تفسير سورة ص

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الإثنين 2 ربيع الأول 1439هـ | عدد الزيارات: 1376 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

سورة ص مكية وآياتها 88

بسم الله الرحمن الرحيم

ص والقرآن ذي الذكر (1) بل الذين كفروا في عزة وشقاق (2) كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص (3)

الكلام على الحروف المقطعة قد تقدم بما أغنى عن إعادته ها هنا

وقوله: (والقرآن ذي الذكر) أي:والقرآن المشتمل على ما فيه ذكر للعباد ونفع لهم في المعاش والمعاد، ففيه تذكير للعباد بكل ما تحتاجون إليه من العلم بأسماء الله وأفعاله ومن العلم بأحكام الله الشرعية ومن العلم بأحكام المعاد والجزاء، وهنا لا يحتاج إلى ذكر المقسم عليه فإن حقيقة الأمر أن المقسم به وعليه شيء واحد وهو هذا القرآن الموصوف بهذا الوصف الجليل، فإذا كان القرآن بهذا الوصف علم أن ضرورة العباد إليه فوق كل ضرورة وكان الواجب عليهم تلقيه بالإيمان والتصديق والإقبال على استخراج ما يتذكر به منه .

وقوله (بل الذين كفروا في عزة وشقاق) أي:إن في هذا القرآن لذكرا لمن يتذكر، وعبرة لمن يعتبر وإنما لم ينتفع به الكافرون لأنهم (في عزة) أي:استكبار عنه (وشقاق) أي:مخالفة له ومعاندة ومفارقة .

ثم خوفهم ما أهلك به الأمم المكذبة قبلهم بسبب مخالفتهم للرسل وتكذيبهم الكتب المنـزلة من السماء فقال: (كم أهلكنا من قبلهم من قرن) أي:من أمة مكذبة، (فنادوا ولات حين مناص) أي: حين جاءهم العذاب استغاثوا وجأروا إلى الله وليس ذلك بمُجد عنهم شيئا .

وهذه الكلمة وهي «لات» هي «لا» التي للنفي، زيدت معها «التاء» كما تزاد في «ثم» فيقولون: «ثمت» ، و «رب» فيقولون: «ربت» وهي مفصولة والوقف عليها، وأهل اللغة يقولون: النوص:التأخر، والبوص: التقدم ولهذا قال تعالى: (ولات حين مناص) أي:ليس الحين حين فرار ولا ذهاب .

وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب (4) أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب (5) وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد (6) ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق (7) أءنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب (8) أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب (9) أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب (10) جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب (11)

يقول تعالى مخبرا عن المشركين في تعجبهم من بعثة الرسول بَشرا، فقال: (وعجبوا أن جاءهم منذر منهم) أي:بشر مثلهم، (وقال الكافرون هذا ساحر كذاب * أجعل الآلهة إلها واحدا) أي:أزعم أن المعبود واحد لا إله إلا هو؟! أنكر المشركون ذلك - قبحهم الله تعالى- وتعجبوا من ترك الشرك بالله، فإنهم كانوا قد تلقوا عن آبائهم عبادة الأوثان وأشربته قلوبهم فلما دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خلع ذلك من قلوبهم وإفراد الله بالوحدانية أعظموا ذلك وتعجبوا وقالوا: (أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب * وانطلق الملأ منهم) وهم سادتهم ورؤساؤهم وكبراؤهم قائلين: (أن امشوا) أي:استمروا على دينكم (واصبروا على آلهتكم) ولا تستجيبوا لما يدعوكم إليه محمد من التوحيد .

وقوله: (إن هذا لشيء يراد) إن هذا الذي يدعونا إليه محمد صلى الله عليه وسلم من التوحيد لشيء يريد به الشرف عليكم والاستعلاء، وأن يكون له منكم أتباع ولسنا مجيبيه إليه .

وقولهم: (ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة) أي:ما سمعنا بهذا الذي يدعونا إليه محمد من التوحيد (في الملة الآخرة) أي في الوقت الأخير، فلا أدركنا عليه آباءنا ولا آباؤنا أدركوا آباءهم عليه .

(إن هذا إلا اختلاق) اختلقه وكذب افتراه

وقولهم: (أءنزل عليه الذكر من بيننا) يعني:أنهم يستبعدون تخصيصه بإنـزال القرآن عليه من بينهم كلهم ولهذا لما قالوا هذا الذي دل على جهلهم وقلة عقلهم في استبعادهم إنـزال القرآن على الرسول من بينهم، قال الله تعالى: (بل لمَّا يذوقوا عذاب) أي:إنما يقولون هذا لأنهم ما ذاقوا إلى حين قولهم ذلك عذاب الله ونقمته سيعلمون غب ما قالوا، وما كذبوا به يوم يدعون إلى نار جهنم دعا .

ثم قال مبينا أنه المتصرف في ملكه الفعال لما يشاء الذي يعطي من يشاء ما يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء ويهدي من يشاء ويضل من يشاء وينـزل الروح من أمره على من يشاء من عباده ويختم على قلب من يشاء، فلا يهديه أحد من بعد الله وإن العباد لا يملكون شيئا من الأمر وليس إليهم من التصرف في الملك ولا مثقال ذرة وما يملكون من قطمير؛ ولهذا قال تعالى منكرا عليهم: (أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب) أي:العزيز الذي لا يرام جنابه الوهاب الذي يعطي ما يريد لمن يريد .

وقوله: (أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب) الموصولة لهم إلى السماء فيقطعوا الرحمة عن رسول الله .

ثم قال: (جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب) أي:هؤلاء الجند المكذبون الذين هم في عزة وشقاق سيهزمون ويغلبون ويكبتون كما كبت الذين من قبلهم من الأحزاب المكذبين .

كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد (12) وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب (13) إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب (14) وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق (15) وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب (16)

يقول تعالى مخبرا عن هؤلاء في القرون الماضية، وما حل بهم من العذاب والنكال والنقمات في مخالفة الرسل وتكذيب الأنبياء وقد تقدمت قصصهم مبسوطة في أماكن متعددة

وقوله: (أولئك الأحزاب) أي:كانوا أكثر منكم وأشد قوة وأكثر أموالا وأولادا فما دافع ذلك عنهم من عذاب الله من شيء لما جاء أمر ربك ولهذا قال: (إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب) فجعل علة هلاكهم هو تكذيبهم بالرسل فليحذر المخاطَبون من ذلك أشد الحذر .

وقوله: (وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق) أي: من رجوع ورد، تهلكهم وتستأصلهم، إن أقاموا على ما هم عليه .

وقوله: (وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب) هذا إنكار من الله على المشركين في دعائهم على أنفسهم بتعجيل ما قسم لهم من العذاب .

اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب (17) إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق (18) والطير محشورة كل له أواب (19) وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب (20)

ولما كان هذا الكلام منهم على وجه الاستهزاء والاستبعاد قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم (اصبر على ما يقولون) كما صبر من قبلك من الرسل فإن قولهم لا يضر الحق شيئاً، ولا يضرونك في شيء، وإنما يضرون أنفسهم (واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب) يذكر تعالى عن عبده ورسوله داود عليه السلام:أنه كان ذا أيد والأيد:القوة في العلم والعمل، فقد أعطي داود عليه السلام قوة في العبادة وفقها في الإسلام، فقد كان يقوم ثلث الليل ويصوم نصف الدهر .

وهذا ثابت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أحب الصلاة إلى الله صلاة داود وأحب الصيام إلى الله صيام داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه وكان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى» وإنه كان أوابا، وهو الرجاع إلى الله عز وجل في جميع أموره وشئونه.

وقوله: (إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق) أي:إنه تعالى سخر الجبال تسبح معه عند إشراق الشمس وآخر النهار وكذلك كانت الطير تُسبح بتسبيحه وتُرَجع بترجيعه إذا مر به الطير وهو سابح في الهواء فسمعه وهو يترنم بقراءة الزبور لا تستطيع الذهاب بل تقف في الهواء وتسبح معه وتجيبه الجبال الشامخات تُرَجع معه وتسبح تبعا له .

ولهذا قال: (والطير محشورة) أي:محبوسة في الهواء، (كل له أواب) أي:مطيع يسبح تبعا له

وقوله (وشددنا ملكه) أي:جعلنا له ملكا كاملا من جميع ما يحتاج إليه الملوك

وقوله: (وآتيناه الحكمة) النبوة والعلم العظيم

وقوله: (وفصل الخطاب) حسم الخصومات بين الناس

وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب (21) إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط (22) إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب (23) قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب (24) فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب (25)

وقوله: (ففزع منهم) إنما كان ذلك لأنه كان في محرابه، وهو مكان عبادته، فلم يشعر إلا بشخصين قد تسورا عليه المحراب، ولم يدخلوا عليه من باب، فلما دخلوا عليه بهذه الصورة فزع منهم وخاف، فقالوا له نحن خصمان

وقوله: (وعزني في الخطاب) أي:غلبني يقال:عز يعز:إذا قهر وغلب

وقوله: (وظن داود) أي: علم وتيقن حين حكم بينهما، (أنما فتناه) أي: اختبرناه ودبرنا عليه هذه القضية ليتنبه (فاستغفر ربه) لما صدر منه (وخر راكعا) أي: ساجدا (وأناب) لله تعالى بالتوبة النصوح والعبادة (فغفرنا له ذلك) الذي صدر منه

ويشرع السجود بعد هذه الآية لفعل النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري

وقوله: (وإن له عندنا لزلفى) أي: منزلة عالية وقربة منا (وحسن مآب) أي: مرجع

يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب (26)

(يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض) ينفذ فيها القضايا الدينية والدنيوية (فاحكم بين الناس بالحق) أي: العدل، وهذا لا يُتمكن منه إلا بعلم بالواجب وعلم بالواقع وقدرة على تنفيذ الحق (ولا تتبع الهوى) فتميل مع أحد لقرابة أو صداقة أو محبة أو بغض للآخر (فيضلك) الهوى (عن سبيل الله) ويخرجك من الصراط المستقيم (إن الذين يضلون عن سبيل الله) خصوصاً المتعمدين منهم (لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) أي: بغفلتهم عن يوم الجزاء، فلو ذكروه ووقع خوفه في قلوبهم لم يميلوا مع الهوى الفاتن .

وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار (27) أم نجعل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار(28) كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب(29)

يخبر تعالى أنه ما خلق الخلق عبثا وإنما خلقهم ليعبدوه ويوحدوه ثم يجمعهم ليوم الجمع فيثيب المطيع ويعذب الكافر ولهذا قال تعالى: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا) أي:الذين لا يرون بعثا ولا معادا وإنما يعتقدون هذه الدار فقط، (فويل للذين كفروا من النار) أي:ويل لهم يوم معادهم ونشورهم من النار المعدة لهم .

ثم بيَّن تعالى أنه من عدله وحكمته لا يساوي بين المؤمن والكافر فقال: (أم نجعل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) أي:لا نفعل ذلك ولا يستوون عند الله، وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من دار أخرى يثاب فيها هذا المطيع ويعاقب فيها هذا الفاجر وهذا الإرشاد يدل العقول السليمة والفطر المستقيمة على أنه لا بد من معاد وجزاء فإنا نرى الظالم الباغي يزداد ماله وولده ونعيمه ويموت ونرى المطيع المظلوم يموت بكمده فلا بد في حكمة الحكيم العليم العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة من إنصاف هذا من هذا وإذا لم يقع هذا في هذه الدار فتعين أن هناك دارا أخرى لهذا الجزاء والمواساة ولما كان القرآن يرشد إلى المقاصد الصحيحة والمآخذ العقلية الصريحة، قال: (كتاب أنـزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته) هذه الحكمة من إنزاله ليتدبر الناس آياته فيستخرجوا علمها ويتأملوا أسرارها وحكمها، فإنه بالتدبر فيه والتأمل لمعانيه وإعادة الفكر فيها مرة بعد مرة تُدرك بركته وخيره، وهذا يدل على الحث على تدبر القرآن وأنه من أفضل الأعمال وأن القراءة المشتملة على التدبر أفضل من سرعة التلاوة التي لا يحصل بها هذا المقصود (وليتذكر أولو الألباب) جمع لب، وهو العقل، يتذكرون بتدبرهم لها كل علم ومطلوب فدل هذا على أنه بحسب لب الإنسان وعقله يحصل له التذكر والانتفاع بهذا الكتاب .

ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب (30) إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد (31) فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب (32) ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق (33)

يقول تعالى مخبراً أنه وهب لداود سليمان، أي: نبيا وإلا فقد كان له بنون غيره، فإنه قد كان عنده مائة امرأة حرائر .

وقوله: (نعم العبد) سليمان عليه السلام فإنه اتصف بما يوجب المدح وهو (إنه أواب) أي: رجاع إلى الله في جميع أحواله بالتأله والإنابة والمحبة والذكر والدعاء والتضرع والاجتهاد في مرضاة الله وتقديمها على كل شيء .

وقوله: (إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد) أي:إذ عرض على سليمان في حال مملكته وسلطانه الخيل الصافنات الجياد

الصافنات: وهو رفع إحدى قوائمها عند الوقوف وكان لها منظر رائق وجمال معجب

الجياد: السراع

وقوله: (فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب) ذكر غير واحد من السلف والمفسرين أنه اشتغل بعرضها حتى فات وقت صلاة العصر والذي يقطع به أنه لم يتركها عمدا بل نسيانا .

(ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق) (ردوها علي) فردوها، (فطفق) أي: شرع فيها، (مسحاً بالسوق والأعناق) أنه لما أجرى السباق وردت إليه الخيل جعل يمسح أعناقها وسوقها متحبباً إليها لأنها أهم عدة للجهاد .

ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب (34) قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب (35) فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب (36) والشياطين كل بناء وغواص (37) وآخرين مقرنين في الأصفاد (38) هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب (39) وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب (40)

يقول تعالى: (ولقد فتنا سليمان) أي:ابتليناه واختبرناه بذهاب ملكه وانفصاله عنه، (وألقينا على كرسيه جسدا) شيطانا (ثم أناب) سليمان إلى الله تعالى وتاب .

(قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب) سأل الله تعالى ملكا لا يكون لأحد من بعده من البشر مثله .

فاستجاب الله له فقال تعالى (فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب) أي:حيث أراد من البلاد .

وقوله: (والشياطين كل بناء وغواص) أي:منهم من هو مستعمل في الأبنية الهائلة من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات إلى غير ذلك من الأعمال الشاقة التي لا يقدر عليها البشر وطائفة غواصون في البحار يستخرجون مما فيها من اللآلئ والجواهر والأشياء النفيسة التي لا توجد إلا فيها (وآخرين مقرنين في الأصفاد) أي:موثقون في الأغلال والأكبال ممن قد تمرد وعصى وامتنع من العمل وأبى فأساء في صنيعه واعتدى .

وقوله: (هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب) أي:هذا الذي أعطيناك من الملك التام والسلطان الكامل كما سألتنا فأعط من شئت واحرم من شئت، لا حساب عليك، أي:مهما فعلت فهو جائز لك احكم بما شئت فهو صواب وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خير بين أن يكون عبدا رسولا - وهو الذي يفعل ما يؤمر به وإنما هو قاسم يقسم بين الناس ما أمره الله به- وبين أن يكون ملكا نبيا يعطي من يشاء ويمنع من يشاء بلا حساب ولا جناح، اختار المنـزلة الأولى بعد ما استشار جبريل فقال له:تواضع فاختار المنـزلة الأولى لأنها أرفع قدرا عند الله وأعلى منـزلة في المعاد وإن كانت المنـزلة الثانية وهي النبوة مع الملك عظيمة أيضا في الدنيا والآخرة ولهذا لما ذكر تبارك وتعالى ما أعطى سليمان في الدنيا نبه على أنه ذو حظ عظيم عند الله يوم القيامة أيضا، فقال: (وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب) أي:في الدار الآخرة .

واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب (41) اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب (42) ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب (43) وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب (44)

(واذكر) في هذا الكتاب (عبدنا أيوب) بأحسن الذكر وأثن عليه بأحسن الثناء حين أصابه الضر فصبر على ضره فلم يشتك لغير ربه ولا لجأ إلا إليه، فلما طال المطال واشتد الحال وانتهى القدر المقدور وتم الأجل المقدر تضرع إلى رب العالمين وإله المرسلين (إذ نادى ربه) داعياً شاكياً إليه لا إلى غيره فقال (أني مسني الشيطان بنصب وعذاب) أي: بأمر مشق متعب معذب، نسب هذا للشيطان لكونه سبباً وتأدب مع الله تعالى .

فعند ذلك استجاب له أرحم الراحمين فقال له (اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب) أي: اضرب برجلك الأرض ينبع لك منها ماء بارد فاشرب منه واغتسل فيذهب عنك الضر والأذى .

ففعل ذلك فذهب عنه الضر وشفاه الله تعالى

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينما أيوب يغتسل عُرياناً خرَّ عليه ِرجْلُ جرادٍ من ذهب فجعل أيوب يحثو في ثوبه فناداه ربه يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال:بلى يا رب ولكن لا غنى بي عن بركتك» رواه البخاري

ولهذا قال تعالى: (ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب) أي: أن الله تعالى حفظ لأيوب أهله وزاده ضعفهم، كل ذلك رحمة منا به وإكراماً له على صبره، وعبرة وذكرى لأصحاب العقول السليمة ليعلموا أن عاقبة الصبر الفرج وكشف الضر .

وقوله: (رحمة منا) أي:به على صبره وثباته وإنابته وتواضعه واستكانته (وذكرى لأولي الألباب) أي:لذوي العقول ليعلموا أن عاقبة الصبر الفرج والمخرج والراحة .

وقوله: (وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث) وذلك أن أيوب عليه السلام كان قد غضب على زوجته ووجد عليها في أمر فعلته، فلامها على ذلك وحلف إن شفاه الله ليضربنها مائة جلدة، فلما شفاه الله وعافاه ما كان جزاؤها مع هذه الخدمة التامة والرحمة والشفقة والإحسان أن تقابل بالضرب فأفتاه الله عز وجل أن يضربها بضِغث فيه مائة شمراخ ضربة واحدة، فيبر في يمينه ويخرج من حنثه فوفى بنذره وهذا من الفرج والمخرج لمن اتقى الله وأناب إليه ولهذا قال تعالى: (إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب) أثنى الله تعالى عليه ومدحه بأنه (نعم العبد إنه أواب) أي:رجاع منيب .

واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار (45) إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار (46) وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار (47) واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار (48)

يقول تعالى: ( وَاذْكُرْ عِبَادَنَا ) الذين أخلصوا لنا العبادة ذكرا حسنا، ( إِبْرَاهِيمَ ) الخليل ( و ) ابنه ( إِسْحَاقَ وَ ) ابن ابنه ( يَعْقُوبَ أُولِي الأيْدِي ) أي: القوة على عبادة اللّه تعالى ( وَالأبْصَار ) أي: البصيرة في دين اللّه فوصفهم بالعلم النافع، والعمل الصالح الكثير .

( إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ) عظيمة، وخصيصة جسيمة، وهي: ( ذِكْرَى الدَّارِ ) جعلنا ذكرى الدار الآخرة في قلوبهم، والعمل لها صفوة وقتهم، والإخلاص والمراقبة للّه وصفهم الدائم، وجعلناهم ذكرى الدار يتذكر بأحوالهم المتذكر، ويعتبر بهم المعتبر، ويُذكرون بأحسن الذكر .

وقوله: (وإنهم عندنا لمن المصطَفين الأخيار) أي:لمن المختارين المجتبين الأخيار فهم أخيار مختارون .

وقوله: (واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار)

واذكر أيها الرسول عبادنا اسماعيل واليسع وذا الكفل بأحسن الذكر إن كلاً منهم من الأخيار الذين اختارهم الله من الخلق واختار لهم أكمل الأحوال والصفات .

هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب (49) جنات عدن مفتحة لهم الأبواب (50) متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب (51) وعندهم قاصرات الطرف أتراب (52) هذا ما توعدون ليوم الحساب (53) إن هذا لرزقنا ما له من نفاد (54)

(هذا ذكر) هذا القرآن ذكر وشرف لك أيها الرسول ولقومك وإن لأهل تقوى الله وطاعته (لحسن مآب) وهو:المرجع والمنقلب ثم فسره بقوله: (جنات عدن) أي: جنات إقامة لا يبغي صاحبها بدلاً منها من كمالها وتمام نعيمها وليسوا بخارجين منها ولا بمخرجين

(مفتحة لهم الأبواب) أي مفتحة لأجلهم أبواب منازلها ومساكنها لا يحتاجون أن يفتحوها بل هم مخدومون

وقوله: (متكئين فيها) على الأرئك المزينات والمجالس المزخرفات (يدعون فيها) أي: يأمرون خدامهم أن يأتوا (بفاكهة كثيرة) أي: من كل ما تشتهيه نفوسهم وتلذ أعينهم (وشراب) أي:من أي أنواعه شاءوا أتتهم به الخدام .

(وعندهم قاصرات الطرف) أي:على أزواجهن (أتراب) أي: على سن واحد أعدل سن الشباب وأحسنه وألذه .

(هذا ما توعدون ليوم الحساب) أي:هذا الذي ذكرنا من صفة الجنة التي وعدها لعباده المتقين التي يصيرون إليها بعد نشورهم وقيامهم من قبورهم وسلامتهم من النار، جزاء على أعمالهم الصالحة .

ثم أخبر عن الجنة أنه لا فراغ لها ولا انقضاء ولا زوال ولا انتهاء فقال: (إن هذا لرزقنا ما له من نفاد) .

هذا وإن للطاغين لشر مآب (55) جهنم يصلونها فبئس المهاد (56) هذا فليذوقوه حميم وغساق (57) وآخر من شكله أزواج (58) هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار (59) قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار (60) قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار (61) وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار (62) أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار (63) إن ذلك لحق تخاصم أهل النار (64)

لما ذكر تعالى مآل السعداء ثنى بذكر حال الأشقياء ومرجعهم ومآبهم في دار معادهم وحسابهم فقال: (هذا وإن للطاغين) وهم:الخارجون عن طاعة الله المخالفون لرسل الله (لشر مآب) أي:لسوء منقلب ومرجع ثم فسره بقوله: (جهنم يصلونها) أي:يدخلونها فتغمرهم من جميع جوانبهم (فبئس المهاد * هذا فليذوقوه حميم وغساق) أما الحميم فهو:الحار الذي قد انتهى حره وأما الغساق فهو أكره ما يكون من الشراب من قيح وصديد مر المذاق كريه الرائحة .

(وآخر من شكله) أي من نوعه (أزواج) أي:عدة أصناف من أصناف العذاب يعذبون بها .

وقوله: (هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار) هذا إخبار عن قول أهل النار بعضهم لبعض ، (هذا فوج مقتحم) أي:داخل معكم (لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار) أي لأنهم من أهل جهنم (قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم) أي:فيقول لهم الداخلون: (بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا) أي:أنتم دعوتمونا إلى ما أفضى بنا إلى هذا المصير (فبئس القرار) أي:فبئس المنـزل والمستقر والمصير (قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار) .

(وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار * أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار) هذا إخبار عن الكفار في النار أنهم يفقدون رجالا كانوا يعتقدون أنهم على الضلالة وهم المؤمنون في زعمهم قالوا:ما لنا لا نراهم معنا في النار؟

(أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار) أي:في الدنيا (أم زاغت عنهم الأبصار) يسلون أنفسهم بالمحال يقولون:أو لعلهم معنا في جهنم ولكن لم يقع بصرنا عليهم فعند ذلك يعرفون أنهم في الدرجات العاليات .

وقوله: (إن ذلك لحق تخاصم أهل النار) أي:إن هذا الذي أخبرناك به يا محمد من تخاصم أهل النار بعضهم في بعض ولعن بعضهم لبعض لحق لا مرية فيه ولا شك .

قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار (65) رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار (66) قل هو نبأ عظيم (67) أنتم عنه معرضون (68) ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون (69) إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين (70)

يقول تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار بالله المشركين به المكذبين لرسوله:إنما أنا منذر لست كما تزعمون (وما من إله إلا الله الواحد القهار) أي:هو وحده قد قهر كل شيء وغلبه (رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار) أي:هو مالك جميع ذلك ومتصرف فيه (العزيز الغفار) أي:غفار مع عزته وعظمته

(قل هو نبأ عظيم) أي:خبر عظيم وشأن بليغ وهو إرسال الله إياي إليكم (أنتم عنه معرضون) أي:غافلون

وقوله: (ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون) أي:لولا الوحي من أين كنت أدري باختلاف الملأ الأعلى؟ يعني:في شأن آدم وامتناع إبليس من السجود له، ومحاجته ربه في تفضيله عليه .

(إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي: ظاهر النذارة، فلا نذير أبلغ من نذارته صلى اللّه عليه وسلم .

إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين (71) فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (72) فسجد الملائكة كلهم أجمعون (73) إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين (74) قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين (75) قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين (76) قال فاخرج منها فإنك رجيم (77) وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين (78) قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون (79) قال فإنك من المنظرين (80) إلى يوم الوقت المعلوم (81) قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين (82) إلا عبادك منهم المخلصين (83)

ذكر اختصام الملأ الأعلى فقال: (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) على وجه الإخبار (إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ) أي: مادته من طين

(فَإِذَا سَوَّيْتُهُ) أي: سويت جسمه وتم، (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) فوطَّن الملائكة الكرام أنفسهم على ذلك، حين يتم خلقه ونفخ الروح فيه، امتثالا لربهم، وإكراما لآدم عليه السلام، فلما تم خلقه في بدنه وروحه، وامتحن اللّه آدم والملائكة في العلم، وظهر فضله عليهم، أمرهم اللّه بالسجود .

فسجدوا كلهم أجمعون إلا إبليس لم يسجد (اسْتَكْبَرَ) عن أمر ربه، واستكبر على آدم (وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) في علم اللّه تعالى

فـ (قَالَ) اللّه موبخا ومعاتبا: (مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) أي: شرفته وكرمته واختصصته بهذه الخصيصة، التي اختص بها عن سائر الخلق، وذلك يقتضي عدم التكبر عليه .

(أسْتَكْبَرْتَ) في امتناعك (أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ)

(قَالَ) إبليس معارضا لربه ومناقضا: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) وبزعمه أن عنصر النار خير من عنصر الطين، وهذا من القياس الفاسد، فإن عنصر النار مادة الشر والفساد، والعلو والطيش والخفة وعنصر الطين مادة الرزانة والتواضع وإخراج أنواع الأشجار والنباتات وهو يغلب النار ويطفئها، والنار تحتاج إلى مادة تقوم بها، والطين قائم بنفسه.

فـ (قَالَ) اللّه له: (فَاخْرُجْ مِنْهَا) أي: من السماء والمحل الكريم (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) أي: مبعد مدحور

(وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي) أي: طردي وإبعادي (إِلَى يَوْمِ الدِّينِ) أي: دائما أبدا

(قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) لشدة عداوته لآدم وذريته، ليتمكن من إغواء من قدر اللّه أن يغويه .

فـ (قال) اللّه مجيبا لدعوته، حيث اقتضت حكمته ذلك: (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) حين تستكمل الذرية، يتم الامتحان

فلما علم أنه منظر، فمن خبثه، وشدة العداوة لربه ولآدم وذريته، قال: (فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) الباء للقسم، وأنه أقسم بعزة اللّه ليغوينهم كلهم أجمعين

(إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) علم أن الله سيحفظهم من كيده

ونحن يا ربنا العاجزون المقصرون، المقرون لك بكل نعمة، ذرية من شرفته وكرمته، فنستعين بعزتك العظيمة، وقدرتك، ورحمتك الواسعة لكل مخلوق، ورحمتك التي أوصلت إلينا بها، ما أوصلت من النعم الدينية والدنيوية، وصرفت بها عنا ما صرفت من النقم، أن تعيننا على محاربته وعداوته، والسلامة من شره وشركه، ونحسن الظن بك أن تجيب دعاءنا، ونؤمن بوعدك الذي قلت لنا: " وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ " غافر 60 ، فقد دعوناك كما أمرتنا، فاستجب لنا كما وعدتنا إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ .

قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)

(قَالَ) اللّه تعالى (فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ) أي: الحق وصفي، والحق قولي

(لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) فلما بين الرسول للناس الدليل ووضح لهم السبيل قال الله له:

(قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي: على دعائي إياكم (مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) أدعي أمرا ليس لي، وأقفو ما ليس لي به علم، لا أتبع إلا ما يوحى إليَّ

(إِنْ هُوَ) أي: هذا الوحي والقرآن (إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ) يتذكرون به كل ما ينفعهم، من مصالح دينهم ودنياهم، فيكون شرفا ورفعة للعاملين به، وإقامة حجة على المعاندين .

فهذه السورة العظيمة، مشتملة على الذكر الحكيم، والنبأ العظيم، وإقامة الحجج والبراهين، على من كذب بالقرآن وعارضه، وكذب من جاء به، والإخبار عن عباد اللّه المخلصين، وجزاء المتقين والطاغين فلهذا أقسم في أولها بأنه ذو الذكر، ووصفه في آخرها بأنه ذكر للعالمين .

وأكثر التذكير بها فيما بين ذلك، كقوله: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا وَاذْكُرْ عِبَادَنَا رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى هَذَا ذِكْرُ(وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ) أي: خبره (بَعْدَ حِينٍ) وذلك حين يقع عليهم العذاب وتتقطع عنهم الأسباب.

تم تفسير سورة ص ، ولله الحمد والمنَّ

2 - 3 - 1439هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

7 + 2 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر