تفسير سورة الدخان

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: السبت 23 شهر رمضان 1438هـ | عدد الزيارات: 1485 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد

سورة الدخان مكية وآياتها 59

بسم الله الرحمن الرحيم

حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ (8)

(حم)سبق الكلام عن الحروف المقطعة(وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ) أقسم الله تعالى بالقرآن الواضح لفظاً ومعنى(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) يقول تعالى مخبرا عن القرآن العظيم: أنه أنـزله في ليلة مباركة، وهي ليلة القدر .وقوله: (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ)أي:معلمين الناس ما ينفعهم ويضرهم شرعاً، لتقوم حجة الله على عبادهوقوله:(فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) أي: في ليلة القدر يكتب كل أمر حكيم من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم من هذه الليلة إلى الأخرى من السنة القابلة .(أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا) أي: جميع ما يكون ويقدره الله تعالى وما يوحيه فبأمره وإذنه وعلمه، (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) أي: إلى الناس رسولا يتلو عليهم آيات الله مبينات، فإن الحاجة كانت ماسة إليه؛ ولهذا قال: (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) أي: الذي أنـزل هذا القرآن هو رب السموات والأرض وخالقهما ومالكهما وما فيهما، (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) أي: إن كنتم متحققين .ثم قال: (لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ) اعلموا أن رب المخلوقات وإلهها الحق لا إله يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له يحيي ويميت ربكم ورب آبائكم الأولين فاعبدوه دون آلهتكم التي لا تقدر على ضر ولا نفع .

بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يلعبون(9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ(13)ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ(14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ 15 يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ 16

يقول تعالى: بل هؤلاء المشركون في شك يلعبون، أي: قد جاءهم اليقين ، وهم يشكون فيه، ويمترون ولا يصدقون به، ثم قال متوعدا لهم ومهدداً: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ)

ففي الصحيحين أن ابن مسعود قال: إن قريشا لما أبطأت عن الإسلام واستعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم من الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والمَيتة، وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان .وقال ابن مسعود:خمس قد مضين الروم والدخان واللزام والبطشة والقمرواللزام هو ما وقع في غزوة بدر .وقوله:(رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) أي: يقول الكافرون إذا عاينوا عذاب الله وعقابه سائلين رفعه وكشفه عنهم، ثم قال: (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) يقول: كيف لهم بالتذكر، وقد أرسلنا إليهم رسولا بين الرسالة والنذارة، ومع هذا تولوا عنه وما وافقوه، بل كذبوه وقالوا معلم مجنون وقوله:(إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ) إخبار بأن الله سيصرفه عنهم وتوعد لهم أن يعودوا إلى الاستكبار والتكذيب وإخبار بوقوعه فوقع وقوله تعالى: (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) وذلك يوم القيامة

وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18)

يقول تعالى: ولقد اختبرنا قبل هؤلاء المشركين قوم فرعون، وهم قبط مصر،(وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) يعني:موسى كليمه، عليه السلام (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ) ، وقوله: (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) أي: مأمون على ما أبلغكموه

وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ (33)

وقوله: (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ) أي: لا تستكبروا عن اتباع آياته، والانقياد لحججه والإيمان ببراهينه .

(إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) أي: بحجة ظاهرة واضحة، وهي ما أرسله الله به من الآيات البينات والأدلة القاطعة، فكذبوه وهموا بقتله فلجأ إلى الله من شرهم فقال (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) أي: تقتلوني شر القتلات بالرجم والحجارة .(وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) أي: فلا تتعرضوا ليَّ ، ودعوا الأمر بيني وبينكم مسالمة إلى أن يقضي الله بيننا فلما طال مقامه بين أظهرهم، وأقام حجج الله عليهم، كل ذلك وما زادهم ذلك إلا كفراً وعناداً، دعا ربه عليهم دعوة نفذت فيهم ، ولهذا قال هاهنا: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) فعند ذلك أمره الله تعالى أن يخرج ببني إسرائيل من بين أظهرهم من غير أمر فرعون ومشاورته واستئذانه؛ ولهذا قال: (فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) .وقوله : (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) وذلك أن موسى، عليه السلام، لما جاوز هو وبنو إسرائيل البحر، أراد موسى أن يضربه بعصاه حتى يعود كما كان، ليصير حائلا بينهم وبين فرعون، فلا يصل إليهم فأمره الله أن يتركه على حاله ساكناً حتى يدخله فرعون وجنوده، وبشره بأنهم جند مغرقون فيه ، وأنه لا يخاف دركاً ولا يخشى .ثم قال تعالى: (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ) وهي البساتين (وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ) والمراد بها الأنهار والآبار، (وَمَقَامٍ كَرِيمٍ) وهي المساكن الكريمة الأنيقة والأماكن الحسنة .(وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ) أي: عيشة كانوا يتفكهون فيها فيأكلون ما شاؤوا ويلبسون ما أحبوا مع الأموال والجاهات والحكم في البلاد، فسلبوا ذلك جميعه في صبيحة واحدة، وفارقوا الدنيا وصاروا إلى جهنم وبئس المصير، واستولى على البلاد المصرية وتلك الحواصل الفرعونية والممالك القبطية بنو إسرائيل ، فقال : (كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ) وهم بنو إسرائيل .وقوله: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ) أي: لم تكن لهم أعمال صالحة تصعد في أبواب السماء فتبكي على فقدهم، ولا لهم في الأرض بقاع عبدوا الله فيها فقدتهم؛ فلهذا استحقوا ألا ينظروا ولا يؤخروا لكفرهم وإجرامهم، وعتوهم وعنادهم .وقوله: (وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ) يمتن عليهم تعالى بذلك، حيث أنقذهم مما كانوا فيه من إهانة فرعون وإذلاله لهم، وتسخيره إياهم في الأعمال المهينة الشاقة .وقوله: (مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ) أي: مستكبراً جباراً عنيداً .وقوله: (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) قال قتادة: اختيروا على أهل زمانهم ذلك وكان يقال: إن لكل زمان عالما .وقوله: (وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ) أي: [من] الحجج والبراهين وخوارق العادات (مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ) أي: اختبار ظاهر جلي لمن اهتدى به .

إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلا مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37)

يقول تعالى منكراً على المشركين في إنكارهم البعث والمعاد، وقولهم أنه ما ثم إلا هذه الحياة الدنيا، ولا حياة بعد الممات، ولا بعث ولا نشور ويحتجون بآبائهم الماضين الذين ذهبوا فلم يرجعوا، فإن كان البعث حقاً (فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) وهذه حجة باطلة وشبهة فاسدة، فإن المعاد إنما هو يوم القيامة لا في هذه الدار، بل بعد انقضائها وذهابها وفراغها يعيد الله العالمين خلقاً جديداً، ويجعل الظالمين لنار جهنم وقوداً، ويوم تكونون شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً .

ثم قال تعالى متهدداً لهم، ومتوعداً ومنذراً لهم بأسه الذي لا يرد، كما حل بأشباههم ونظرائهم من المشركين والمنكرين للبعث كقوم تبع وهم سبأ حيث أهلكهم الله وخَرَّب بلادهم، وشردهم في البلاد، وفرقهم شذر مذر، وهي مُصَدَّرة بإنكار المشركين للمعاد وكذلك هاهنا شبههم بأولئك، وقد كانوا عربا من قحطان كما أن هؤلاء عربا من عدنان، وقد كانت حمير - وهم سبأ- كلما ملك فيهم رجل سموه تُبَّعاً، كما يقال: كسرى لمن ملك الفرس، وقيصر لمن ملك الروم، وفرعون لمن ملك مصر كافرا، والنجاشي لمن ملك الحبشة، وغير ذلك من أعلام الأجناس ولكن اتفق أن بعض تبابعتهم خرج من اليمن وسار في البلاد حتى وصل إلى سمرقند، واشتد ملكه وعظم سلطانه وجيشه، واتسعت مملكته وبلاده، وكثرت رعاياه وهو الذي مَصَّر الحيرة فاتفق أنه مَرَّ بالمدينة النبوية وذلك في أيام الجاهلية، فأراد قتال أهلها فمانعوه وقاتلوه بالنهار، وجعلوا يَقْرُونه بالليل، فاستحيا منهم وكف عنهم، واستصحب معه حبرين من أحبار يهود كانا قد نصحاه وأخبراه أنه لا سبيل له على هذه البلدة؛ فإنها مُهَاجَرُ نبي يكون في آخر الزمان، فرجع عنها وأخذهما معه إلى بلاد اليمن، فلما اجتاز بمكة أراد هدم الكعبة فنهياه عن ذلك أيضًا، وأخبراه بعظمة هذا البيت، وأنه من بناية إبراهيم الخليل وأنه سيكون له شأن عظيم على يدي ذلك النبي المبعوث في آخر الزمان، فعظمها وطاف بها ، وكساها الملاء والوصائل والحبير ثم كر راجعاً إلى اليمن ودعا أهلها إلى التهود معه، وكان إذ ذاك دين موسى ، عليه السلام، فيه من يكون على الهداية قبل بعثة المسيح، عليه السلام، فتهود معه عامة أهل اليمن وكان كافراً ثم أسلم وتابع دين الكليم على يدي من كان من أحبار اليهود في ذلك الزمان على الحق قبل بعثة المسيح، عليه السلام، وحج البيت في زمن الجُرهُميين، وكساه الملاء والوصائل من الحرير والحبير ونحر عنده ستة آلاف بدنة وعظمه وأكرمه ثم عاد إلى اليمن، وتُبَّع هذا هو تُبَّع الأوسط، واسمه أسعد أبو كُرَيْب بن مَلْكيكرب اليماني ذكروا أنه ملك على قومه ثلاثمائة سنة وستا وعشرين سنة، ولم يكن في حمير أطول مدة منه، وتوفي قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو من سبعمائة عام .

وذكر ابن أبي الدنيا أنه حُفِر قبر بصنعاء في الإسلام، فوجدوا فيه امرأتين صحيحتين، وعند رءوسهما لوح من فضة مكتوب فيه بالذهب: هذا قبر حبي ولميس - وروي: حبي وتماضر- ابنتي تُبَّع ماتتا، وهما تشهدان أن لا إله إلا الله ولا تشركان به شيئًا، وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما .

وقوله: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39)

يقول تعالى مخبراً عن عدله وتنـزيهه نفسه عن اللعب والعبث والباطل .

إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلى عَنْ مَوْلى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)

ثم قال: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) وهو يوم القيامة، يفصل الله فيه بين الخلائق، فيعذب الكافرين ويثيب المؤمنينوقوله: (مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) أي: يجمعهم كلهم أولهم وآخرهم(يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلى عَنْ مَوْلى شَيْئاً) أي: لا ينفع قريب قريباً .وقوله: (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي: لا ينصر القريب قريبه، ولا يأتيه نصره من خارج .ثم قال: (إِلا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ) أي: لا ينفع يومئذ إلا من رحمه الله، عز وجل، لخلقه (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي: هو عزيز ذو رحمة واسعة .

إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)

يقول تعالى مخبراً عما يعذب به الكافرين الجاحدين للقائه: (إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأثِيمِ) شجرة الزقوم شر الأشجار وأفظعها والأثيم أي: كثير الآثام في قوله وفعله، وهو الكافر .وقوله: (كَالْمُهْلِ) أي: كالصديد المنتن خبيث الريح والطعم شديد الحرارة (يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) أي: من حرارتها ورداءتها .وقوله: (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ) (خُذُوهُ) على إرادة القول والخطاب للزبانية (فَاعْتِلُوهُ)أي: جروه، والعتل الأخذ بمجامع الشيء وجره بقهر وعنف .(إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ) أي: وسطها(ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ) .وقوله: (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) أي: قولوا له ذلك على وجه التهكم والتوبيخ .وقوله: (إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) أي: تشكون .

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)

لما ذكر تعالى حال الأشقياء عطف بذكر السعداء - ولهذا سُمّي القرآن مثاني- فقال: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) أي: لله في الدنيا (فِي مَقَامٍ أَمِينٍ) أي: في الآخرة وهو الجنة، قد أمنوا فيها من الموت والخروج، ومن كل هم وحزن وجزع وتعب ونصب، ومن الشيطان وكيده، وسائر الآفات والمصائب .(فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) وهذا في مقابلة ما أولئك فيه من شجرة الزقوم، وشرب الحميموقوله تعالى: (يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) (سُنْدُسٍ) وهو: ما رق من الحرير (وَإِسْتَبْرَقٍ) وهو ما غلظ من الحرير وفيه بريق ولمعان (مُتَقَابِلِينَ) أي: على السرر لا يجلس أحد منهم وظهره إلى غيره .وقوله: (كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) أي: هذا العطاء مع ما قد منحناهم من الزوجات الحور العين الحسان .وقوله: (يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ) أي: مهما طلبوا من أنواع الثمار أحضر لهم، وهم آمنون من انقطاعه وامتناعه، بل يحضر إليهم كلما أرادوا .وقوله: (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأولَى) هذا استثناء يؤكد النفي، فإنه استثناء منقطع ومعناه: أنهم لا يذوقون فيها الموت أبداً، كما ثبت في الصحيحين واللفظ للبخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يُؤْتَى بالمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أمْلَحَ، فيُنادِي مُنادٍ: يا أهْلَ الجَنَّةِ، فَيَشْرَئِبُّونَ ويَنْظُرُونَ، فيَقولُ: هلْ تَعْرِفُونَ هذا؟ فيَقولونَ: نَعَمْ، هذا المَوْتُ، وكُلُّهُمْ قدْ رَآهُ، ثُمَّ يُنادِي: يا أهْلَ النَّارِ، فَيَشْرَئِبُّونَ ويَنْظُرُونَ، فيَقولُ: وهلْ تَعْرِفُونَ هذا؟ فيَقولونَ: نَعَمْ، هذا المَوْتُ، وكُلُّهُمْ قدْ رَآهُ، فيُذْبَحُ ثُمَّ يقولُ: يا أهْلَ الجَنَّةِ خُلُودٌ فلا مَوْتَ، ويا أهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فلا مَوْتَ

وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :يُنادِي مُنادٍ: إنَّ لَكُمْ أنْ تَصِحُّوا فلا تَسْقَمُوا أبَدًا، وإنَّ لَكُمْ أنْ تَحْيَوْا فلا تَمُوتُوا أبَدًا، وإنَّ لَكُمْ أنْ تَشِبُّوا فلا تَهْرَمُوا أبَدًا، وإنَّ لَكُمْ أنْ تَنْعَمُوا فلا تَبْتئسوا أبَدًا فَذلكَ قَوْلُهُ عزَّ وجلَّ: {وَنُودُوا أنْ تِلْكُمُ الجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[الأعراف: 43] .

وقوله: (وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) أي: مع هذا النعيم العظيم المقيم قد وقاهم، وسلمهم ونجاهم وزحزحهم من العذاب الأليم في دركات الجحيم، فحصل لهم المطلوب، ونجاهم من المرهوب؛ ولهذا قال: (فَضْلا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي: إنما كان هذا بفضله عليهم وإحسانه إليهم كما ثبت في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سددوا وقاربوا، وابشروا فإنه لا يدخل أحداً الجنة عمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله ؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمَّدني الله بمغفرة ورحمة " وقوله: (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي: إنما يسرنا هذا القرآن الذي أنـزلناه سهلا واضحاً بيناً جلياً بلسانك الذي هو أفصح اللغات وأجلاها وأحلاها وأعلاها (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي: يتفهمون ويعملون ثم لما كان مع هذا البيان والوضوح من الناس من كفر وخالف وعاند، قال الله تعالى لرسوله مسليا له وواعداً له بالنصر، ومتوعدًا لمن كذبه بالعطب والهلاك: (فَارْتَقِبْ) أي: انتظر (إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) أي: فسيعلمون لمن يكون النصر والظفر وعُلُو الكلمة في الدنيا والآخرة، فإنها لك يا محمد ولإخوانك من النبيين والمرسلين ومن اتبعكم من المؤمنين .

تم تفسير سورة الدخان، ولله الحمد والمنة

22 - 9- 1438هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

3 + 3 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 124 الجزء الثالث ‌‌أهمية الغطاء على وجه المرأة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 123 الجزء الثالث ‌‌حكم قيادة المرأة للسيارة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر