تفسير سورة الحج

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الثلاثاء 23 رجب 1441هـ | عدد الزيارات: 1392 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

سورة الحج ، وآياتها 78

بسم الله الرحمن الرحيم

"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ"(1)

يقول تعالى آمرا عباده بتقواه فهو الذي رباهم بالنعم الظاهرة والباطنة ، روى الإمام أحمد عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إنكم تحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلا ، قالت عائشة : يا رسول الله : الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض ؟ قال : يا عائشة إن الأمر أشد من أن يهمهم ذلك " أخرجه البخاري ومسلم ، ولهذا قال تعالى " إن زلزلة الساعة شيء عظيم " أي أمر كبير وخطب جليل وطارق مفزع وحدث هائل وكائن عجيب ، والزلزال هو ما يحصل للنفوس من الفزع والرعب .

" يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ " (2)

أنزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في سفر كما روى ذلك الترمذي عن عمران بن حصين ، (يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت) مع أنها مجبولة على شدة محبتها لولدها خصوصا في هذه الحال التي لا يعيش إلا بها لكنها تنشغل بهول ما ترى عن أحب الناس إليها والتي هي أشفق الناس عليه ، فتدهش عنه حال إرضاعها له عما أرضعت أي عن رضيعها في حال فطامه ، ( وتضع كل ذات حمل حملها ) قبل تمامه لشدة الفزع والهول ، (وترى الناس سكارى وما هم بسكارى) أي تحسبهم أيها الرائي لهم سكارى من الخمر من شدة الأمر الذي صاروا فيه فقد دهشت عقولهم وغابت أذهانهم فمن رآهم حسب أنهم سكارى وليسوا سكارى ، (ولكن عذاب الله شديد) فلذلك ملأ قلوبهم من الفزع فحري بالعاقل الذي يعرف أن كل هذا أمامه أن يُعد له عدته وأن لا يلهيه العمل فيترك العمل وتكون تقوى الله شعاره وخوفه دثاره ومحبة الله وذكره روح أعماله .

" وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ " (3)

وبعض رؤساء الكفر من الناس يخاصمون ويشككون في قدرة الله على البعث جهلا منهم بحقيقة هذه القدرة واتباعا لأئمة الضلال فقد سلكوا طريق الضلال وجعلوا يجادلون بالباطل الحق يريدون إحقاق الباطل وإبطال الحق والحال أنهم في غاية الجهل ما عندهم من العلم الصحيح شيء ، وغاية ما عندهم تقليد أئمة الضلال والدعاة إلى البدع بالأهواء والآراء من كل شيطان متمرد من الإنس والجن عن الله ورسوله .

" كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ " (4)

كتب عليه ، أي كتب على هذا الشيطان كتابة قدرية ، أنه من تولاه ، أي اتبعه وقلده ، فأنه يضله ، عن الحق ويجنبه الصراط المستقيم وذلك في الدنيا ، ويهديه إلى عذاب السعير ، أي يقوده في الآخرة إلى عذاب السعير وهو الحار المؤلم المقلق المزعج فهذا الذي يجادل في الله قد جمع بين ضلاله لنفسه وتصديه إلى إضلال الناس وهو متبع ومقلد لكل شيطان متمرد من الإنس والجن فيدخل في هذا من كذَّب بالبعث وأنكر قدرة الله على إحياء الموتى فإن أكثرهم مقلدون يجادلون بغير علم صحيح .

" يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ " (5)

لما ذكر تعالى المخالف للبعث المنكر للمعاد ذكر تعالى الدليل على قدرته على المعاد بما يشاهده من بدئه للخلق فقال تعالى " يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث " أي شك واشتباه وعدم علم بوقوعه مع أن الواجب عليكم أن تصدقوا ربكم وتصدقوا رسله في ذلك ولكن إذا أبيتم إلا الريب فهاكم دليلين تشاهدونهما كل واحد منهما يدل دلالة قطعية على ما شككتم فيه ويزيل عن قلوبكم الريب أحدهما الاستدلال بابتداء خلق الإنسان وأن الذي ابتدأه سيعيده فقال فيه " فإنا خلقناكم من تراب " وذلك بخلق أبي البشر آدم عليه السلام " ثم من نطفة " أي مني وهذا ابتداء أول التخليق وذلك أنه إذا استقرت النطفة في رحم المرأة مكثت أربعين يوما " ثم من علقة " أي تنقلب تلك النطفة بإذن الله دماً أحمر فتمكث كذلك أربعين يوما " ثم من مضغة " ثم تستحيل فتصير مضغة قطعة من لحم صغير قدر ما يُمضغ لا شكل فيها ولا تخطيط فتمكث كذلك أربعين يوما لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك " رواه البخاري ومسلم ، ثم يشرع في التشكيل والتخطيط لتلك المضغة ، وقوله تعالى " مخلَّقة " أي مصورٌ منها خلق الآدمي من رأس ويدان وصدر وبطن وفخذان ورجلان وسائر الأعضاء " وغير مخلقة " أي وتارة تسقطها المرأة قبل التشكيل والتخطيط " لنبين لكم " تمام قدرتنا بتصنيف أطوار الخلق " ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى " أي ونبقي في الأرحام ما نشاء وهو المُخلَّق إلى وقت ولادته ثم نخرجكم من بطون أمهاتكم بعد أن تكتمل أطوار الطفل طفلا ضعيفا في بدنه وسمعه وبصره وحواسه وبطشه وعقله " ثم لتبلغوا أشدكم " وهو كمال القوة واكتمال العقل " ومنكم من يُتوفى " أي في حال شبابه وقواه " ومنكم من يُرد إلى أرذل العمر " ومنكم من يتجاوزه فيُرد إلى أرذل العمر وهو الشيخوخة والهرم وضعف القوة والعقل والفهم وتناقض الأحوال من الخرف وضعف الفكر ولهذا قال " لكيلا يعلم من بعد علم شيئا " حتى يبلغ سن الهرم وضعف العقل فلا يعلم هذا المعمَّر شيئا مما كان يعلمه قبل ذلك " وترى الأرض هامدة " هذا دليل آخر على قدرته على إحياء الموتى كما يحيي الأرض الميتة وهي القحل التي لا نبت فيها " فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت " أي تحركت بالنبات تتفتح عنه " وربت " أي ارتفعت بعد خشوعها وذلك لزيادة نباتها " وأنبتت من كل زوج " أي صنف من أصناف النبات " بهيج " أي حسن المنظر طيب الريح .

" ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " (6)

" ذلك " الذي أنشأ الآدمي مما وُصِف لكم وأحيا الأرض بعد موتها " بأن الله هو الحق " أي الرب المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلا له وعبادته هي الحق وعبادته غير باطلة " وأنه يحيي الموتى " كما ابتدأ الخلق وكما أحيا الأرض بعد موتها " وأنه على كل شيء قدير " أي قادر على كل شيء فأمره بعد الكاف والنون فهو الذي يقول للشيء كن فيكون .

" وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ " (7)

" وأن الساعة آتية لا ريب فيها " أي كائنة لا شك فيها ولا مِرية فلا وجه لاستبعادها " وأن الله يبعث من في القبور " أي يعيدهم بعد ما صاروا في قبورهم رِمما ويوجدهم بعد العدم ليجازيهم بأعمالهم حسنها وسيئها .

" وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ " (8)

ومن الكفار من يجادل بالباطل في الله وتوحيده واختياره رسوله صلى الله عليه وسلم وإنزاله القرآن وذلك الجدال بغير علمٍ صحيح ولا نقل صريح ولا بيان ولا كتاب من الله فيه برهان وحجة واضحة بل بمجرد الرأي والهوى لاويا عنقه بتكبر معرضا عن الحق ليصد غيره عن الدخول في دين الله .

" ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ " (9)

" ثاني عطفه " أي لاويا عنقه في تكبر معرضا عن الحق " ليضل عن سبيل الله " ليصد غيره عن الدخول في دين الله ويدخل تحت هذا جميع أئمة الكفر والضلال ثم ذكر العقوبة الدنيوية والأخروية فقال " له في الدنيا خزيٌ " أي يلقى خزيا في الدنيا باندحاره وافتضاح أمره " ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق " أي نحرقه يوم القيامة بالنار .

ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)

يقال له هذا تقريعا وتوبيخا بأن ذلك العذاب بسبب ما اقترفت من المعاصي واكتسبت من الآثام " وأن الله ليس بظلام للعبيد " أي والأمر أنه تعالى ليس بمعذب عبيده بغير ذنب من قِبَلهم ، والمعنى الإجمالي أنه يقال للكافر الموصوف بتلك الأوصاف في الآيتين السابقتين : ذلك الذي تلقاه من خزي وعذاب إنما كان بسبب افترائك وتكبرك لأن الله عادل لا يظلم ولا يسوي بين المؤمن والكافر والصالح والفاجر بل يجازي كل منهم بعمله ولا يعذب أحدا بغير ذنب .

" وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ " (11)

قوله " ومن الناس " من يدخل في الإسلام على ضعف وشك فيعبد الله على تردد كالذي يقف على طرف جبل أو حائط لا يتماسك في وقفته ويربط إيمانه بدنياه ، روى البخاري عن ابن عباس قال " ومن الناس من يعبد الله على حرف " قال : " كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قال هذا دين صالح ، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال هذا دين سوء " ، " فإن أصابه خير اطمأن به " فإن عاش في صحة وسعة رزق ولم يحصل له من المكاره شيء اطمأن بذلك الخير واستمر على عبادته " وإن أصابته فتنة " وإن حصل له ابتلاء بمكروه وشدة أو زوال محبوب " انقلب على وجهه " عزا شؤم ذلك إلى دينه فرجع عنه كمن ينقلب على وجهه بعد استقامة وإن أصابته فتنة من حصول مكروه أو زوال محبوب انقلب على وجهه أي ارتد عن دينه " خسر الدنيا والآخرة " أما في الدنيا فإنه لا يحصل له بالردة ما أمله الذي جعل الرِدة رأساً لماله وعوضا عما يظن إدراكه فخاب سعيه ولم يحصل له إلا ما أقسم له ، وأما الآخرة فظاهر حُرم الجنة التي عرضها السماوات والأرض واستحق النار " ذلك هو الخسران المبين " أي الواضح البيِّن فهذه هي الخسارة العظيمة والصفقة الخاسرة .

" يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ " (12)

أي من الأصنام والأنداد يستغيث بها ويستنصرها ويسترزقها وهي لا تنفعه ولا تضره وهذه صفة كل مدعوٍ ومعبود من دون الله فإنه لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا فانظر إلى مشركي زماننا كيف يطوفون على الأضرحة ويدعونهم من دون الله فهذا القبوري المشرك يقف عند قبر الحسين رضي الله عنه ويستغيث به من دون الله وآخر عند قبر البدوي الذي يقال عنه أنه لم يركع لله ركعة ، وغيرهما ولا غرابة في ذلك فالرافضة والصوفية وغيرهما من أصحاب البدع ينخرون جسد الأمة الإسلامية لتبقى اسماً بدون مسمى ولكنَّ الله غالب على أمره " ذلك هو الضلال البعيد " الذي بلغ من البعد إلى حد النهاية حيث أعرض عن عبادة النافع الضار الغني المغني .

" يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ " (13)

أي ضرره في الدنيا قبل الآخرة أقرب من نفعه فيها أما في الآخرة فضرره محقق متيقن " لبئس المولى " قبح هذا المعبود الذي دعى به من دون الله " ولبئس العشير " أي قبح المخالط المصاحب الملازم على صحبته .

" إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ " (14)

لما ذكر أهل الضلال الأشقياء عطف بذكر الأبرار السعداء من الذين ءامنوا بقلوبهم وصدقوا إيمانهم بأفعالهم فعملوا الصالحات من جميع أنواع القربات وتركوا المنكرات فأورثهم ذلك سكن الدرجات العاليات في روضات الجنات وسميت الجنة جنة لاشتمالها على المنازل والقصور والأشجار والنباتات التي تجنُّ من فيها ويستتر بها من كثرتها ، ولما ذكر أنه أضل أولئك وهدى أولئك قال " إن الله يفعل ما يريد " فمهما أراده تعالى فعله من غير ممانع ولا معارض ومن ذلك إيصال أهل الجنة إليها جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه .

" مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ " (15)

من كان يعتقد أن الله تعالى لن يؤيد رسوله محمدا بالنصر في الدنيا بإظهار دينه وفي الآخرة بإعلاء درجته وعذاب من كذَّبه " فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع " اعمد إلى حبل من ليف أو غيره ثم علقه في السماء ثم اصعد به حتى تصل إلى الأبواب التي ينزل منها النصر فسدها وأغلقها واقطعها إن قدرت على ذلك وهذا أبلغ في التهكم " فلينظر هل يذهبنَّ كيده ما يغيظ " فلينظر هل يشفي ذلك ما يجد في صدره من الغيظ .

" وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ " (16)

قوله " وكذلك أنزلناه " أي القرآن " آيات بيِّنات " أي واضحات في لفظها ومعناها حجة من الله على الناس " وأن الله يهدي من يريد " أي يضل من يشاء ويهدي من يشاء وله الحكمة التامة والحجة القاطعة في ذلك .

" إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ " (17)

يخبر تعالى عن طوائف أهل الأرض من المؤمنين ومن سواهم من اليهود والنصارى والصابئين وهم قوم باقون على فطرتهم ولا دين مقرر لهم يتبعونه ، والمجوس وهم عبدة النار ، والذين أشركوا فعبدوا مع الله غيره من القبوريين الذين يستغيثون بالحسين وغيره " إن الله يفصل بينهم يوم القيامة " فيدخل المؤمنين الجنة ويدخل الكافرين النار " إن الله على كل شيء شهيد " شهيد على أفعالهم حفيظ لأقوالهم عليم بسرائرهم وما تكنُّ ضمائرهم .

" أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ " (18)

" ألم تعلم " أيها الرسول أن الله سبحانه يسجد له خاضعا منقادا من في أقطار السماوات من الملائكة ومن في الأرض من المخلوقات ، وقوله " والشمس والقمر والنجوم " إنما ذكر هذه على التنصيص لأنها قد عُبدت من دون الله فبيَّن أنها تسجد لخالقها وأنها مربوبة مسخَّرة ، وفي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أتدري أين تذهب هذه الشمس ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : فإنها تذهب فتسجد تحت العرش ثم تستأمر فيوشك أن يقال لها ارجعي من حيث جئتي " ، أما الجبال والشجر فسجودهما بفيء ظلالهما عن اليمين والشمال ، وقوله " والدواب " أي الحيوانات كلها ، وقوله " وكثير من الناس " أي يسجد لله طوعا مختارا متعبدا بذلك ، " وكثير حقَّ عليه العذاب " أي ممن امتنع وأبى واستكبر " ومن يُهِن اللهُ فما له من مُكرم " فهو مهين وأي إنسان يهينه الله فليس له أحد يكرمه " إن الله يفعل ما يشاء " إن الله يفعل في خلقه ما يشاء وفق حكمته ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا قرأ ابن آدم السجدة اعتزل الشيطان يبكي ويقول يا ويله أُمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار " رواه مسلم .

" هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ " (19)

" هذان خصمان اختصموا في ربهم " هم المؤمنون والكافرون فإن المؤمنين يريدون نصرة دين الله والكافرون يريدون إطفاء نور الإيمان وخذلان الحق وظهور الباطل " فالذين كفروا " يشمل كل كافر من اليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين " قُطعت لهم ثياب من نار " أي يُجعل لهم ثياب من قطران زيادة في تعذيبهم لأن القطران يلتصق بالجلد " يُصب من فوق رءوسهم الحميم * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) ، أي إذا صُبَّ على رءوسهم الحميم وهو الماء الحار في غاية الحرارة أذاب ما في بطونهم من الشحم والأمعاء وكذلك تذوب جلودهم من شدة حره وعظيم أمره .

" وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ " (21)

بيد الملائكة الغلاظ الشداد تضربهم بها

" كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ " (22)

" كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غمٍّ أعيدوا فيها " فلا يُفَتَّر عنهم العذاب ، " وذوقوا عذاب الحريق " أي أنهم يُهانون بالعذاب قولا وفعلا .

" إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ " (23)

لما أخبر تعالى عن حال أهل النار عياذا بالله من حالهم وما هم فيه من العذاب والنكال والحريق والأغلال وما أعد لهم من الثياب من النار ذكر حال أهل الجنة فقال " إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار " أي تتخرق في أكنافها وأرجائها وجوانبها وتحت أشجارها وقصورها يصرفونها حيث شاءوا وأين أرادوا " يحلون فيها " من الحلية من أساور من ذهب " ولؤلؤا " أي في أيديهم كما قال صلى الله عليه وسلم " تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء " رواه مسلم ، " ولباسهم فيها حرير " في مقابلة ثياب أهل النار التي هي من قطران لباس هؤلاء من حرير وفي الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم " لا تلبسوا الحرير ولا الديباج في الدنيا فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة " .

" وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ " (24)

وقوله " وهدوا إلى الطيب من القول " فهدوا إلى المكان الذي يسمعون فيه الكلام الطيب لا كما يهان أهل النار بالكلام الذي يروعون به ويقرعون به " وهدوا إلى صراط الحميد " أي إلى المكان الذي يحمدون فيه ربهم على ما أحسن إليهم وأنعم به وأسداه إليهم كما جاء في صحيح مسلم أنه قال صلى الله عليه وسلم " يلهمون التسبيح والتحميد كما تلهمون النفس " .

" إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ " (25)

يخبر تعالى عن شناعة ما عليه المشركون الكافرون بربهم وأنهم جمعوا بين الكفر بالله ورسوله وبين الصد عن سبيل الله ومنع الناس من الإيمان والصد أيضا عن المسجد الحرام الذي ليس ملكا لهم ولا لآبائهم بل الناس فيه سواء المقيم فيه والطاريء إليه فصدوا عنه أفضل الخلق محمدا وأصحابه والحال أن المسجد الحرام من حرمته واحترامه وعظمته أن " من يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم " فمجرد الإرادة للظلم والإلحاد في الحرم موجب للعذاب وإن كان غيره لا يُعاقب العبد عليه إلا بعمل الظلم فكيف بمن أتى فيه أعظم الظلم من الكفر والشرك والصد عن سبيله ومنع من يريده بزيارة فما ظنكم أن يفعل الله بهم ، وفي هذه الآية الكريمة وجوب احترام الحرم وشدة تعظيمه والتحذير من إرادة المعاصي فيه وفعلها ، روى البخاري رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يغزو هذا البيت جيش حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خُسف بأولهم وآخرهم " .

"وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًاوَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ" (26)

يذكر تعالى عظمة البيت الحرام وجلالته فقال " وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت " أي أرشده إليه وأذن له في بنائه وهذا يدل على أن إبراهيم عليه السلام هو أول من بنى البيت العتيق كما ثبت في الصحيحين عن أبي ذر : قلت يا رسول الله : أي مسجد وضع أولا ؟ قال : المسجد الحرام ، قلت : ثم أي ؟ قال : بيت المقدس ، قلت : كم بينهما ؟ قال : أربعون سنة " ، وقوله " ألا تشرك بي شيئا " أي ابنه على اسمي وحدي " وطهر بيتي " أي من الشرك وإضافته إلى نفسه لشرفه وفضله ولتعظيم محبته في القلوب وتنصب إليه الأفئدة من كل جانب وليكن أعظم لتطهيره وتعظيمه لكونه بيت الرب " للطائفين " أي اجعله خالصا لهؤلاء الذين يعبدون الله وحده لا شريك له فالطائف به معروف وهو أخص العبادات عند البيت فإنه لا يُفعل ببقعة من الأرض سواها " والقائمين " أي في الصلاة " والركع السجود " فقرن الطواف بالصلاة لأنهما لا يشرعان إلا مختصين بالبيت .

" وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ " (27)

وقوله " وأذن في الناس بالحج " أي نادِ داعيا لهم إلى الحج إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه فذكر أنه قال يا رب كيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم فقيل نادِ وعلينا البلاغ فقام على مقامه وقال : يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتا فحجوه فيقال أن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض وأسمع من في الأرض والأصلاب وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر ومن كتب الله أن يحج إلى يوم القيامة ، لبيك اللهم لبيك ، هذا ما رُوي عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف ، وقوله " يأتوك رجالا وعلى كل ضامر " فإنك إذا دعوتهم أتوك حجاجا وعمارا " رجالا " أي مشاة على أرجلهم من الشوق ، " وعلى كل ضامر " أي على كل ضامر من الإبل وهو خفيف اللحم من السير والأعمال لا من الهزال " يأتين من كل فجٍ عميق " أي طريق بعيد

" لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ " (28)

" ليشهدوا منافع لهم " أي لينالوا من بيت الله منافع دينية من العبادات الفاضلة والعبادات التي لا تكون إلا فيه ومنافع دنيوية من التكسب وحصول الأرباح الدنيوية وكل هذا أمر مشاهد كلٌ يعرفه " ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام " أي ليذكروا اسم الله عند ذبح الهدايا شكرا لله على ما رزقهم منها ويسرها لهم ، والأيام المعلومات هي الأيام العشر الأولى من شهر ذي الحجة ، روى البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله من هذه الأيام العشر فقالوا : ولا الجهاد في سبيل الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء " ، وهذه العشر مشتملة على يوم عرفة الذي ثبت في صحيح مسلم عن أبي قتادة قال : " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عرفة ، فقال : أحتسب على الله أن يكفر السنة الماضية والآتية " ، وتشتمل أيضا على يوم النحر الذي هو يوم الحج الأكبر فقد ورد في حديث رواه أحمد في مسنده وأبو داود أيضا وصححه الألباني أنه أفضل الأيام عند الله ، أي اليوم العاشر من شهر ذي الحجة ، وبالجملة فإن نهار هذه العشر أفضل أيام السنة فإنه يشرع فيها صيام يوم عرفة وبها أيضا يوم الحج الأكبر وهو يوم العاشر منها فهي أفضل من نهار العشر الأواخر من رمضان غير أن لياليها أفضل من ليالي عشر ذي الحجة لاشتمالها على ليلة القدر " على ما رزقهم من بهيمة الأنعام " يعني الإبل والبقر والغنم فإذا ذبحتموها " فكلوا منها " من باب الرخصة والاستحباب كما ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نحر هديه أمر بكل بدنة ببضعة فتطبخ فأكل من لحمها وحسا من مرقها ، قال مالك : أحب أن يأكل من أضحيته لأن الله يقول " فكلوا منها " وقوله " وأطعموا البائس الفقير " أي المضطر الذي عليه البؤس لشدة فقره والأفضل أنها تجزأ ثلاثة أجزاء ثلث له وثلث يهديه وثلث يتصدق به .

" ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ " (29)

" ثم ليقضوا لتفثهم " أي يقضوا مناسكهم وهو وضع الإحرام من حلق الرأس ولبس الثياب ونحو ذلك " وليوفوا نذورهم " التي أوجبوها على أنفسهم من الحج والعمرة والهدايا " وليطوفوا بالبيت " أي الطواف الواجب عليهم يوم النحر وهو طواف الإفاضة فإنه صلى الله عليه وسلم لما رجع إلى منى يوم النحر بدأ برمي الجمرة فرماها بسبع حصيات ثم نحر هديه وهي مائة من الإبل نحر بيده ثلاثا وستين وأكمل المائة علي بن أبي طالب وحلق رأسه ثم أفاض فطاف بالبيت ، وقوله " العتيق " أي القديم فيجب الطواف من وراء الحِجر لأنه من أصل البيت الذي بناه إبراهيم عليه السلام غير أن قريش قد أخرجوه من البيت حين قصرت بهم النفقة ولهذا طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجر وأخبر أن الحجر من البيت ولم يستلم الركنين الشاميين لأنهما لم يتمما على قواعد إبراهيم العتيقة .

" ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ " (30)

يقول تعالى هذا الذي أمرنا به من الطاعات في أداء المناسك وما لفاعلها من ثواب جزيل " ومن يعظم حرمات الله " أي ومن يجتنب معاصيه ومحارمه ويكون ارتكابها عظيم في نفسه ومنها مناسكه بأدائها كاملة خالصة لوجه الله " فهو خير له عند ربه " أي فله على ذلك خير كثير وثواب جزيل " وأحلت لكم الأنعام " أي أحلننا لكم أكل جميع الأنعام من بهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم وغيرها " إلا ما يتلى عليكم " أي من تحريم ( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذُبح على النصب ) المائدة 3 ، " فاجتنبوا الرجس من الأوثان " أي الأنداد التي جُعلت آلهة مع الله فإنها أكبر أنواع الرجس ومن ها هنا نجتنب الرجس أي اجتنبوا الرجس من الأوثان " واجتنبوا قول الزور " ابتعدوا عن الكذب ومنها شهادة الزور ، في الصحيحين عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قلنا : بلى يا رسول الله ، قال : الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال ألا وقول الزور ألا وقول الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت " .

" حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ " (31)

أمرهم أن يكونوا حنفاء لله أي مخلصين له الدين مقبلين عليه وعلى عبادته معرضين عما سواه من الباطل خاصة إلى الخلق ولهذا قال " غير مشركين به " ثم ضرب للمشرك في ضلاله وهلاكه وبعده عن الهدى مثلا فقال " ومن يشرك بالله فكأنما خرَّ من السماء " أي سقط منها " فتخطفه الطير " أي بسرعة فتقطعه في الهواء " أو تهوي به الريح في مكان سحيق " أي بعيد مُهلك لمن هوى فيه كذلك المشركون فالإيمان بمنزلة السماء محفوظة مرفوعة ومن ترك الإيمان بمنزلة الساقط من السماء عرضة للآفات والبليات فإما أن تخطفه الطير فتقطعه أعضاءً كذلك المشرك إذا ترك الاعتصام بالإيمان تخطفته الشياطين من كل جانب ومزقوه وأذهبوا عليه دينه ودنياه وإما أن تأخذه عاصفة شديدة من الريح فتعلوا به في طبقات الجو فتقذفه بعد أن تتقطع أعضائه في مكان بعيد جدا

" ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ " (32)

" ذلك " الذي ذكرناه لكم من تعظيم حرماته وشعائره ، والمراد بالشعائر أعلام الدين الظاهرة ومنها المناسك كلها ومنها الهدايا فتعظيم شعائر الله صادر من تقوى القلوب فالمعظِّم لها يبرهن على تقواه وصحة إيمانه فإن تعظيمها تابع لتعظيم الله وإجلاله وتعظيمها استسمانها واستحسانها ، قال أبو أمامة بن سهل : " كنا نسمِّن الأضحية بالمدينة وكان المسلمون يسمنون " رواه البخاري ، وعند البراء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أربع لا تجوز في الأضاحي : العوراء البيِّن عورها والمريضة البين مرضها والعرجاء البين ضلعها والكسيرة التي لا تنقى " رواه الترمذي وصححه.

" لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ " (33)

قوله تعالى " لكم فيها " أي في الهدايا " منافع إلى أجل مسمى " هذا في الهدايا المسوقة من البدن ونحوها ينتفع بها أربابها بالركوب والحلب ونحو ذلك مما لا يضرها كما في الصحيحين عن جابر عن رسول الله أنه صلى الله عليه وسلم قال " اركبها بالمعروف إذا أُلجأت إليها " ، " إلى أجل مسمى " مقدر موقت وهو ذبحها إذا وصلت " محلها " وهو البيت العتيق أي المحرم كله منها وغيرها فإذا ذُبِحت كلوا منها واهدوا وأطعموا البائس الفقير .

" وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ " (34)

يقول تعالى أنه لم يزل ذبح المناسك وإراقة الدماء على اسم الله مشروع في جميع الملل " ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام " التسمية عند الذبح واجبة ولا تسقط إلا بالنسيان وبهيمة الأنعام هي الإبل والبقر والغنم فلا تصح الأضحية أو الهدي أو الكفارة أو العقيقة إلا من بهيمة الأنعام كما ثبت في الصحيحين عن أنس قال : " أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين فسمَّى وكبر ووضع رجله على صفاحهما " ، " فإلهكم إله واحد " أي معبود واحد وإن تنوعت شرائع الأنبياء ونسخ بعضها بعضا فالجميع يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له ولهذا قال " فله أسلموا " أي انقادوا واستسلموا له لا لغيره فإن الإسلام طريق الوصول إلى دار السلام " وبشر المخبتين " بخير الدنيا والآخرة والمخبت الخاضع لربه المستسلم لأمره خوفا منه سبحانه .

" الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(35)

ثم ذكر صفات المخبتين فقال " الذين إذا ذُكر الله وجلت قلوبهم " أي خوفا وتعظيما فتركوا لذلك المحرمات لخوفهم ووجلهم من الله وحده " والصابرين على ما أصابهم " من المصائب والبأس والشدة والضراء فلا يجري منهم التسخط لشيء من ذلك بل صبروا ابتغاء وجه ربهم محتسبين ثوابه مرتقبين أجره " والمقيمي الصلاة " أي المؤدين حق الله فيما أوجب عليهم من أداء فرائضه " ومما رزقناهم ينفقون " وهذا يشمل جميع النفقات الواجبة كالزكاة والكفارة والنفقة على الأهل والأقارب والفقراء والمحاويج والنفقات المستحبة كالصدقات بجميع وجوهها ، ومما للتبعيض ليعلم سهولة ما أمر الله به ورغب فيه وأنه جزء يسير مما رزق الله ليس للعبد في تحصيله قدرة لولا تيسير الله له ورزقه إياه فيا أيها المرزوق من فضل الله أنفق مما رزقك الله ينفق الله عليك ويزدك من فضله .

" وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ " (36)

يقول تعالى ممتنا على عبيده فيما خلق لهم من البدن وهي الإبل وجعلها من شعائره كما ثبت في الحديث عند مسلم من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الأضاحي البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة " ، " لكم فيها خير " أي ثواب في الدار الآخرة " فاذكروا اسم الله عليها " أي عند ذبحها ، عن جابر بن عبد الله قال : صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيد الأضحى فلما انصرف أتى بكبش فذبحه فقال : بسم الله والله أكبر اللهم هذا عني وعن من لم يُضَحِ من أمتي " رواه أحمد وأبو داود والترمذي " صواف " قيام على ثلاث قوائم معقودة يدها اليسرى يقول : بسم الله والله أكبر اللهم منك ولك ، وفي الصحيحين عن ابن عمر أنه أتى على رجل قد أناخ بدنته وهو ينحرها فقال ابعثها قياما مقيدة سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم ، وفي صحيح مسلم عن جابر في صفة حجة الوداع قال فيه : فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثلاثا وستين بدنة جعل يطعنها بحربة في يده " فإذا وجبت جنوبها " سقطت على الأرض ميتة لأنه لا يجوز الأكل من البدنة إذا نحرت حتى تموت وتتوقف حركتها ، وعن أبي واقد الليثي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما قُطع من بهيمة وهي حية فهو ميتة " رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه ، " فكلوا منها " استحبابا " وأطعموا القانع " الفقير الذي لا يسأل " والمعتر " هو السائل وهذا للاستحباب ، وهذه الآية تدل على أنه يستحب أن تجرأ الأضحية ثلاثة أجزاء ثلث لصاحبها وثلث يتصدق به على الفقراء وثلث يهديه ، وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ومن ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم لأهله ليس هو من النسك في شيء " أخرجه البخاري ومسلم ، ويبدأ الذبح بعد صلاة العيد ويستمر ثلاثة أيام بعده وهي أيام التشريق " كذلك سخرناها لكم " أي جعلنا البدن وهي الإبل منقادة لكم خاضعة إن شئتم ركبتم وإن شئتم حلبتم وإن شئتم ذبحتم " لعلكم تشكرون " الله على تذليلها لكم فإنه لولا خضوعها لكم لم يكن لكم بها طاقة ولكنه ذللها لكم رحمة بكم وإحسانا إليكم فاحمدوه .

" لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ " (37)

وقوله " لن ينال الله لحومها ولا دمائها " أي ليس المقصود منها ذبحها فقط ولا ينال الله من لحومها ولا دمائها شيء لكونه الغني الحميد وإنما يناله الإخلاص فيها والاحتساب والنية الصالحة ولهذا قال " ولكن يناله التقوى منكم " وفي هذا حث وترغيب على الإخلاص في النحر أي يكون القصد وجه الله وحده لا فخرا ولا رياء ولا سمعة ولا مجرد عادة وهكذا سائر العبادات إن لم يقترن بها الإخلاص وتقوى الله كانت كالقشر الذي لا لُب فيه والجسد الذي لا روح فيه كما جاء في صحيح مسلم " إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " ، وعن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن الصدقة لتقع في يد الرحمن قبل أن تقع في يد السائل وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض " رواه ابن ماجه والترمذي وحسنه " كذلك سخرها لكم لتكبروا الله " أي من أجل ذلك ذللها لكم لتعظموه وتجلوه " على ما هداكم " أي مقابلة لهدايته إياكم فإنه يستحق أكمل الثناء وأجل الحمد وأعلى التعظيم " وبشر المحسنين " أي وبشر ، يا محمد ، المحسنين في عملهم القائمين بحدود الله المتبعين ما شرعه لهم

" إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ " (38)

هذا إخبار ووعد وبشارة من الله للذين آمنوا أن الله يدفع عنهم كل مكروه ويدفع عنهم بسبب إيمانهم كل شر من شرور الكفار وشرور وسوسة الشيطان وشرور أنفسهم وسيئات أعمالهم كل مؤمن له من هذه المدافعة والفضيلة بحسب إيمانه فمستقل ومستكثر " إن الله لا يحب كل خوان " أي خائن في أمانته التي حمله الله إياها فيبخس حقوق الله عليه ويخونها ويخون الخلق في العهود والمواثيق " كفور " لنعم الله يوالي الله عليه الإحسان ويتوالى منه الكفر والعصيان فلا يحب من عباده من اتصف بهذا .

" أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ " (39)

كان المسلمون في أول الإسلام ممنوعين من قتال الكفار ومأمورين بالصبر عليهم لأنهم لما كانوا بمكة كان المشركون أكثر عددا فلو أمر المسلمين وهم أقل من العشر بقتال الباقين لشق عليهم فلما هاجروا المدينة وأوذوا حصل لهم منعة وقوة أذن لهم بالقتال كما قال تعالى " أُذن للذين يقاتلون " يفهم منه أنهم كانوا قبل ممنوعين فأذن الله لهم بقتال الذين يقاتلونهم وإنما أذن لهم لأنهم ظُلموا بمنعهم من دينهم وأذيتهم عليه وإخراجهم من ديارهم ، روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال " هي أول آية نزلت في القتال " صححه أحمد شاكر ، " وإن الله على نصرهم لقدير " أي وقادر على نصر عباده المؤمنين من غير قتال ولكن يريد من عباده أن يبلوا جهدهم في طاعته .

" الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ " (40)

ثم ذكر صفة ظلمهم فقال " الذين أخرجوا من ديارهم " أي أُلجئوا إلى الخروج من مكة إلى المدينة وهم محمداً وأصحابه " بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله " أي إلا لأنهم وحدوا الله وعبدوه مخلصين له الدين وهذا يدل على حكمة الجهاد فإن المقصود منه إقام دين الله ومنع الكفار المؤذين للمؤمنين البادئين لهم بالاعتداء عن ظلمهم واعتدائهم والتمكن من عبادة الله وإقامة شعائره ولهذا قال " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض " لولا أنه يدفع عن قوم بقوم ويكشف شر أناس عن غيرهم بما يخلقه ويقدره من أسباب لفسدت الأرض وهلك القوي والضعيف " لهدمت صوامع " وهي المعابد لصغار الرهبان " وبيع " وهي كنائس النصارى وهي أوسع وأكثر عابدين فيها " وصلوات " وهي معابد اليهود " ومساجد " المسلمين " يذكر فيها اسم الله كثيرا " ، وقوله " ولينصرن الله " هذا وعد من الله بأن ينصر من ينصره أي من يقوم بنصر دينه مجتهدا في ذلك .

" الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ " (41)

يقول تعالى " الذين إن مكناهم في الأرض " أي ملكناهم إياها " أقاموا الصلاة " في أوقاتها وحدودها وأركانها وشروطها " وآتوا الزكاة " وأخرجوا زكاة أموالهم إلى أهلها " وأمروا بالمعروف " أمروا بكل ما أمر الله به من حقوقه وحقوق عباده " ونهوا عن المنكر " ونهوا عن كل ما نهى الله عنه ورسوله " ولله عاقبة الأمور " أي جميع الأمور ترجع إلى الله وحده .

يقول تعالى مسليا نبيه صلى الله عليه وسلم في تكذيب من خالفه من قومه فذكر قوم نوح الذين بعث الله إليهم نوح عليه السلام وبقي يدعهم ألف سنة إلا خمسين عاما وما آمن معه إلا قليل ، ثم ذكر عاداً قوم هود عليه السلام ثم ذكر ثمود قوم صالح عليه السلام .

" وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ " (42)

" وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ " (43)

" وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ " أي قوم شعيب عليه السلام " وَكُذِّبَ مُوسَى " مع ما جاء به من الآيات والبينات والدلائل الواضحات من قِبَل فرعون وقومه " فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ " أي أنظرتهم وأخرتهم فلن أعاجلهم بالعقوبة بل أمهلتهم حتى استمروا في طغيانهم يعمهون وفي كفرهم وشرهم يزدادون " ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ " بالعذاب " فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ " ( 44 ) ، أي إنكاري عليهم كفرهم وتكذيبهم كيف حاله كان أشد أنواع العقوبات وأفظع المثلات فمنهم من أغرقنا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من أُهلك بالريح العقيم ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أرسلنا عليه عذاب يوم الظلة وفي الصحيحين عن أبي موسى عن رسول الله أنه صلى الله عليه وسلم قال " إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ " وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد " هود 102 .

" فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ " (45)

ثم قال تعالى " فكأين من قرية " أي كم من قرية أهلكناها بالعذاب الشديد والخزي الدنيوي " وهي ظالمة " بكفرها بالله وتكذيبها لرسله " فهي خاوية على عروشها " أي قد خربت منازلها وتعطلت حواضرها " وبئر معطلة وقصر مشيد " أي وكم من بئر كان يزدحم عليها الخلق لشربهم وشرب مواشيهم فُقِد أهلها وأعيد منها الوارد والصادر " وقصر مشيد " وكم من قصر تعب عليه أهله فشيدوه ورفعوه وحصنوه وزخرفوه فلم يحم أهله شدة بنائه ولا ارتفاعه ولا إحكامه ولا حصانته عن حلول بأس الله بهم .

" أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ " (46)

يقول تعالى " أفلم يسيروا في الأرض " بأبدانهم وعقولهم " فتكون لهم قلوب يعقلون بها " يتأملون بها مواقع عبره فيعتبرون بها " وآذان يسمعون بها " أي أخبار الأمم الماضين وأنباء القرون المعذبين وإلا فمجرد نظر العين وسماع الأذن وسير البدن خالي من التفكر والاعتبار غير مفيد ولا موصل إلى المطلوب ولهذا قال " فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " أي ليس العمى عمى البصر وإنما العمى المهلك عمى البصيرة وإن كانت القوة الباصرة سليمة فإنها لا تنفذ إلى العبر ولا تدري ما الخبر .

" وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ " (47)

أي يتعجل كفار قريش بالعذاب لجهلهم بالعذاب الذي أنذرتهم به لما أصروا على الكفر بظلمهم وعنادهم تعجيزا لله وتكذيبا لرسله ولن يخلف الله وعده فما وعدهم به من العذاب لابد من وقوعه ولن يمنعهم منه مانع وأما عجلته والمبادرة فيه فليس ذلك إليك يا محمد ولا يستفزنك عجلتهم وتعجيزهم إيانا فإن أمامهم يوم القيامة الذي يُجمع فيه أولهم وآخرهم ويجازون بأعمالهم ويقع بهم العذاب الدائم الأليم ولهذا قال " وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون " من سني الدنيا من طوله وشدته وهوله فسواء أصابهم عذاب في الدنيا أو تأخر عنهم العذاب فإن هذا اليوم لابد أن يدركهم .

" وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ " (48)

يقول تعالى " وكأين من قرية أمليت لها " وكثير من القرى أمهلتها مدة طويلة " وهي ظالمة " أي مع ظلمهم فلم يكن مبادرتهم بالظلم موجبة لمبادرتنا بالعقوبة " ثم أخذتها " بالعذاب " وإليّ المصير " مع عذابها في الدنيا سترجع إلى الله ليعذبها بذنوبها .

يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم حين طلب منه الكفار وقوع العذاب واستعجلوه به

" قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ " (49)

أي إنما أرسلني الله إليكم نذير لكم بين يدي عذاب شديد وليس لي من حسابكم من شيء وقوله " مبين " أي بيِّن الإنذار وهو التخويف مع الإعلام بالمخوف وذلك لأنه أقام البراهين الساطعة على صدق ما أنذرهم به ثم ذكر تفصيل النذارة والبشارة فقال :

" فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ " (50)

يقول تعالى " فالذين آمنوا وعملوا الصالحات " أي آمنت قلوبهم وصدقوا إيمانهم بأعمالهم " لهم مغفرة " لما سلف من سيئاتهم " ورزق كريم " وهو الجنة .

" وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ " (51)

يقول تعالى " والذين سعوا في آياتنا " يثبطون الناس عن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم " معاجزين " أي مشاقين " أولئك " الموصوفون بما ذُكر من المعاجزة والمغالبة " أصحاب الجحيم " أي الملازمون للنار الموقدة المصاحبون لها في كل أوقاتهم فلا يُخفف عنهم من شديد عذابها ولا يفتر عنهم لحظة من أليم عقابها أجارنا الله منها .

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)

قوله " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي " هذا فيه تسلية لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقد أصاب مثل هذا من قبلك من المرسلين والأنبياء " إلا إذا تمنى " أي تلا الآيات التي يذكر بها الناس ويأمرهم وينهاهم " ألقى الشيطان في أمنيته " أي في تلاوته من طرقه ومكائده ما هو مناقض لتلك التلاوة مع أن الله تعالى قد عصم الرسل بما يبلغون عن الله وحفظ وحيه أن يشتبه أو يختلط بغيره ولكن هذا إلقاء من الشيطان غير مستقر ولا مستمر وإنما هو عرض يعرض ثم يزول وللعوارض أحكام ولهذا قال " فينسخ الله ما يلقي الشيطان " أي يزيله ويذيبه ويبطله " ثم يحكم الله آياته " أي يتقنها ويحررها ويحفظها فتبقي خالصة من مخالطة إلقاء الشيطان " والله عليم " بما يكون من الأمور والحوادث لا تخفى عليه خافية " حكيم " في تقديره وخلقه وأمره له الحكمة التامة والحجة البالغة يضع الأشياء في مواضعها ولهذا قال :

" لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ " (53)

قوله " ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض " أي شك وشرك وكفر ونفاق " والقاسية قلوبهم " أي الغليظة التي لا يؤثر فيها زجر ولا تذكير ولا تفهم عن الله وعن رسوله لقسوتها فإذا سمعوا ما ألقاه الشيطان جعلوه حجة لهم على باطلهم وجادلوا به وشاقوا الله ورسوله ولهذا قال " وإن الظالمين لفي شقاق بعيد " أي مشاقة لله ومعاندة للحق ومخالفة له بعيدا من الصواب فما يلقيه الشيطان يكون فتنة لتلك الطائفتين فيظهر به ما في قلوبهم من الخبث الكامن فيها وأما الطائفة الثالثة فإنه يكون رحمة في حقها وهم المذكورون بقوله :

" وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " (54)

قوله " وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك " أي وليعلم الذين مُنحوا العلم النافع الذي يفرقون به بين الحق والباطل أن ما أوحيناه إليك هو الحق من ربك " فيؤمنوا به " أي يصدقوه وينقادوا له " فتخبت له قلوبهم " أي تخشع وتخضع وتسلم لحكمته وهذا من هدايته إياهم " وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم " علم بالحق وعمل بمقتضاه فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابث في الحياة الدنيا وفي الآخرة يهديهم إلى صراط مستقيم الموصل إلى درجات الجنات ويزحزحهم من العذاب الأليم .

" وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ " (55)

يقول تعالى عن حالة الكفار وأنهم لا يزالون في شك مما جئتهم به من القرآن لعنادهم وإعراضهم وأنهم لا يبرحون مستمرين على هذا الحال " حتى تأتيهم الساعة بغتة " أي فجأة " أو يأتيهم عذاب يوم عقيم " يوم القيامة ولهذا قال :

" الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ " (56)

قوله " الملك يومئذ " أي يوم القيامة " لله " تعالى لا لغيره " يحكم بينهم " بحكمه العدل وقضائه الفصل " فالذين آمنوا " بالله ورسله وما جاءوا به وعملوا الصالحات ليصدقوا بذلك إيمانهم " في جنات النعيم " نعيم القلب والروح والبدن الذي لا يزول مما لا يصفه الواصفون ولا تدركه العقول .

" وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ " (57)

" والذين كفروا " بالله ورسله " وكذبوا بآياتنا " الهادية للحق والصواب فأعرضوا عنها " فأولئك لهم عذاب مهين " لهم من شدته وألمه وبلوغه الأفئدة كما استهانوا برسله وآياته أهانهم الله بالعذاب .

وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ(58)

هذه بشارة كبرى لمن هاجر في سبيل الله فخرج من داره ووطنه وأولاده وماله ابتغاء وجه الله ونصرة لدين الله " ثم قُتِلوا " أي في الجهاد " أو ماتوا " من غير قتال على فرشهم " ليرزقنهم الله رزقا حسنا " أي ليجرين عليهم من فضله ورزقه من نعيم الجنة الذي لا ينقطع ولا يزول مما تقر به أعينهم " وإن الله لهو خير الرازقين " أي خير من يرزق فما رزقهم به هو خير رزق وأطيبه وأوسعه .

لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ(59)

قوله " ليدخلنهم مدخلا يرضونه " أي ليدخلنهم الله المدخل الذي يحبونه وهو الجنة والمقصود بهم من يهاجر ويجاهد في سبيله " وإن الله لعليم " بالأمور ظاهرها وباطنها متقدمها ومتأخرها " حليم " يعصيه الخلائق ويبارزونه بالعظائم وهو لا يعاجلهم بالعقوبة مع كمال اقتداره بل يواصل لهم رزقه ويسدي إليهم فضله .

" ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ " (60)

ذلك الأمر الذي قصصناه عليك من إدخال المهاجرين الجنة ومن اعتدي عليه وظُلم فأذن له أن يقابل الجاني بمثل فعلته ولا حرج عليه فإذا عاد الجاني إلى إيذائه وبغى فإن الله ينصر المظلوم المُعتدى عليه إذ لا يجوز أن يُعتدى عليه بسبب انتصافه لنفسه " إن الله لعفو غفور " يعفو عن المذنبين فلا يعاجلهم بالعقوبة ويغفر ذنوبهم فيزيلها ويزيل آثارها عنهم

" ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ " (61)

" ذلك " الذي شرع لكم تلك الأحكام الحسنة العادلة هو حسن التصرف في تقديره وتدبيره الذي " يولج الليل في النهار " أي يدخل هذا على هذا وهذا على هذا فيأتي بالليل بعد النهار وبالنهار بعد الليل ويوجد في أحدهما ما ينقص من الآخر ثم بالعكس فتارة يطول الليل ويقصر النهار كما في الشتاء وتارة يطول النهار ويقصر الليل كما في الصيف " وأن الله سميع " لكل صوت باختلاف اللغات من كل المخلوقات يصل بكل فعل ما لا يخفى عليه منهم خافية " بصير " بكل فعل لا يخفى عليه منهم خافية في أحوالهم وحركاتهم وسكناتهم يرى دبيب النملة السوداء تحت الصخرة الصماء في الليلة الظلماء .

" ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ " (62)

قوله " ذلك بأن الله هو الحق " أي المعبود الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له ذو السلطان العظيم فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وكل شيء فقير إليه الأول فليس قبله شيء والآخر فليس بعده شيء كامل الأسماء والصفات صادق الوعد الذي وعده حق ولقاؤه حق ودينه حق وعبادته حق " وأن ما يدعون من دونه " من الأصنام والأنداد من الحيوانات والجمادات " هو الباطل " الذي هو باطل في نفسه وعبادته باطلة لأنها متعلقة بمضمحل فانٍ فتبطل تبعا لغايتها ومقصودها " وأن الله هو العلي " على خلقه ذاتاً وقدراً وقهراً المتعالي على الأشياء والأنداد فهو أعلى من كل شيء " الكبير " في ذاته وأسمائه وصفاته فهو أكبر من كل شيء .

" أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ " (63)

هذا حث منه تعالى وترغيب في النظر بآياته الدالة على وحدانيته وكماله فقال " ألم تر " أي ألم تشاهد ببصرك وبصيرتك " أن الله أنزل من السماء ماءً " وهو المطر فينزل على أرض خاشعة مجدبة قد اغبرت أرجاؤها ويبس ما فيها من شجر ونبات " فتصبح الأرض مخضرة " أي خضراء بعد يبسها قد اكتست من كل زوج كريم وصار لها بذلك منظر بهيج " إن الله لطيف " بعباده باستخراج النبات من الأرض بذلك الماء ومن لطفه أنه يعلم واقع القطر من الأرض وبذور الأرض في بواطنها فيسوق ذلك الماء إلى تلك البذور فينبت منه أنواع النبات " خبير " بمصالحهم .

" لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ " (64)

قوله " له ما في السماوات وما في الأرض " لله سبحانه وتعالى ما في السماوات والأرض خلقا وملكا وعبودية كلٌ محتاج إلى تدبيره وإفضاله لحكمته وكمال قدرته وليس لأحد غيره من الأمر شيء " وإن الله لهو الغني " بذاته الذي له الغنى المطلق التام من جميع الوجوه فملكه جميع الأشياء وهو الغني عمن سواه وكل شيء فقير إليه عبدٌ إليه ، وقوله " الحميد " أي المحمود في كل حال .

" أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ " (65)

قوله " ألم تر " أي تشاهد نعمة ربك السابقة من إحسانه وفضله وامتنانه " أن الله سخر لكم ما في الأرض " من حيوانات وجمادات وزروع وثمار فجميع ما في الأرض مسخر لبني آدم حيواناتها لركوبه وحمله وأعماله وأكله وأنواع انتفاعه وأشجارها وثمارها يقتاتها " والفلك " أي وسخر لكم الفلك وهي السفن " تجري في البحر بأمره " أي بتسخيره وتسييره في البحر العجاج وتلاطم الأمواج تحملكم وتحمل تجاراتكم وتوصلكم من قطر إلى قطر " ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه " فلولا رحمته وقدرته لسقطت السماء على الأرض فتلف ما عليها وهلك من فيها " إن الله بالناس لرءُوف رحيم " إن الله يرحم الناس رحمة واسعة في عاجلهم وآجلهم ومن رحمته بهم ما سخر لهم من هذه الأشياء وغيرها تفضلا منه عليهم .

" وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ " (66)

قوله " وهو الذي أحياكم " أي خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئا يُذكر " ثم يميتكم " عند انقضاء أعمالكم " ثم يحييكم " يوم القيامة ليجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته " إن الإنسان لكفور " أي جحود .

لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67)

قوله " لكل أمة جعلنا منسكا " يخبر تعالى أنه جعل لكل قوم من الأقوام الماضية شريعة " هم ناسكوه " أي عاملون بها فلا اعتراض على شريعة من الشرائع فإنه إذا ثبت رسالة إلى الرسول بأدلتها وجب أن يتلقى الجميع ما جاء به بالقبول والتسليم وترك الاعتراض ولهذا قال " فلا ينازعنك في الأمر " أي فلا ينازعنك أيها الرسول مشركو قريش في شريعتك ولهذا أمر الله رسوله أن يدعو إلى توحيد ربه وإخلاص العبادة له واتباع أمره وأن يمضي على ذلك سواء اعترض المعترضون أم لا قال تعالى " وادع إلى ربك " وأنه لا ينبغي أن يثنيك عن الدعوة شيء " إنك لعلى هدى مستقيم " إنك لعلى دين قويم لا اعوجاج فيه .

" وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ " (68)

أي أمره الله بالعدول عن جدالهم فقال " وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون " أي هو عالم بمقاصدكم ونياتكم فمجازيكم عليها .

" اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ " (69)

فمن وافق الصراط المستقيم فهو من أهل النعيم ومن زاغ عنه فهو من أهل الجحيم .

" أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ " (70)

قوله " ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض " لا يخفى عليه منها خافية من ظواهر الأمور وبواطنها خفيها وجليها متقدمها ومتأخرها ذلك العلم المحيط بما في السماء والأرض قد أثبته الله في كتابه وهو اللوح المحفوظ كما ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله قدر مقادير الخلائق قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء " ، وعند أبي داود والترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أول ما خلق الله القلم قال له اكتب ، قال : وما أكتب ؟ قال : اكتب ما هو كائن فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة " صححه الألباني ، وهذا من تمام علمه تعالى أنه علم الأشياء قبل كونها وقدرها وكتبها أيضا فما العباد عاملون قد علمه الله تعالى قبل ذلك على الوجه الذي يفعلونه فيعلم قبل الخلق أن هذا يطيع باختياره وهذا يعصي باختياره وكتب ذلك عنده وأحاط بكل شيء علما فهو سهل عليه يسير لديه ولهذا قال تعالى " إن ذلك على الله يسير " .

" وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ " (71)

قوله " ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا " يخبر تعالى عن المشركين فيما جهلوا وكفروا وعبدوا من دون الله " ما لم ينزل به سلطانا " يعني حجة وبرهانا " وما ليس لهم به علم " أي ولا علم لهم فيما اختلقوه إنما هو أمر تلقوه عن آبائهم وأسلافهم بلا دليل ولا حجة وأصله مما زينه لهم الشيطان ولهذا توعدهم الله بقوله " وما للظالمين من نصير " إذا جاء وقت الحساب في الآخرة فليس للمشركين ناصر ينصرهم إذا نزل بهم عذاب الله .

" وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ " (72)

قوله " وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات " وإذا ذكرت للمشركين آيات القرآن والدلائل الواضحات على توحيد الله " تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر " ترى الكراهة ظاهرة على وجوههم " يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا " يكادون يبطشون بالمؤمنين الذين يدعون إلى الله تعالى ويتلون عليهم آياته " قل " أي يا محمد لهؤلاء " أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا " فهل أخبركم بما هو أشد كراهة إليكم من سماع الحق ورؤية الداعين إليه النار أعدها الله للكافرين في الآخرة " وبئس المصير " وبئس النار منزلا ومرجعا وموئلا ومقاما .

" يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ " (73)

قوله " يا أيها الناس ضُرِب مثلٌ فاستمعوا له " هذا نداء من الله فألقوا إليه أسماعكم وافهموا ما احتوى عليه ولا يصادف منكم قلوبا لاهية وأسماعا معرضة بل ألقوا إليه القلوب والأسماع " إن الذين تدعون من دون الله " إن الأصنام والأنداد التي تعبدونها من دون الله " لن يخلقوا ذبابا " الذي هو من أحقر المخلوقات وأخسها فليس في قدرتهم خلق هذا المخلوق الضعيف فما فوقه من باب أولى " ولو اجتمعوا له " أي لو اجتمع جميع ما تعبدون من الأصنام والأنداد على أن يقدروا على خلق ذباب واحد ما قدروا على ذلك كما روى الإمام أحمد عن أبي هريرة مرفوعا قال : قال الله تعالى ( ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا مثل خلقي ذرة أو ذبابة أو حبة ) صححه أحمد شاكر ، " وإن يسلبهم الذباب شيء لا يستنقذوه منه " لو سلبها شيئا من الذي عليه من الطين ثم أرادت أن تستنقذه منه لما قدرت على ذلك وهذا غاية ما يصل من العجز " ضعف الطالب " وهو المعبود من دون الله " والمطلوب " وهو الذباب .

" مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ " (74)

فهؤلاء " ما قدروا الله حق قدره " أي ما عرفوا قدر الله وعظمته حين عبدوا معه غيره من هذه التي لا تقاوم الذباب لضعفها وعجزها فسووا من لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا بمن هو النافع الضار المعطي المانع مالك الملك والمتصرف فيه بجميع أنواع التصريف " إن الله لقوي " أي كامل القوة فهو القوي الذي بقدرته وقوته خلق كل شيء ومن كمال قوته أنَّ نواصي الخلق بيديه وأنه لا يتحرك متحرك ولا يسكن ساكن إلا بإرادته ومشيئته فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ومن كمال قوته أن يمسك السماوات والأرض أن تزولا ومن كمال قوته أنه يبعث الخلق كلهم أولهم وآخرهم بصيحة واحدة ومن كمال قوته أنه أهلك الجبابرة والأمم العاتية بشيء يسير من عذابه ، وقوله " عزيز " أي قد عزَّ كل شيء فقهره وغلبه فلا يُمانع ولا يُغالب لعظمته وسلطانه .

" اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ " (75)

قوله " الله يصطفي من الملائكة رسلا " أي يختار ويجتبي من الملائكة رسلا فيما يشاء من شرعه وقدره ، وقوله " ومن الناس " أيضا يجتبي من الناس لإبلاغ رسالاته يكونون أذكى ذلك النوع وأجمعه لصفات المجد وأحقه بالاصطفاء فالرسل لا يكونون إلا صفوة الخلق على الإطلاق والذي اختارهم واجتباهم ليس جاهلا بحقائق الأشياء أو يعلم شيئا دون شيء وحاشاه ذلك " إن الله سميع بصير " قد أحاط بعلمه وسمعه وبصره بجميع الأشياء فهو سميع لأقوال عباده بصير بهم عليم بمن يستحق ذلك منهم .

" يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ " (76)

فهو " يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم " أي يعلم ما يفعل برسله فيما أرسلهم به فلا يخفى عليه من أمورهم شيء فهو سبحانه رقيب عليهم شهيد على ما يقال لهم حافظ لهم ناصر لجنابهم ، وقوله " وإلى الله ترجع الأمور " أي هو يرسل الرسل يدعون الناس إلى الله فمنهم المجيب ومنهم الراد لدعوته فهذه وظيفة الرسل وأما الجزاء على تلك الأعمال فمصيرها إلى الله وحده .

" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ " (77)

يأمر تعالى عباده المؤمنين بالصلاة وخص منها الركوع والسجود لفضلهما وركنيتهما " واعبدوا ربكم " العبادة التي هي قرة العين وسلوة القلب المحزون وإن ربوبيته وإحسانه على العباد يقتضي منهم أن يخلصوا له العبادة " وافعلوا الخير " يأمرهم بفعل الخير عموما وعلَّق تعالى الفلاح على تلك الأمور فقال " لعلكم تفلحون " أي تفوزون بالمطلوب المرغوب وتنجون من المكروه المرهوب فلا طريق للفلاح سوى الإخلاص في عبادة الخالق والسعي في نفع عبيده فمن وُفِّق لذلك فله السعادة والنجاح والفلاح في الدارين .

" وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ " (78)

قوله " وجاهدوا في الله حق جهاده " أي بأموالكم وألسنتكم وأنفسكم " هو اجتباكم " أي يا أيها الأمة هو اصطفاكم واختاركم على سائر الأمم وفضلكم وشرفكم وخصكم بأكرم رسول وأكمل شرع " وما جعل عليكم في الدين من حرج " أي مشقة وعسر بل يسره غاية التيسير وسهله فما كلفكم ما لا تطيقون وما ألزمكم بشيء يشق عليكم إلا جعل الله لكم فرجا ومخرجا فالصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام بعد الشهادتين تجب في الحضر أربعا وفي السفر تقصر إلى ثنتين وتصلى رجالا وركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها والقيام فيها يسقط بعذر المرض فيصليها المريض جالسا فإن لم يستطع فعلى جنبه إلى غير ذلك من الرخص والتخفيفات في سائر الفرائض والواجبات ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى حين بعثمها إلى أميرين إلى اليمن " بشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا " أخرجه البخاري ومسلم " ملة أبيكم إبراهيم " أي هذه الملة المذكورة ملة أبيكم إبراهيم التي ما زال عليها فالزموها واستمسكوا بها " هو سماكم المسلمين من قبل " أي بالكتب المنزلة السابقة " وفي هذا " أي القرآن " ليكون الرسول شهيدا عليكم " بأنه بلغكم رسالة ربه " وتكونوا شهداء على الناس " أن رسلهم قد بلغتهم بما أخبركم الله به في كتابه " فأقيموا الصلاة " أي قابلوا هذه النعمة العظيمة بالقيام بشكرها ومن أهم ذلك إقامة الصلاة بأركانها وشروطها وحدودها وجميع لوازمها " وآتوا الزكاة " وهو الإحسان إلى خلق الله بما أوجب للفقير على الغني من إخراج جزء نذر من ماله في السنة للضعفاء والمحاويج لمستحقيها شكرا لله على ما أولاكم " واعتصموا بالله " أي توكلوا عليه في ذلك ولا تتكلوا على حولكم وقوتكم " هو مولاكم " الذي يتولى أموركم فيدبركم بحسن تدبيره ويصرفكم على أحسن تقديره وهو حافظكم وناصركم ومظفركم على أعدائكم " فنعم المولى " أي نعم الولي " ونعم النصير " ونعم الناصر على الأعداء .

تم تفسير سورة الحج ولله الحمد والمنة

3 - 7 - 1441هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

6 + 7 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 132 الجزء الثالث : شروط قبول الدعاء - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 131 الجزء الثالث ‌‌وجوب النهي عن المنكر على الجميع - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر