تفسير سورة الشورى

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الأربعاء 4 شوال 1438هـ | عدد الزيارات: 1333 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

سورة الشورى مكية وآياتها 53

بسم الله الرحمن الرحيم

حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)

قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة

وقوله: (كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي: كما أنـزل إليك هذا القرآن، كذلك أنـزل الكتب والصحف على الأنبياء قبلك وقوله: (اللَّهُ الْعَزِيزُ) أي: في انتقامه، (الْحَكِيمُ) في أقواله وأفعاله

ففي الصحيحين عن عائشة واللفظ للبخاري : أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أحيانًا يأتيني مثل صَلْصَلَةِ الجَرَس، وهو أشده عَلَيّ فيفصم عني وقد وَعَيت ما قال وأحيانا يتمثل لي الملك رجُلا فيكلمني، فأعي ما يقول » قالت عائشة فلقد رأيته ينـزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصّد عرقا

وقوله تعالى: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ) أي: الجميع عبيد له وملك له، تحت قهره وتصريفه، (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) .

وقوله: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ) أي: تنشق كل واحدة فوق التي تليها على عظمها وكونها جماداً (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأرْضِ) .

وقوله: (أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) إعلام بذلك وتنويه به .

وقوله: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) يعني: المشركين، (اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) أي: شهيد على أعمالهم، يحصيها ويعدها عدًّا، وسيجزيهم بها أوفر الجزاء (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي: إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل .

وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (8)

يقول تعالى: وكما أوحينا إلى الأنبياء قبلك، (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) أي: واضحا جليا بينا، (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى) وهي مكة، (وَمَنْ حَوْلَهَا) أي: من سائر البلاد شرقا وغربا، وسميت مكة « أم القرى » ؛ لأنها أشرف من سائر البلاد، لأدلة كثيرة مذكورة في مواضعها ومن أوجز ذلك وأدله ما صححه الترمذي عن عبد الله بن عدي بن حمراء الزهري قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا على الحزورة فقال والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت) صححه الألباني

وقوله: (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) ، وهو يوم القيامة، يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد

وقوله: (لا رَيْبَ فِيهِ) أي: لا شك في وقوعه، وأنه كائن لا محالة وقوله: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) .

وقوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) أي: إما على الهداية أو على الضلالة، ولكنه تعالى فاوت بينهم، فهدى من يشاء إلى الحق، وأضل من يشاء عنه، وله الحكمة والحجة البالغة؛ ولهذا قال: (وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)

أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)

يقول تعالى منكرًا على المشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله، ومخبرا أنه هو الولي الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده، فإنه القادر على إحياء الموتى وهو على كل شيء قدير .

ثم قال: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) أي: مهما اختلفتم فيه من الأمور وهذا عام في جميع الأشياء، (فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) أي: هو الحاكم فيه بكتابه، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .

(ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي) أي: الحاكم في كل شيء، (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أي: أرجع في جميع الأمور

فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)

وقوله: (فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) أي: خالقهما وما بينهما، (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا) أي: من جنسكم وشكلكم، منة عليكم وتفضلا جعل من جنسكم ذكرا وأنثى، (وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْوَاجًا) أي: وخلق لكم من الأنعام ثمانية أزواج .

وقوله: (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) أي: يخلقكم فيه، أي: في ذلك الخلق على هذه الصفة لا يزال يذرؤكم فيه ذكورا وإناثا، خلقا من بعد خلق، وجيلا بعد جيل، ونسلا بعد نسل، من الناس والأنعام

(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) أي: ليس يشبهه تعالى ولا يماثله شيء من مخلوقاته لا في ذاته ولا في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله لأن أسماءه كلها حسنى وصفاته صفات كمال وعظمة وأفعاله تعالى أوجد بها المخلوقات العظيمة من غير مشارك فليس كمثله شيء لانفراده وتوحده بالكمال من كل وجه (وَهُوَ السَّمِيعُ) لجميع الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات (الْبَصِيرُ) يرى دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء، ويرى سريان القوت في أعضاء الحيوانات الصغيرة جداً، وسريان الماء في الأغصان الدقيقة وهذه الآية ونحوها دليل لمذاهب أهل السنة والجماعة من إثبات الصفات ونفي مماثلة المخلوقات، وفيها رد على المشبهة في قوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وعلى المعطلة في قوله (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) .

وقوله: (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) أي: المتصرف الحاكم فيهما، (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ) أي: يوسع على من يشاء، ويضيق على من يشاء، وله الحكمة والعدل التام، (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)

شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)

يقول تعالى لهذه الأمة: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) ، فذكر أول الرسل بعد آدم وهو نوح، عليه السلام وآخرهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر من بين ذلك من أولي العزم وهم: إبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم، عليهم السلام وهذه الآية انتظمت ذكر الخمسة والدين الذي جاء به الرسل كلهم هو: عبادة الله وحده لا شريك له وفي صحيح البخاري : « الْأَنْبِيَاء إخوة لِعَلَّات أمهاتهم شتى ودِينهم وَاحِد» ومعنى إخوة لعلات :هم الأبناء من أب واحد وأمهات مختلفة، والمراد : أن الأنبياء دينهم واحد وشرائعهم مختلفة أي: القدر المشترك بينهم هو عبادة الله وحده لا شريك له، وإن اختلفت شرائعهم ومناهجهم، ولهذا قال: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) أي: وصى الله سبحانه وتعالى جميع الأنبياء، عليهم السلام، بالائتلاف والجماعة، ونهاهم عن الافتراق والاختلاف .

وقوله: (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) أي: شق عليهم وأنكروا ما تدعوهم إليه يا محمد من التوحيد .

ثم قال: (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) أي: هو الذي يُقدّر الهداية لمن يستحقها، ويكتب الضلالة على من آثرها على طريق الرشد؛ ولهذا قال: (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ) أي: إنما كان مخالفتهم للحق بعد بلوغه إليهم، وقيام الحجة عليهم، وما حملهم على ذلك إلا البغيُ والعنادُ والمشاقة .

ثم قال الله تعالى: (وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي: لولا الكلمة السابقة من الله بإنظار العباد بإقامة حسابهم إلى يوم المعاد، لعجل لهم العقوبة في الدنيا سريعًا

وقوله: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ) يعني: الجيل المتأخر بعد القرن الأول المكذّب للحق (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) أي: ليسوا على يقين من أمرهم، وإنما هم مقلدون لآبائهم وأسلافهم، بلا دليل ولا بُرهان، وهم في حيرة من أمرهم، وشك مريب، وشقاق بعيد

فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)

اشتملت هذه الآية الكريمة على عشر كلمات مستقلات، كل منها منفصلة عن التي قبلها، لها حكم برأسها قالوا: ولا نظير لها سوى آية الكرسي، فإنها أيضا عشرة فصول كهذه .

قوله (فَلِذَلِكَ فَادْعُ) أي: فللذي أوحينا إليك من الدين الذي وصينا به جميع المرسلين قبلك أصحاب الشرائع الكبار المتبعة كأولي العزم وغيرهم، فادعُ الناس إليه

وقوله: (وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) أي: واستقم أنت ومن اتبعك على عبادة الله، كما أمركم الله عز وجل

وقوله: (وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) يعني: المشركين فيما اختلقوه، وكذبوه وافتروه من عبادة الأوثان

وقوله: (وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ) أي: صدقت بجميع الكتب المنـزلة من السماء على الأنبياء

وقوله: (وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ) أي: في الحكم كما أمرني الله

وقوله: (اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ) أي: هو المعبود، لا إله غيره، فنحن نقر بذلك اختيارا، وأنتم وإن لم تفعلوه اختيارا، فله يسجد من في العالمين طوعا واختيارا

وقوله: (لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ) أي: نحن برآء منكم .

وقوله: (لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ) أي: بعدما تبينت الحقائق واتضح الحق من الباطل والهدى من الضلال لم يبق للجدل والمنازعة محل لأن المقصود من الجدال إنما هو بيان الحق من الباطل ليهتدي الراشد ولتقوم الحجة على الغاوي، وليس المراد بهذا أن أهل الكتاب لا يجادلون

وقوله: (اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا) أي: يوم القيامة .

وقوله: (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي: المرجع والمآب يوم الحساب

وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18)

يقول تعالى متوعدا الذين يصدون عن سبيل الله من آمن به : (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ) أي: يجادلون المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله، ليصدوهم عما سلكوه من طريق الهدى، (حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي: باطلة عند الله، (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) أي: منه، (وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) أي: يوم القيامة

ثم قال: (اللَّهُ الَّذِي أَنـزلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) الله الذي أنزل القرآن وسائر الكتب المنـزلة بالصدق (والميزان) ، وهو: العدل .

وقوله: (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) فيه ترغيب فيها، وترهيب منها، وتزهيد في الدنيا

وقوله:(يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا)، يستعجل بمجيء الساعة الذين لا يؤمنون بها تهكما واستهزاء ، (وَالَّذِينَ ءامَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا) أي: خائفون وجلون من وقوعها (وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ) أي: كائنة لا محالة، فهم مستعدون لها عاملون من أجلها .ففي الصحيحين عن أنس واللفظ للبخاري: أن رجلا سأل النبي الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال:متى الساعة ؟ قال وماذا أعدت لها ؟ قال لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فقال أنت مع من أحببت .وقوله: (أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ) أي: يحاجّون في وجودها وينكرون وقوعها، (لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) أي: في جهل بين؛ لأن الذي خلق السماوات والأرض قادر على إحياء الموتى بطريق الأولى .

اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)

يقول تعالى مخبرا عن لطفه بخلقه في رزقه إياهم عن آخرهم، لا ينسى أحدا منهم في رزقه البرّ والفاجر .

وقوله: (يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ) أي: يوسع على من يشاء بحسب اقتضاء حكمته ولطفه، (وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) الذي له القوة كلها فلا حول ولا قوة لأحد من المخلوقين إلا به الذي دانت له جميع الأشياء فلا يعجزه شيء (الْعَزِيزُ) المنيع الذي لا يغلب

ثم قال: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ) أي: أجرها وثوابها فآمن بها وصدق وسعى لها سعيها (نـزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) أي: نقويه ونعينه على ما هو بصدده، ونكثر نماءه، ونجزيه بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى ما يشاء الله أضعافاً كثيرة ، وقوله (وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) أي: ومن كان إنما سعيه ليحصل له شيء من الدنيا، وليس له إلى الآخرة هِمَّة حَرَمه الله الآخرة .

والدنيا إن شاء أعطاه منها، وإن لم يشأ لم يحصل له لا هذه ولا هذه

روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « بشر هذه الأمة بالسَّنَاء والرفعة، والنصر والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا، لم يكن له في الآخرة من نصيب » صححه الذهبي

وقوله: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) أي: هم لا يتبعون ما شرع الله لك من الدين القويم، بل يتبعون ما شَرع لهم شياطينهم من الجن والإنس، من تحريم ما حَرّموا عليهم، من البَحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وتحليل الميتة والدم والقمار، إلى نحو ذلك من الضلالات والجهالة الباطلة، التي كانوا قد اخترعوها في جاهليتهم، من التحليل والتحريم، والعبادات الباطلة، والأقوال الفاسدة .

وفي الصحيحين واللفظ للبخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « رأيت عمرو بن عامر بن لُحَيّ الخزاعي يَجُر قُصْبَه في النار وكان أول من سيب السوائب» ، والسوائب جمع سائبة وهي الأنعام التي كانوا يسيبونها لآلهتهم، فلا يُحمل عليها شيء وكان هذا الرجل أحد ملوك خزاعة، وهو الذي حَمَل قريشا على عبادة الأصنام، لعنه الله وقبحه؛ ولهذا قال تعالى: (وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي: لعوجلوا بالعقوبة، لولا ما تقدم من الإنظار إلى يوم المعاد، (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي: شديد موجع في جهنم وبئس المصير

ثم قال تعالى: (تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا) أي: في عرصات القيامة، (وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ) أي: الذي يخافون منه واقع بهم لا محالة، هذا حالهم يوم معادهم، وهم في هذا الخوف والوجل، (وَالَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) فأين هذا من هذا: أين من هو في العَرَصَات في الذل والهوان والخوف المحقق عليه بظلمه، ممن هو في روضات الجنات، فيما يشاء من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومناظر ومناكح وملاذ، فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر .

ولهذا قال تعالى: (ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) أي: الفوز العظيم، والنعمة التامة السابغة الشاملة العامة

ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)

يقول تعالى لما ذكر روضات الجنة، لعباده الذين ءامنوا وعملوا الصالحات: (ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) أي: هذا حاصل لهم كائن لا محالة، ببشارة الله لهم به

وقوله: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين من كفار قريش: لا أسألكم على هذا البلاغ والنصح لكم مالا تعطونيه، وإنما أطلب منكم أن تكفوا شركم عني وتذروني أبلغ رسالات ربي، إن لم تنصروني فلا تؤذوني بما بيني وبينكم من القرابة

قوله (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً) من صلاة أو صوم أو حج أو إحسان إلى الخلق (نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا) بأن يشرح الله صدره وييسر أمره ويكون سبباً للتوفيق لعمل آخر ويزداد بها عمل المؤمن ويرتفع عند الله وعند خلقه ويحسن له الثواب العاجل والآجل (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) يغفر الذنوب العظيمة ولو بلغت ما بلغت عند التوبة منها ويشكر على العمل القليل بالأجر الكثير فبمغفرته يغفر الذنوب ويستر العيوب وبشكره يتقبل الحسنات ويضاعفها أضعافاً كثيرة .

وقوله: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ) أي: لو افتريت عليه كذبا كما يزعم هؤلاء الجاهلون (يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ) أي: لَطَبَعَ على قلبك وسلبك ما كان آتاك من القرآن .

وقوله: (وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ) ومن حكمته ورحمته وسنته الجارية أن يمحو الباطل ويزيله وإن كان له صولة في بعض الأوقات فإن عاقبته الاضمحلال

وقوله: (وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ) معطوف على (وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ) أي: يحققه ويثبته ويبينه ويوضحه بكلماته، أي: بحججه وبراهينه، (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) أي: بما تكنه الضمائر، وتنطوي عليه السرائر .

وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)

يقول تعالى ممتنا على عباده بقبول توبتهم إليه إذا تابوا ورجعوا إليه: أنه من كرمه وحلمه أنه يعفو ويصفح ، ويستر ويغفر .

وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه، من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح

وقوله: (وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ) أي: يقبل التوبة في المستقبل ويعفو عن السيئات في الماضي، (وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) أي: هو عالم بجميع ما فعلتم وصنعتم وقلتم، ومع هذا يتوب على من تاب إليه

وقوله: (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) أي: يستجيبون لربهم لما دعاهم إليه وينقادون له ويلبون دعوته لأن ما معهم من الإيمان والعمل الصالح يحملهم على ذلك، فإذا استجابوا له شكر الله لهم وهو الغفور الشكور (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) توفيقاً ونشاطاً على العمل ويزيدهم مضاعفة في الأجر زيادة عن ما تستحقه أعمالهم من الثواب والفوز العظيم

وقوله: (وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) لما ذكر المؤمنين وما لهم من الثواب الجزيل، ذكر الكافرين وما لهم عنده يوم القيامة من العذاب الشديد الموجع المؤلم يوم معادهم وحسابهم .

وقوله: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأرْضِ) أي: لو أعطاهم فوق حاجتهم من الرزق، لحملهم ذلك على البغي والطغيان من بعضهم على بعض، أشرا وبطرا .

وقوله: (وَلَكِنْ يُنـزلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) أي: ولكن يرزقهم من الرزق ما يختاره مما فيه صلاحهم، وهو أعلم بذلك فيغني من يستحق الغنى، ويفقر من يستحق الفقر

وقوله: (وَهُوَ الَّذِي يُنـزلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا) أي: من بعد إياس الناس من نـزول المطر، ينـزله عليهم في وقت حاجتهم وفقرهم إليه .

وقوله: (وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) أي: يعم بها الوجود على أهل ذلك القُطْر وتلك الناحية

(وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) أي: هو المتصرف لخلقه بما ينفعهم في دنياهم وأخراهم، وهو المحمود العاقبة في جميع ما يقدره ويفعله .

وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (31)

يقول تعالى: (وَمِنْ ءايَاتِهِ) الدالة على عظمته وقدرته العظيمة وسلطانه القاهر (خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا) أي: ما نشر في السماوات والأرض، (مِنْ دَابَّةٍ) أي من أصناف الدواب التي جعلها الله مصالح ومنافع لعباده (وهو) مع هذا كله (عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ) أي: يوم القيامة يجمع الأولين والآخرين وسائر الخلائق في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، فيحكم فيهم بحكمه العدل الحق

وقوله: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) أي: ما أصابكم أيها الناس من المصائب فهي بسبب ما قدمته أيديكم من السيئات (وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) أي: من السيئات، فلا يجازيكم عليها بل يعفو عنها، وفي الصحيحين واللفظ للبخاري : « ما يصيب المسلم من نصب ولا وَصَب ولا هم ولا حُزَن، ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه »

قوله (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ) أي معجزين قدرة الله عليكم بل أنتم عاجزون في الأرض ليس عندكم امتناع عما ينفذه الله فيكم (وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ) يتولاكم فتحصل لكم المنافع (وَلا نَصِيرٍ) يدفع عنكم المضار

وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)

يقول تعالى: ومن آياته الدالة على قدرته وسلطانه، تسخيره البحر لتجري فيه الفلك بأمره، وهي الجواري في البحر كالأعلام، أي: كالجبال

(إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ) أي: التي تسير بالسفن ، لو شاء لسكنها حتى لا تتحرك السفن، بل تظل راكدة لا تجيء ولا تذهب، بل واقفة على ظهره، أي: على وجه الماء (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍشكور) أي: إن في تسخيره البحر وإجرائه الهوى بقدر ما يحتاجون إليه لسيرهم، لدلالات على نعمه تعالى على خلقه (لِكُلِّ صَبَّارٍ) أي: في الشدائد والصبر نصف الإيمان، (شكور) في الرخاء والشكر نصف الإيمان

وقوله: (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا) أي: ولو شاء لأهلك السفن وغرقها بذنوب أهلها الذين هم راكبون عليها (وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) أي: من ذنوبهم ولو أخذهم بجميع ذنوبهم لأهلك كل من ركب البحر وقوله: (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) أي: لا محيد لهم عن بأسنا ونقمتنا، فإنهم مقهورون بقدرتنا

فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ ءامَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)

يقول تعالى محقرا بشأن الحياة الدنيا وزينتها، وما فيها من الزهرة والنعيم الفاني، بقوله: (فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أي: مهما حصلتم وجمعتم فلا تغتروا به، فإنما هو متاع الحياة الدنيا، وهي دار دنيئة فانية زائلة لا محالة، (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى) أي: وثواب الله خير من الدنيا، وهو باق سرمدي، فلا تقدموا الفاني على الباقي؛ ولهذا قال: (لِلَّذِينَ ءامَنُوا) أي: للذين صبروا على ترك الملاذ في الدنيا، (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي: ليعينهم على الصبر في أداء الواجبات وترك المحرمات

ثم قال: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ) والذين يجتنبون كبائر ما نهى الله عنه وما فحُش وقبُح من أنواع المعاصي، والفرق بين الكبائر والفواحش مع أن جميعهما كبائر أن الفواحش هي الذنوب الكبار التي في النفوس داع إليها كالزنا ونحوه، والكبائر ما ليس كذلك مثل قتل النفس بغير حق (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) أي: سجيتهم وخلقهم وطبعهم تقتضي الصفح والعفو عن الناس، ليس سجيتهم الانتقام من الناس

وفي صحيح البخاري: « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما انتقم لنفسه في شيء يؤتى إليه قط، حتى تنتهك حرمات الله فينتقم لله »

وقوله: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ) أي: اتبعوا رسله وأطاعوا أمره، واجتنبوا زجره، (وَأَقَامُوا الصَّلاةَ) وهي أعظم العبادات لله عز وجل، (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) أي: لا يبرمون أمرا حتى يتشاوروا فيه، ليتساعدوا بآرائهم مثل الحروب وما جرى مجراها، ولهذا كان عليه الصلاة والسلام، يشاورهم في الحروب ونحوها، ليطيب بذلك قلوبهم وهكذا لما حضرت عمر بن الخطاب رضي الله عنه الوفاة حين طعن، جعل الأمر بعده شورى في ستة نفر، وهم: عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنهم أجمعين، فاجتمع رأي الصحابة كلهم على تقديم عثمان عليهم، رضي الله عنهم، (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) وذلك بالإحسان إلى خلق الله، الأقرب إليهم منهم فالأقرب

وقوله: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) أي: فيهم قوة الانتصار ممن ظلمهم واعتدى عليهم، ليسوا بعاجزين ولا أذلة، بل يقدرون على الانتقام ممن بغى عليهم، وإن كانوا مع هذا إذا قدروا عفوا، ، مع قدرته على مؤاخذتهم ومقابلتهم على صنيعهم إليه، وكما عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولئك النفر الثمانين الذين قصدوه عام الحديبية، ونـزلوا من جبل التنعيم، فلما قدر عليهم مَنَّ عليهم مع قدرته على الانتقام

وفي الصحيحين واللفظ لمسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ( غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوة قِبَل نجد، فأدركنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في واد كثير العضاه (شجر فيه شوك)، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرة فعلق سيفه بغصن من أغصانها، قال: وتفرق الناس في الوادي يستظلون بالشجر، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن رجلا أتاني وأنا نائم، فأخذ السيف، فاستيقظت وهو قائم على رأسي، فلم أشعر إلا والسيف صلتا في يده، فقال لي: من يمنعك مني؟، قال: قلتُ: الله، ثم قال في الثانية: من يمنعك مني؟، قال: قلت: الله، فشام السيف (رده في غمده) فها هو ذا جالس، ثم لم يعرِض له رسول الله - صلى الله عليه وسلم

وكذلك عفا عن لبيد بن الأعصم ، الذي سحره، عليه السلام، ومع هذا لم يعرض له، ولا عاتبه، مع قدرته عليه وكذلك عفوه، عليه السلام، عن المرأة اليهودية التي أهدته شاة مسمومة يوم خيبر، والأحاديث في عفوه صلى الله عليه وسلم كثيرة

وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (43)

قوله تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) وجزاء سيئة المسيء عقوبته بسيئة مثلها من غير زيادة

فشرع العدل وهو القصاص، وندب إلى الفضل وهو العفو، ولهذا: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) أي: لا يضيع ذلك عند الله ففي الحديث: « وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا » رواه الترمذي وقال حسن صحيح وقوله: (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) أي: المعتدين، وهو المبتدئ بالسيئة

ثم قال: (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) أي: ليس عليهم جناح في الانتصار ممن ظلمهم

روى النسائي عن عروة قال: قالت عائشة، رضي الله عنها: ما علمتُ حتى دخلت عليَّ زينب بغير إذن وهي غضبى، ثم قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: حسبك إذا قلبت لك ابنة أبي بكر ذُرَيعَتَيهَا ثم أقبلت علي فأعرضت عنها، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: « دونك فانتصري » فأقبلت عليها حتى رأيتها وقد يبس ريقها في فمها، ما ترد علي شيئا فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه. صححه الألباني

وقوله: (إِنَّمَا السَّبِيلُ) أي: إنما الحرج والعنت (عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) أي: يبدءون الناس بالظلم كما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(المستبان ما قالا فعلى البادئ ما لم يَعْتَد المظلوم) أي:أن إثم السباب الواقع من اثنين مختص بالبادئ منهما كله إلا أن يتجاوز الثاني قدر الانتصار

(أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي: شديد موجع

روى الإمام أحمد عن أبي هريرة، رضي الله عنه أن رجلا شتم أبا بكر والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعجب ويتبسم، فلما أكثر رد عليه بعض قوله، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقام، فلحقه أبو بكر فقال: يا رسول الله إنه كان يشتمني وأنت جالس، فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت! قال: « إنه كان معك ملك يرد عنك، فلما رددت عليه بعض قوله حضر الشيطان، فلم أكن لأقعد مع الشيطان » ثم قال: « يا أبا بكر، ثلاث كلهن حق، ما من عبد ظُلم بمظلمة فيغضي عنها لله، إلا أعز الله بها نَصْرَه، وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة، إلا زاده الله بها كثرة، وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة، إلا زاده الله بها قلة » صححه الألباني

قوله: (وَلَمَنْ صَبَرَ) على ما يناله من أذى الخلق (وَغَفَرَ) لهم بأن سمح لهم عما صدر منهم (إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) أي: الأمور التي حث الله عليها وأكدها وأخبر أنه لا يلقاه إلا أهل الصبر والحظوظ العظيمة، ومن الأمور التي لا يوفق لها إلا أولوا العزائم والهمم وذو الألباب والبصائر فإن ترك الإنتصار للنفس بالقول أو الفعل من أشق شيء عليها والصبر على الأذى والصفح عنه ومغفرته ومقابلته بالإحسان أشق وأشق، ولكنه يسير على من يسره الله عليه وجاهد نفسه على الاتصاف به واستعان بالله على ذلك، ثم إذا ذاق العبد حلاوته ووجد آثاره تلقاه برحب الصدر وسعة الخلق والتلذذ فيه

وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44)

يقول تعالى مخبرا عن نفسه الكريمة: إنه ما شاء كان ولا راد له، وما لم يشأ لم يكن فلا موجد له وأنه من هداه فلا مُضِل له، ومن يضلل فلا هادي له، ثم قال مخبرا عن الظالمين، وهم المشركون بالله (لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ) أي: يوم القيامة يتمنون الرجعة إلى الدنيا، (يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ)

وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ ءامَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)

وقوله: (وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا) أي: على النار (خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ) أي: الذي قد اعتراهم بما أسلفوا من عصيان الله، (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) أي ينظرون إليها مُسَارقَة خوفا منها ورهبة، والذي يحذرون منه واقع بهم لا محالة، أجارنا الله من ذلك

(وَقَالَ الَّذِينَ ءامَنُوا) أي: يقولون يوم القيامة: (إِنَّ الْخَاسِرِينَ) أي: الخسارة الكبرى (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي: ذُهب بهم إلى النار فعدموا لذتهم في دار الأبد، وخسروا أنفسهم، وفرق بينهم وبين أصحابهم وأحبابهم وأهاليهم وقراباتهم، فخسروهم، (أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ) أي: دائم سرمدي أبدي، لا خروج لهم منها ولا محيد لهم عنها

وقوله: (وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي: ينقذونهم مما هم فيه من العذاب والنكال، (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) أي: ليس له خلاص

اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ47 فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنْسَانَ كَفُورٌ48

لما ذكر تعالى ما يكون في يوم القيامة من الأهوال والأمور العظام الهائلة حَذَّر منه وأمر بالاستعداد له، فقال: (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ) أي: إذا أمر بكونه فإنه كلمح البصر يكون، وليس له دافع ولا مانع، فأمر الله بعد الكاف والنون الذي يقول للشيء كن فيكون

وقوله: (مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) أي: ليس لكم حصن تتحصنون فيه، ولا مكان يستركم وتتنكرون فيه، فتغيبون عن بصره، تبارك وتعالى، بل هو محيط بكم بعلمه وبصره وقدرته، فلا ملجأ منه إلا إلي

وقوله: (فَإِنْ أَعْرَضُوا) يعني: المشركين (فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) أي: لست عليهم بمصيطر قال:(إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ) أي: إنما كلفناك أن تبلغهم رسالة الله إليهم

ثم قال تعالى: (وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا) أي: إذا أصابه رخاء ونعمة فرح بذلك، (وَإِنْ تُصِبْهُمْ) يعني الناس (سيئة) أي: جدب ونقمة وبلاء وشدة، (فَإِنَّ الإنْسَانَ كَفُورٌ) أي: يجحد ما تقدم من النعمة ولا يعرف إلا الساعة الراهنة، فإن أصابته نعمة أشر وبطر، وإن أصابته محنة يئس وقنط، كما روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أُرِيتُ النارَ؛ فإذا أكثرُ أهلِها النساء؛ يكْفرن! قيل: أيَكْفُرْنَ بالله؟ قال: يَكْفُرْن العَشِير ويَكْفُرْن الإحْسان؛ لو أحْسَنْتَ إلى إحْداهُنَّ الدهرَ، ثم رأت منك شيئاً؛ قالت ما رأيتُ منك خيراً قط) وهذا حال أكثر الناس إلا من هداه الله وألهمه رشده، وكان من الذين ءامنوا وعملوا الصالحات،فعن صهيب رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذاك لأحد إلا المؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، » رواه مسلم.

لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)

يخبر تعالى أنه خالق السموات والأرض ومالكهما والمتصرف فيهما، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، ولا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، وأنه يخلق ما يشاء، و (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا) أي: يرزقه البنات فقط، (وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ) أي: يرزقه البنين فقط، (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا) أي: ويعطي من يشاء من الناس الزوجين الذكر والأنثى، أي: من هذا وهذا، (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا) أي: لا يولد له، فجعل الناس أربعة أقسام، منهم من يعطيه البنات، ومنهم من يعطيه البنين، ومنهم من يعطيه من النوعين ذكورا وإناثا، ومنهم من يمنعه هذا وهذا، فيجعله عقيما لا نسل له ولا يولد له، (إِنَّهُ عَلِيمٌ) أي: بمن يستحق كل قسم من هذه الأقسام، (قَدِيرٌ) أي: على من يشاء، من تفاوت الناس في ذلك

وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)

هذه مقامات الوحي بالنسبة إلى جناب الله، عز وجل، وهو أنه تعالى يلقي الوحي في قلب الرسول من غير إرسال ملك ولا مخاطبة منه شفاها، كما جاء في صحيح ابن حبان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إن رُوح القُدُس نفث في روعي: أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب » حسنه الألباني

وقوله: (أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) كما كلم موسى، عليه السلام، فإنه سأل الرؤية بعد التكليم، فحجب عنها

وقوله: (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ) كما ينـزل جبريل عليه السلام من الملائكة على الأنبياء، عليهم السلام، (إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) ، فهو علي عليم خبير حكيم

وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ (53)

وقوله (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) يعني: القرآن، (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ) أي: على التفصيل الذي شرع لك في القرآن، (وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ) أي: القرآن (نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) ،

وقوله: (وَإِنَّكَ) أي: يا محمد (لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، وهو الخُلق القويم ثم فسره بقوله: (صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي) أي: شرْعه الذي أمر به الله، (الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) أي: ربهما ومالكهما، والمتصرف فيهما، الحاكم الذي لا معقب لحكمه، (أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ) ، أي: ترجع جميع أمور الخير والشر فيجازي كلاً بعمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر

تم تفسير سورة الشورى ولله الحمد والمنة.

1438/10/4 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

1 + 1 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر