تفسير سورة الزخرف

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الثلاثاء 26 شهر رمضان 1438هـ | عدد الزيارات: 1528 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد

سورة الزخرف مكية وآياتها 89

بسم الله الرحمن الرحيم

حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ (8)

(حم) سبق الكلام على الحروف المقطعة (وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ) أقسم الله تعالى بالقرآن الواضح لفظاً ومعنى، لأنه نـزل بلغة العرب التي هي أفصح اللغات للتخاطب بين الناس؛ ولهذا قال: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ) أي: أنـزلناه (قُرْآنًا عَرَبِيًّا) أي: بلغة العرب فصيحا واضحا هذا هو المقسم عليه، (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي: تفهمونه وتتدبرونه .

وقوله تعالى: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) بين شرفه في الملأ الأعلى، ليشرفه ويعظمه ويطيعه أهل الأرض، فقال تعالى: (وإنه) أي: القرآن (فِي أُمِّ الْكِتَابِ) أي: اللوح المحفوظ (لدينا) أي: عندنا (لعلي) أي: ذو مكانة عظيمة وشرف وفضل (حكيم) أي: محكم بريء من اللبس والزيغ .

وقوله: (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ) أي: أفنعرض عنكم ونترك إنزال الذكر إليكم ونضرب عنكم صفحا لأجل إعراضكم وعدم انقيادكم، بل ننزل عليكم الكتاب لنوضح لكم فيه كل شيء، فإن آمنتم به واهتديتم فهو من توفيقكم وإلا فقد قامت عليكم الحجة وكنتم على بينة من أمركم .

ثم قال تعالى مسليا لنبيه في تكذيب من كذبه من قومه، وآمرا له بالصبر عليهم : (وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأوَّلِينَ) أي: في شيع الأولين، (وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) أي: يكذبونه ويسخرون به .

وقوله: (فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا) أي: فأهلكنا المكذبين بالرسل، وقد كانوا أشد بطشا من هؤلاء المكذبين لك يا محمد .

وقوله: (وَمَضَى مَثَلُ الأوَّلِينَ) أي: جعلناهم عبرة لمن بعدهم من المكذبين أن يصيبهم ما أصابهم، كقوله في آخر هذه السورة: فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلآخِرِينَ [الزخرف: 56] .

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)

يقول تعالى: ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين بالله العابدين معه غيره: (مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) أي: ليعترفن بأن الخالق لذلك هو الله تعالى وحده لا شريك له، وهم مع هذا يعبدون معه غيره من الأصنام والأنداد .

ثم قال: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا) أي: فراشًا قرارًا ثابتة، يسيرون عليها ويقومون وينامون وينصرفون، مع أنها مخلوقة على تيار الماء، لكنه أرساها بالجبال لئلا تميد هكذا ولا هكذا، (وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا) أي: طرقا بين الجبال والأودية (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي: في سيركم من بلد إلى بلد، وقطر إلى قطر، وإقليم إلى إقليم .

وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)

(وَالَّذِي نـزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ) أي: بحسب الكفاية لزروعكم وثماركم وشربكم، لأنفسكم ولأنعامكم وقوله: (فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا) أي: أرضا ميتة، فلما جاءها الماء اهتزت وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج .

ثم نبه بإحياء الأرض على إحياء الأجساد يوم المعاد بعد موتها، فقال: (كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ)

ثم قال: (وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا) أي: مما تنبت الأرض من سائر الأصناف، من نبات وزروع وثمار وأزاهير، وغير ذلك أي من الحيوانات على اختلاف أجناسها وأصنافها، (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ) أي: السفن (وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ) أي: ذللها لكم وسخرها ويسرها لأكلكم لحومها، وشربكم ألبانها وركوبكم ظهورها؛ ولهذا قال: (لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ) أي: لتستووا متمكنين مرتفقين (عَلَى ظُهُورِهِ) أي: على ظهور هذا الجنس، (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ) أي: فيما سخر لكم (إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) أي: مطيقين ولولا تسخير الله لنا هذا ما قدرنا عليه، ولكن بلطفه وكرمه تعالى سخرها وذللها ويسر أسبابها .

(وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ) أي: لصائرون إليه بعد مماتنا ليحاسب كل من بما قدمت يداه، وإليه سيرنا الأكبر وهذا من باب التنبيه بسير الدنيا على سير الآخرة، وباللباس الدنيوي على الأخروي في قوله تعالى .

الأحاديث الواردة عند ركوب الدابة :

روى الإمام أحمد عن علي بن ربيعة قال: رأيت عليا، رضي الله عنه، أتى بدابة، فلما وضع رجله في الرِّكاب قال: باسم الله فلما استوى عليها قال: الحمد لله، (سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ) ثم حمد الله ثلاثا، وكبر ثلاثا، ثم قال: سبحانك، لا إله إلا أنت، قد ظلمت نفسي فاغفر لي ثم ضحك فقلت له: من أي شيء ضحكت يا أمير المؤمنين؟ فقال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت ، ثم ضحك فقلت: مم ضحكت يا رسول الله؟ فقال: « يعجب الرب من عبده إذا قال: رب اغفر لي ويقول: علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري » رواه الترمذي وقال حسن صحيح

روى مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجاً إلى سفر كبّر ثلاثًا ثم قال: (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون، اللهم إنّا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى، اللهم هوِّن علينا سفرنا هذا واطوِ عنَّا بُعده، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل، وإذا رجع قالهن وزاد فيهنّ: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون)

وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ (20)

يقول تعالى مخبرا عن المشركين فيما افتروه وكذبوه في جعلهم بعض الأنعام لطواغيتهم وبعضها لله فقال: (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ)

ثم قال: (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ) وهذا إنكار عليهم غاية الإنكار ثم ذكر تمام الإنكار فقال: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) أي: إذا بشر أحد هؤلاء بما جعلوه لله من البنات يأنف من ذلك غاية الأنفة، وتعلوه كآبة من سوء ما بشر به، ويتوارى من القوم من خجله من ذلك، يقول تعالى: فكيف تأنفون أنتم من ذلك، وتنسبونه إلى الله عز وجل ؟

ثم قال: (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ) أي: يجمل فيها لنقص جماله، فيجمل بأمر خارج منه (وَهُوَ فِي الْخِصَامِ) أي: عند الخصام الموجب لإظهار ما عند الشخص من الكلام (غَيْرُ مُبِينٍ) غير مبين لحجته ولا مفصح عما احتوى عليه ضميره كيف ينسبونهن لله تعالى .

وقوله: (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا) أي: اعتقدوا فيهم ذلك، فأنكر عليهم تعالى قولهم ذلك، فقال: (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) أي: شاهدوه وقد خلقهم الله إناثا، (سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ) أي: بذلك، (ويسألون) عن ذلك يوم القيامة وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد .

(وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ) أي: لو أراد الله لحال بيننا وبين عبادة هذه الأصنام، فجمعوا بين أنواع كثيرة من الخطأ :

أحدها: جَعْلُهم لله ولدا، تعالى وتقدس وتنـزه عن ذلك علوا كبيرا

الثاني: دعواهم أنه اصطفى البنات على البنين، فجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا

الثالث: عبادتهم لهم مع ذلك كله، بلا دليل ولا برهان

الرابع: احتجاجهم بتقديرهم على ذلك قَدَرا والحجة إنما تكون بالشرع

وقال في هذه الآية بعد أن ذكر حجتهم هذه : (مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ) أي: بصحة ما قالوه واحتجوا به (إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ) أي: يكذبون ويتقولون .

أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)

يقول تعالى منكرا على المشركين في عبادتهم غير الله بلا برهان ولا دليل ولا حجة: (أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ) أي: من قبل شركهم، (فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) أي: فيما هم فيه، أي: ليس الأمر كذلك .

ثم قال: (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) أي: ليس لهم مستند فيما هم فيه من الشرك سوى تقليد الآباء والأجداد، بأنهم كانوا على أمة، والمراد بها الدين هاهنا .

وقولهم: (وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ) أي: ورائهم (مهتدون) ، دعوى منهم بلا دليل

وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)

ثم بين تعالى أن مقالة هؤلاء قد سبقهم إليها أشباههم ونظراؤهم من الأمم السالفة المكذبة للرسل، تشابهت قلوبهم فقال: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)

ثم قال تعالى: (قل) أي: يا محمد لهؤلاء المشركين: (أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) أي: ولو علموا وتيقنوا صحة ما جئتهم به، لما انقادوا لذلك بسوء قصدهم ومكابرتهم للحق وأهله .

قال الله تعالى: (فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ) أي: من الأمم المكذبة بأنواع من العذاب، كما فصله تعالى في قصصهم، (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) ؟ أي: كيف بادوا وهلكوا، وكيف نجى الله المؤمنين؟

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33)

يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله وخليله إمام الحنفاء، ووالد من بعث بعده من الأنبياء، الذي تنتسب إليه قريش في نسبها ومذهبها: أنه تبرأ من أبيه وقومه في عبادتهم الأوثان، فقال: (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ) أي: هذه الكلمة، وهي عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأوثان وهي « لا إله إلا الله » أي: جعلها دائمة في ذريته يقتدي به فيها من هداه الله من ذرية إبراهيم، عليه السلام، (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي: إليها .

ثم قال تعالى:(بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ) يعني: المشركين، (وآباءهم) أي: فتطاول عليهم العمر في ضلالهم ، (حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ) أي: بين الرسالة والنذارة .

(وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ) أي: كابروه وعاندوه

(وقالوا) أي: كالمعترضين على الذي أنـزله تعالى وتقدس: (لَوْلا نـزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) أي: هلا كان إنـزال هذا القرآن على رجل عظيم كبير في أعينهم من القريتين؟ يعنون مكة والطائف .

ومرادهم رجل كبير من أي البلدتين كان .

قال الله تعالى رادا عليهم في هذا الاعتراض: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) ؟ أي: ليس الأمر مردودا إليهم، بل إلى الله، عز وجل، والله أعلم حيث يجعل رسالاته، فإنه لا ينـزلها إلا على أزكى الخلق قلبا ونفسا، وأشرفهم بيتا وأطهرهم أصلا، إذ لو عرفوا حقائق الرجال والصفات التي بها يعرف علو قدر الرجل وعظم منزلته عند الله وعند خلقه لعلموا أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى الله عليه وسلم هو أعظم الرجال قدراً وأعلاهم فخرا وأكملهم عقلاً وأغزرهم علماً وأجلهم رأياً وعزماً وجزماً وأكملهم خلقاً وأوسعهم رحمة وأشدهم شفقة وأهداهم وأتقاهم وهو قطب دائرة الكمال وإليه المنتهى في أوصاف الرجال ألا وهو رجل العالم على الإطلاق يعرف ذلك أولياؤه وأعداؤه، إلا من ضل وكابر فكيف يفضل عليه المشركون من لم يشم مثقال ذرة من كماله .

ثم قال تعالى مبينا أنه قد فاوت بين خلقه فيما أعطاهم من الأموال والأرزاق والعقول، وغير ذلك من القوى الظاهرة والباطنة، فقال: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ)

وقوله: (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا) أي: ليسخر بعضهم بعضا في الأعمال والحرف والصنائع فلو تساوى الناس في الغنى ولم يحتج بعضهم إلى بعض لتعطل كثير من مصالحهم ومنافعهم .

ثم قال: (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) أي: رحمة الله بخلقه خير لهم مما بأيديهم من الأموال ومتاع الحياة الدنيا .

ثم قال تعالى: (وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) أي: لولا أن يعتقد كثير من الناس الجهلة أن إعطاءنا المال دليل على محبتنا لمن أعطيناه، فيجتمعوا على الكفر لأجل المال (لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ) أي: سلالم ودرجا من فضة، عليها يصعدون إلى الغرف .

وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)

(وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا) أي: أغلاقا على أبوابهم (وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ) ، أي: جميع ذلك يكون فضة، (وزخرفا) ، أي: وذهبا .

ثم قال: (وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أي: إنما ذلك من الدنيا الفانية الزائلة الحقيرة عند الله تعالى أي: يعجل لهم بحسناتهم التي يعملونها في الدنيا مآكل ومشارب، ليوافوا الآخرة وليس لهم عند الله حسنة يجزيهم بها .

ثم قال: (وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) أي: هي لهم خاصة لا يشاركهم: فيها أحد غيرهم .

وفي الصحيحين واللفظ للبخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة » وإنما خولهم الله تعالى في الدنيا لحقارتها، كما روى الترمذي وابن ماجه، عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما سقى منها كافرا شربة ماء أبدا » ، قال الترمذي: حسن صحيح

وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)

يقول تعالى: (وَمَنْ يَعْشُ) أي: يتعامى ويتغافل ويعرض، (عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ) والعشا في العين: ضعف بصرها والمراد هاهنا: عشا البصيرة، (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) ولهذا قال: (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا) أي: هذا الذي تغافل عن الهدى نقيض له من الشياطين من يضله، ويهديه إلى صراط الجحيم فإذا وافى الله يوم القيامة يتبرم بالشيطان الذي وكل به، (قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) أي: فبئس القرين كنت لي في الدنيا .

والمراد بالمشرقين هنا هو ما بين المشرق والمغرب وإنما استعمل هاهنا تغليبا، كما يقال القمران، والعمران، والأبوان، والعسران قاله ابن جرير وغيره .

ثم قال تعالى: (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ) أي:لا يغني عنكم اجتماعكم في النار واشتراككم في العذاب الأليم .

وقوله: (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي: ليس ذلك إليك، إنما عليك البلاغ، وليس عليك هداهم، ولكن الله يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وهو الحكم العدل في ذلك .

ثم قال: (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) أي: لا بد أن ننتقم منهم ونعاقبهم، ولو ذهبت أنت، (أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) أي: نحن قادرون على هذا وعلى هذا ولم يقبض الله رسوله حتى أقر عينه من أعدائه، وحَكمه في نواصيهم، ومَلكه حصونهم .

وفي الحديث: « النجوم أَمَنَةٌ للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما تُوْعَدُ، وأنا أمَنَة لأصحابي، فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يوعدون وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون » رواه مسلم

ثم قال تعالى: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي: خذ بالقرآن المنـزل على قلبك، فإنه هو الحق، وما يهدي إليه هو الحق المفضي إلى صراط الله المستقيم، الموصل إلى جنات النعيم، والخير الدائم المقيم .

ثم قال: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) أي: لشرف لك ولقومك، وعن معاوية رضي الله عنه قال (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم فيه أحد إلا أكبه الله على وجهه ما أقاموا الدين) رواه البخاري

(وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) أي: عن هذا القرآن وكيف كنتم في العمل به والاستجابة له

وقوله: (وَسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) ؟ أي: جميع الرسل دعوا إلى ما دعوت الناس إليه من عبادة الله وحده لا شريك له، ونهوا عن عبادة الأصنام والأنداد .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47)

يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله موسى، عليه السلام، أنه ابتعثه إلى فرعون وملئه من الأمراء والوزراء والقادة، والأتباع والرعايا، من القبط وبني إسرائيل، يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وينهاهم عن عبادة ما سواه، وأنه بعث معه آيات عظاما، كيده وعصاه، وما أرسل معه من الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، ومن نقص الزروع والأنفس والثمرات، ومع هذا كله استكبروا عن اتباعها والانقياد لها، وكذبوها وسخروا منها، وضحكوا ممن جاءهم بها .

وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)

(وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا) ومع هذا ما رجعوا عن غيهم وضلالهم، وجهلهم وخبالهم وكلما جاءتهم آية من هذه الآيات يضرعون إلى موسى، عليه السلام، ويتلطفون له في العبارة بقولهم: (يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ) أي: العالم، وكان علماء زمانهم هم السحرة ولم يكن السحر عندهم في زمانهم مذموما، فليس هذا منهم على سبيل الانتقاص منهم؛ لأن الحال حال ضرورة منهم إليه لا تناسب ذلك، وإنما هو تعظيم في زعمهم، ففي كل مرة يَعِدُون موسى عليه السلام إن كشف عنهم هذا أن يؤمنوا ويرسلوا معه بني إسرائيل وفي كل مرة ينكثون ما عاهدوا عليه .

وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلآخِرِينَ (56)

يقول تعالى مخبرا عن فرعون وتمرده وعتوه وكفره وعناده: أنه جمع قومه، فنادى فيهم متبجحا مفتخرا بملك مصر وتصرفه فيها: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) ، قال قتادة قد كانت لهم جنان وأنهار ماء، (أَفَلا تُبْصِرُونَ) ؟ أي: أفلا ترون ما أنا فيه من العظمة والملك .

وقوله: (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ)

يعني فرعون عليه اللعنة أنه خير من موسى، عليه السلام، وقد كذب في قوله هذا كذبا بينا واضحا، فعليه لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة .

ويعني بقوله: (مهين) قال ابن جرير: يعني: لا ملك له ولا سلطان ولا مال

(وَلا يَكَادُ يُبِينُ)

وهذا الذي قاله فرعون لعنه الله كذب واختلاق، وإنما حمله على هذا الكفر والعناد، وهو ينظر إلى موسى، عليه السلام، بعين كافرة شقية، وقد كان موسى ، عليه السلام، من الجلالة والعظمة والبهاء في صورة يبهر أبصار ذوي الأبصار والألباب وقوله: (مهين) كذب، بل هو المهين الحقير خِلْقةً وخلقا ودينا وموسى عليه السلام هو الشريف الرئيس الصادق البار الراشد الكليم الوجيه وقوله: (وَلا يَكَادُ يُبِينُ) افتراء أيضا، فموسى قد سأل الله، عز وجل، أن يحل عقدة من لسانه ليفقهوا قوله ، وفرعون أراد الترويج على رعيته، فإنهم كانوا جهلة أغبياء، وهكذا كقوله: (فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) أي: ما يجعل في الأيدي من الحلي (أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) أي: يكتنفونه خدمة له ويشهدون بتصديقه، نظر إلى الشكل الظاهر، ولم يفهم السر المعنوي الذي هو أظهر مما نظر إليه، لو كان يعلم؛ ولهذا قال تعالى: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ) أي: استخف عقولهم، فدعاهم إلى الضلالة فاستجابوا له، (إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) .

قال الله تعالى: (فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ) أي: أغضبونا بأفعالهم

وعن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إذا رأيت الله عز وجل يعطي العبد ما شاء، وهو مقيم على معاصيه، فإنما ذلك استدراج منه له » ثم تلا (فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ) صححه الألباني

وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: وجدت النقمة مع الغفلة، يعني قوله: (فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ)

وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا ءألِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)

يقول تعالى مخبرا عن تعنت قريش في كفرهم وتعمدهم العناد والجدل: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا) ولما ضرب المشركون عيسى بن مريم مثلاً حين خاصموا محمداً صلى الله عليه وسلم وحاجوه بعبادة النصارى إياه (إِذَا قَوْمُكَ) المكذبون لك (مِنْهُ) أي: من أجل هذا المثل المضروب، (يَصِدُّونَ) أي: يلجون في خصومتهم لك، ويصيحون، ويزعمون أنهم قد غَلبوا في حُجتهم وأَفلجوا

وقوله: (وَقَالُوا ءألِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) وقال مشركوا قومك ءألهتنا التي نعبدها خير أم عيسى الذي يعبده قومه، ما ضربوا لك هذا المثل إلا مراء، بل هم قوم مخاصمون بالباطل، وإنما هم يعبدون الأصنام والأنداد، ولم يكونوا يعبدون المسيح حتى يوردوه، فتعين أن مقالتهم إنما كانت جدلا منهم، ليسوا يعتقدون صحتها .

وقوله: (إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ) يعني: عيسى عليه السلام، ما هو إلا عبد من عباد الله أنعم الله عليه بالنبوة والرسالة، (وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ) أي: دلالة وحجة وبرهانا على قدرتنا على ما نشاء

وقوله: (وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ) أي: بدلكم (مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ)أي: لجعلنا بدلكم ملائكة يخلفونكم في الأرض ويكونون في الأرض حتى نرسل إليهم ملائكة من جنسهم، وأما أنتم يا معشر البشر فلا تطيقون أن ترسل إليكم الملائكة، فمن رحمة الله بكم أن أرسل إليكم رسلاً من جنسكم تتمكنون من الأخذ عنهم.

وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (66) الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)

وقوله: (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) أي: آية للساعة خروج عيسى بن مريم قبل يوم القيامة

وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بنـزول عيسى بن مريم، عليه السلام قبل يوم القيامة إماما عادلا وحكما مقسطا .

وقوله: (فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا) أي: لا تشكوا فيها، إنها واقعة لا محالة، (واتبعون) أي: فيما أخبركم به (هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ) أي: عن اتباع الحق (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ) أي: بالنبوة (وَلأبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) أي: أبين لكم صوابه، فيزول عنكم بذلك اللبس، فجاء عيسى عليه السلام مكملاً ومتتماً لشريعة موسى عليه السلام ولأحكام التوراة وأتى ببعض التسهيلات الموجبة للانقياد له وقبول ما جاءهم به

وقوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ) أي: فيما أمركم به، (وأطيعون) ، فيما جئتكم به، (إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي: أنا وأنتم عبيد له، فقراء إليه، مشتركون في عبادته وحده لا شريك له، (هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي: هذا الذي جئتكم به هو الصراط المستقيم، وهو عبادة الرب، عز وجل، وحده

وقوله: (فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) أي: اختلفت الفرق وصاروا شيعا فيه، منهم من يقر بأنه عبد الله ورسوله وهو الحق ومنهم من يدعي أنه ولد الله، ومنهم من يقول: إنه الله تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا ولهذا قال: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ)

يقول تعالى هل ينتظر هؤلاء المشركون المكذبون للرسل (إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) ؟ أي: فإنها كائنة لا محالة وواقعة، وهؤلاء غافلون عنها غير مستعدين لها فإذا جاءت إنما تجيء وهم لا يشعرون بها، فحينئذ يندمون كل الندم، حيث لا ينفعهم ولا يدفع عنهم .

وقوله: (الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ) أي: كل صداقة وصحابة لغير الله فإنها تنقلب يوم القيامة عداوة إلا ما كان لله، عز وجل، فإنه دائم بدوامه .

وقوله: (يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) أي لا خوف يلحقكم فيما تستقبلونه من الأمور ولا حزن يصيبكم فيما مضى منها، وإذا انتفى المكروه من كل وجه ثبت المحبوب بالمطلوب .

ثم بشرهم فقال: (الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا) أي: إيمان شامل للتصديق بها والعمل بمقتضاها (وَكَانُوا مُسْلِمِينَ) أي: آمنت قلوبهم وبواطنهم، وانقادت لشرع الله جوارحهم وظواهرهم، فجمعوا بين الإتصاف بعمل الظاهر والباطن .

(ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) أي: يقال لهم: ادخلوا الجنة (أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ) أي: من كان على مثل عملكم من كل مقارن لكم من زوجة وولد وصاحب وغيرهم (تُحْبَرُونَ) أي: تنعمون وتسعدون ويأتيكم من فضل ربكم من الخيرات والسرور والأفراح واللذات ما لا تعبر الألسن عن وصفه .

(يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ) أي: تدور عليهم خُدامهم من الولدان المخلدين بطعامهم بأحسن الأواني وأفخرها وهي صحاف الذهب، والصِحاف جمع صَحفة، وهي القصعة الواسعة العريضة، وشرابهم بألطف الأواني وهي الأكواب من الذهب لا عُرى لها (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ) (وَتَلَذُّ الأعْيُنُ) أي: طيب الطعم والريح وحسن المنظر .

(وَأَنْتُمْ فِيهَا) أي: في الجنة (خَالِدُونَ) أي: لا تخرجون منها ولا تبغون عنها حولا ثم قيل لهم على وجه التفضل والامتنان: (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي: أعمالكم الصالحة كانت سببا لشمول رحمة الله إياكم، فإنه لا يدخل أحدًا عمله الجنة، ولكن بفضل من الله ورحمته وإنما الدرجات تفاوتها بحسب عمل الصالحات .

وقوله: (لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ) أي: من جميع الأنواع، (مِنْهَا تَأْكُلُونَ) أي: مهما اخترتم وأردتم ولما ذكر الله تعالى الطعام والشراب، ذكر بعده الفاكهة لتتم هذه النعمة والغبطة .

إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)

لما ذكر تعالى حال السعداء، ثنى بذكر الأشقياء، فقال: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ) أي: ساعة واحدة (وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) أي: آيسون من كل خير، (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) أي: بأعمالهم السيئة بعد قيام الحُجج عليهم وإرسال الرسل إليهم، فكذبوا وعصوا، فجوزوا بذلك جزاء وفاقا، وما ربك بظلام للعبيد .

(وَنَادَوْا يَا مَالِكُ) وهو: خازن النار

روى البخاري عن يعلى بن أمية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ)

أي: ليقبض أرواحنا فيريحنا مما نحن فيه ، فلما سألوا أن يموتوا أجابهم مالك، (قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ)

أي: لا خروج لكم منها ولا محيد لكم عنها

ثم ذكر سبب شقوتهم وهو مخالفتهم للحق ومعاندتهم له فقال: (لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ) أي: بيناه لكم ووضحناه وفسرناه، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) أي: ولكن كانت سجاياكم لا تقبله ولا تقبل عليه، وإنما تنقاد للباطل وتعظمه، وتصد عن الحق وتأباه، وتبغض أهله، فعودوا على أنفسكم بالملامة، واندموا حيث لا تنفعكم الندامة .

ثم قال تعالى: (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) قال مجاهد: أرادوا كيد شر فكدناهم

وقوله : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ) أي: سرهم وعلانيتهم، (بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) أي: نحن نعلم ما هم عليه، والملائكة أيضا يكتبون أعمالهم، صغيرها وكبيرها

قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)

يقول تعالى: (قُلْ) يا محمد: (إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) أي: لو فرض هذا لعبدته على ذلك لأني عبد من عبيده، مطيع لجميع ما يأمرني به، ليس عندي استكبار ولا إباء عن عبادته، فلو فرض كان هذا، ولكن هذا ممتنع في حقه تعالى، والشرط لا يلزم منه الوقوع ولا الجواز أيضا .

ولهذا قال: (سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي: تعالى وتقدس وتنـزه خالق الأشياء عن أن يكون له ولد، فإنه فرد أحد صمد، لا نظير له ولا كفء له، فلا ولد له ز

وقوله: (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا) أي: في جهلهم وضلالهم (وَيَلْعَبُوا) في دنياهم (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) وهو يوم القيامة، أي: فسوف يعلمون كيف يكون مصيرهم، ومآلهم، وحالهم في ذلك اليوم .

وقوله: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ) أي: هو إله من في السماء، وإله من في الأرض، يعبده أهلهما، وكلهم خاضعون له، أذلاء بين يديه، (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) .

(الْعَلِيمُ) بكل شيئ يعلم السر وأخفى لا يعزب عنه مثقال ذرة في العالم العلوي والسفلي ولا أصغر منها ولا أكبر .

(وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) تبارك بمعنى تعالى وتعاظم وكثر خيره واتسعت صفاته وعظم ملكه ولهذا ذكر ملكه للسموات والأرض وما بينهما فهو خالقهما ومالكهما والمتصرف فيهما، السالم من العيوب والنقائص؛ لأنه الرب العلي العظيم، المالك للأشياء، الذي بيده أزمة الأمور نقضا وإبراما، (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي: لا يجليها لوقتها إلا هو، (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي: فيجازي كلا بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر .

ثم قال تعالى: (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) أي: من الأصنام والأوثان (الشَّفَاعَةَ) أي: لا يقدرون على الشفاعة لهم، (إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) هذا استثناء منقطع، أي: لكن من شهد بالحق على بصيرة وعلم، فإنه تنفع شفاعته عنده بإذنه له .

ثم قال: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي: ولئن سألت هؤلاء المشركين بالله العابدين معه غيره (مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) أي: هم يعترفون أنه الخالق للأشياء جميعها، وحده لا شريك له في ذلك، ومع هذا يعبدون معه غيره، ممن لا يملك شيئا ولا يقدر على شيء، فهم في ذلك في غاية الجهل والسفاهة وسخافة العقل؛ ولهذا قال: (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي: فكيف ينصرفون عن عبادة الله والإخلاص له وحده .

وقوله: (وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) وقال محمد صلى الله عليه وسلم شاكياً إلى ربه قومه الذين كذبوه، يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون بك وبما أرسلتني به إليهم، فأمره الله بالإعراض عنهم وعن أذاهم فقال (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ) أي: عن المشركين (وَقُلْ سَلامٌ) أي: لا تجاوبهم بمثل ما يخاطبونك به من الكلام السيئ، ولكن تألفهم واصفح عنهم فعلا وقولا .

فامتثل صلى الله عليه وسلم لأمر ربه وتلقى ما يصدر إليه من قومه وغيرهم من الأذى بالعفو والصفح ولم يقابلهم عليه السلام إلا بالإحسان إليهم والخطاب الجميل .

فصلوات الله وسلامه على من خصه الله بالخلق العظيم الذي فضل به أهل الأرض والسماء وارتفع به أعلى من كواكب الجوزاء (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)، هذا تهديد منه تعالى لهم، ولهذا أحل بهم بأسه الذي لا يرد، وأعلى دينه وكلمته، وشرع بعد ذلك الجهاد، حتى دخل الناس في دين الله أفواجا، وانتشر الإسلام في المشارق والمغارب .

تم تفسير سورة الزخرف ولله الحمد والمنة

26 - 9 - 1438هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

9 + 2 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 124 الجزء الثالث ‌‌أهمية الغطاء على وجه المرأة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 123 الجزء الثالث ‌‌حكم قيادة المرأة للسيارة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر