: (جَمِيعًا مِنْهُ) أي: من عنده وحده لا شريك له في ذلك .

قُلْ لِلَّذِينَ ءامَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ(15)

وقوله:(قُلْ لِلَّذِينَ ءامَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ) أي: يصفحوا عنهم ويحتملوا الأذى منهم وهذا كان في ابتداء الإسلام، أمروا أن يصبروا على أذى المشركين وأهل الكتاب، ليكون ذلك لتأليف قلوبهم ، ثم لما أصروا على العناد شرع الله للمؤمنين الجهاد وقوله:(لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) أي: إذا صفحوا عنهم في الدنيا، فإن الله مجازيهم بأعمالهم السيئة في الآخرة؛ ولهذا قال: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) أي: تعودون إليه يوم القيامة فتعرضون بأعمالكم عليه فيجزيكم بأعمالكم خيرها وشرها .

وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)

يذكر تعالى ما أنعم به على بني إسرائيل من إنـزال الكتب عليهم وإرسال الرسل إليهم، وجعله الملك فيهم؛ ولهذا قال:(وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ) أي: من المآكل والمشارب، (وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) أي: في زمانهم .

(وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأمْرِ) أي: حججا وبراهين وأدلة قاطعات، فقامت عليهم الحجج ثم اختلفوا بعد ذلك من بعد قيام الحجة، وإنما كان ذلك بغيا منهم على بعضهم بعضا، (إِنَّ رَبَّكَ) يا محمد (يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي: سيفصل بينهم بحكمه العدل وهذا فيه تحذير لهذه الأمة أن تسلك مسلكهم، وأن تقصد منهجهم فقال (وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) أي: وماذا تغني عنهم ولايتهم لبعضهم بعضا، فإنهم لا يزيدونهم إلا خسارا ودمارا وهلاكا، (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) ، وهو تعالى يخرجهم من الظلمات إلى النور، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات .ثم قال: (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ) يعني: القرآن (وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22)

يقول تعالى:لايستوي المؤمنون والكافرون فقال: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ)أي: عملوها وكسبوها (أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ) أي: نساويهم بهم في الدنيا والآخرة! (سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) أي: ساء ما ظنوا بنا وبعدلنا أن نُسَاوي بين الأبرار والفجار في الدار الآخرة، وفي هذه الدار، ولهذا قال تعالى: (سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) .وقال (وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ) أي: بالعدل، (وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) .

أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23)

ثم قال تعالى (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) أي: إنما يأتمر بهواه، فمهما رآه حسنا فعله، ومهما رآه قبيحا تركهوقوله: (وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ) أي: أضله الله بعد بلوغ العلم إليه، وقيام الحجة عليه، فضلاله لا عن جهل عن حق ولا عن عدم معرفته بالطريق المستقيم، بل ضلاله ناشئ عن عناد وعن غلبة هواه عليه .(وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً) أي: فلا يسمع ما ينفعه، ولا يعي شيئا يهتدي به، ولا يرى حجة يستضيء بها؛ ولهذا قال: (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) .

وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26)

يخبر تعالى عن قول الدهرية من الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا) أي: ما ثم إلا هذه الدار، يموت قوم ويعيش آخرون وما ثم معاد ولا قيامة وهذا يقوله مشركو العرب المنكرون للمعاد، ويقوله الفلاسفة الإلهيون منهم، وهم ينكرون البداءة والرجعة، ويقوله الفلاسفة الدهرية الدورية المنكرون للصانع المعتقدون أن في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه وزعموا أن هذا قد تكرر مرات لا تتناهى، فكابروا المعقول وكذبوا المنقول، ولهذا قالوا (وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ) قال الله تعالى: (وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ) أي: يتوهمون ويتخيلون .

ففي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة، رضي الله عنه، واللفظ للبخاري ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(قال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم ؛ يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار)

وقوله تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ) أي: إذا استدل عليهم وبين لهم الحق، وأن الله قادر على إعادة الأبدان بعد فنائها وتفرقها، (مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) أي: أحيوهم إن كان ما تقولونه حقا .

قال الله تعالى: (قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ) أي: كما تشاهدون ذلك يخرجكم من العدم إلى الوجود (ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) أي: إنما يجمعكم ليوم القيامة لا يعيدكم في الدنيا حتى تقولوا: (ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) فقال هاهنا: (ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) أي: لا شك فيه، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي: فلهذا ينكرون المعاد، ويستبعدون قيام الأجساد .

وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)

يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض، الحاكم فيهما في الدنيا والآخرة؛ ولهذا قال: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) أي: يوم القيامة (يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) وهم الكافرون بالله الجاحدون بما أنـزله على رسله من الآيات البينات والدلائل الواضحات .

ثم قال: (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً) أي: على ركبها من الشدة والعظمة في انتظار الملك الرحمن .

وقوله: (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا) يعني: كتاب أعمالها ، ولهذا قال: (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي: تجازون بأعمالكم خيرها وشرها .

ثم قال: (هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ) أي: يستحضر جميع أعمالكم من غير زيادة ولا نقص .

وقوله: (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي: إنا كنا نأمر الحفظة أن تكتب أعمالكم عليكم .

فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)

يخبر تعالى عن حكمه في خلقه يوم القيامة، فقال: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) أي: آمنت قلوبهم وعملت جوارحهم الأعمال الصالحات ، وهي الخالصة الموافقة للشرع، (فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ) ، وهي الجنة، كما ثبت في صحيح البخاري أن الله قال للجنة: (أنت رحمتي، أرحم بك من أشاء من عبادي)

(ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) أي: البين الواضح

ثم قال: (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ) أي: يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا: أما قرئت عليكم آيات الرحمن فاستكبرتم عن اتباعها، وأعرضتم عند سماعها، (وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ) أي: في أفعالكم، مع ما اشتملت عليه قلوبكم من التكذيب ؟

(وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا) أي: إذا قال لكم المؤمنون ذلك، (قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ) أي: لا نعرفها، (إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا) أي: إن نتوهم وقوعها إلا توهما، أي مرجوحا ؛ ولهذا قال: (وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) أي: بمتحققين .

وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)

قال الله تعالى: (وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا) أي: وظهر لهم عقوبة أعمالهم السيئة، (وَحَاقَ بِهِمْ) أي: أحاط بهم (مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) أي: من العذاب والنكال، (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ) أي: نعاملكم معاملة الناسي لكم في نار جهنم (كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا) أي: فلم تعملوا له لأنكم لم تصدقوا به، (وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) .

وقد ثبت في صحيح مسلم أن الله تعالى يقول لبعض العبيد يوم القيامة: "أَيْ فُلْ أَلَمْ أُكْرِمْكَ، وَأُسَوِّدْكَ، وَأُزَوِّجْكَ، وَأُسَخِّرْ لكَ الخَيْلَ وَالإِبِلَ، وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ؟ فيَقولُ: بَلَى، قالَ: فيَقولُ: أَفَظَنَنْتَ أنَّكَ مُلَاقِيَّ؟ فيَقولُ: لَا، فيَقولُ: فإنِّي أَنْسَاكَ كما نَسِيتَنِي، ثُمَّ يَلْقَى الثَّانِيَ فيَقولُ: أَيْ فُلْ أَلَمْ أُكْرِمْكَ، وَأُسَوِّدْكَ، وَأُزَوِّجْكَ، وَأُسَخِّرْ لكَ الخَيْلَ وَالإِبِلَ، وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ، وَتَرْبَعُ، فيَقولُ: بَلَى، أَيْ رَبِّ فيَقولُ: أَفَظَنَنْتَ أنَّكَ مُلَاقِيَّ؟ فيَقولُ: لَا، فيَقولُ: فإنِّي أَنْسَاكَ كما نَسِيتَنِي"

قال الله تعالى: (ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا) أي: إنما جازيناكم هذا الجزاء لأنكم اتخذتم حجج الله عليكم سخريا، تسخرون وتستهزئون بها، (وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) أي: خدعتكم فاطمأننتم إليها، فأصبحتم من الخاسرين؛ ولهذا قال: (فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا) أي: من النار(وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي: لا يطلب منهم العتبى، بل يعذبون بغير حساب ولا عتاب، كما تدخل طائفة من المؤمنين الجنة بغير عذاب ولا حساب .

ثم لما ذكر حكمه في المؤمنين والكافرين قال: (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السماواتِ وَرَبِّ الأرْضِ) أي: المالك لهما وما فيهما؛ ولهذا قال: (رَبِّ الْعَالَمِينَ)

ثم قال: (وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السماواتِ وَالأرْضِ) أي: له الجلال والعظمة والمجد .فالحمد فيه الثناء على الله بصفات الكمال ومحبته تعالى وإكرامهوالكبرياء فيها عظمته وجلاله والعبادة مبنية على ركنين محبة الله والذل له وهما ناشئان عن العمل بمحامد الله وجلاله وكبريائه وفي سنن أبي داود: (يقول الله تعالى:العظمة إزاري والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدًا منهما قذفته في النار) صححه الألباني .وقوله: (وَهُوَ الْعَزِيزُ) أي: الذي لا يغالب ولا يمانع القاهر لكل شيء .(الحكيم) في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره، تعالى وتقدس، الذي يضع الأشياء مواضعها فلا يشرع ما يشرعه إلا لحكمة ومصلحة ولا يخلق ما يخلقه إلا لفائدة ومنفعة، لا إله إلا هو .

تم تفسير سورة الجاثية ولله الحمد والمنة.

20 - 9 - 1438هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

3 + 4 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 124 الجزء الثالث ‌‌أهمية الغطاء على وجه المرأة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر