تفسير سورة الأنبياء

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الجمعة 3 شعبان 1441هـ | عدد الزيارات: 968 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

سورة الأنبياء مكية وآياتها 112

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)

هذا تنبيه من الله عز وجل على اقتراب الساعة ودنوها وأن الناس في غفلة عنها وقد قرب حسابهم ومجازاتهم على أعمالهم الصالحة والحال أنهم في غفلة عما خُلقوا له وإعراض عما زُجروا عنه كأنهم للدنيا خُلقوا وللتمتع بها وُجدوا وأن الله تعالى لا يزال يجدد لهم التذكير والوعظ ولا يزالون في غفلتهم وإعراضهم وهذه الأمة هي آخر الأمم ورسولها آخر الرسل وعلى هذه الأمة تقوم الساعة فقد قرب الحساب منها بالنسبة لما قبلها من الأمم لقوله صلى الله عليه وسلم " بُعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى " رواه البخاري .

" مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ " (2)

قوله " ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث " أي جديد إنزاله " إلا استمعوه " سماعا تقوم عليهم به الحجة " وهم يلعبون " أي ساخرين مستهزئين .

"لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ " (3)

قوله " لاهية قلوبهم " أي مشغولة عنه بما لا يغني من الباطل والشر والفساد ثم ذكر ما يتناجى به الكافرون الظالمون على وجه العناد ومقابلة الحق بالباطل وأنهم تناجوا وتواطئوا فيما بينهم سرا " وأسروا النجوى الذين ظلموا " أن يقولوا في الرسول صلى الله عليه وسلم إنه بشر مثلكم " هل هذا إلا بشر مثلكم " يستبعدون كونه نبيا لأنه بشر مثلهم فكيف اختص بالوحي دونهم " أفتأتون السحر وأنتم تبصرون " أي فتتبعونه فتكونون كمن يأتي السحر وهو يعلم أنه سحر هذا وهو يعلمون أنه رسول الله حقا بما يشاهدون من الآيات الباهرة ما لم يشاهده غيرهم ولكن حملهم على ذلك الشقاء والظلم والعناد والله تعالى قد أحاط علما بما تناجوا به وسيجازيهم عليه ولهذا قال تعالى مجيبا لهم عما افتروه واختلقوه من الكذب :

" قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ " (4)

قوله " قال ربي يعلم القول " الخفي والجلي " في السماء والأرض " أي في جميع ما احتوت عليه أقطارهما " وهو السميع " لأقوالكم ولسائر الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات " العليم " بأحوالكم بما فيه الضمائر وأكنته السرائر وفي هذا تهديد لهم ووعيد .

" بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ " (5)

هذا إخبار عن تعنت الكفار وإلحادهم واختلافهم فيما يصفون فيه القرآن وحيرتهم فيه وتكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ومما جاء به من القرآن العظيم وأنهم تقوَّلوا فيه وقالوا فيه الأقاويل الباطلة المختلفة فتارة يقولون " أضغاث أحلام " بمنزلة كلام النائم الهاذي الذي لا يحس بما يقول وتارة يقولون " افتراه " واختلقه وتقوله من عند نفسه وتارة يقولون إنه شاعر وما جاء به شعر " فليأتنا بآية كما أرسل الأولون " أي كناقة صالح وآيات موسى وعيسى .

مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)

قوله تعالى " ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها " أي ما آتينا قرية من القرى الذين بُعث فيهم الرسول آية على يد نبيها فآمنوا بها بل كذبوا فأهلكناهم بذلك " أفهم يؤمنون " هذا الاستفهام يعني النفي أي لا يكون ذلك منهم أبدا .

" وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ " (7)

يقول تعالى ردا على من أنكر بعثة الرسول من البشر " وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم " أي جميع الرسل الذين تقدموا كانوا رجالا من البشر لم يكن فيهم أحد من الملائكة ولهذا قال تعالى " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " أي اسألوا أهل العلم من الأمم كاليهود والنصارى وسائر الطوائف هل كان الرسل الذين أتوهم بشرا أم ملائكة إنما كانوا بشر وذلك من تمام نعم الله على خلقه إذ بعث فيهم رسلا منهم يتمكنون من تناول البلاغ منهم والأخذ عنهم ، وهذه الآية وإن كان سببها خاص للسؤال عن حالة الرسل المتقدمين لأهل الذكر وهم أهل العلم فإنها عامة في كل مسألة من مسائل الدين إذا لم يكن عند الإنسان علم منها أن يسأل من يعلمها ففيه الأمر بالتعلم والسؤال لأهل العلم ولم يؤمر بسؤالهم إلا لأنه يجب عليهم التعليم والإجابة عما علموه .

" وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ " (8)

بل كانوا أجسادا يأكلون الطعام وقوله " وما كانوا خالدين " أي في الدنيا بل كانوا يعيشون ثم يموتون .

" ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ " (9)

قوله " ثم صدقناهم الوعد " أي الذي وعدهم ربهم ليهلكن الظالمين صدقهم الله وعده ففعل ذلك ولهذا قال " فأنجيناهم ومن نشاء " أي أتباعهم من المؤمنين " وأهلكنا المسرفين " أي المكذبين بما جاءت به الرسل .

" لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ " (10)

" لقد أنزلنا إليكم " أي أنزلنا إليكم أيها المُرسَل إليهم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب " كتابا " أي قرآنا " فيه ذكركم " أي شرفكم وفخركم وارتفاعكم " أفلا تعقلون " أي هذه النعمة أفلا تتلقونها بالقبول .

" وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ " (11)

يقول تعالى محذرا لهؤلاء الظالمين المكذبين للرسول بما فعل بالأمم المكذبة لغيره من الرسل " وكم قصمنا " هذه صيغة تكثير أي أهلكنا بعذاب مستأصل " من قرية " تلفت عن آخرها " وأنشأنا بعدها قوما آخرين " أي أنشأنا أمة أخرى بعدهم .

" فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ " (12)

قوله " فلما أحسوا بأسنا " أي تيقنوا أن العذاب واقع بهم " إذا هم منها يركضون " أي يفرون هاربين .

" لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ " (13)

قوله " لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم " قيل لهم قدرا على وجه التهكم لا تركضوا هاربين من نزول العذاب وارجعوا إلى ما كنتم فيه من النعمة والسرور والعيشة والمساكن الطيبة " لعلكم تُسألون " أي عما كنتم فيه من أداء شكر النعمة .

" قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ " (14)

أي دعوا بالويل والثبور والندم والإقرار على أنفسهم بالظلم .

" فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ " (15)

أي ما زالت تلك المقالة وهي الاعتراف بالظلم حتى حصدناهم حصدا وخمدت حركاتهم وأصواتهم خمودا .

" وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ " (16)

يخبر تعالى أنه ما خلق السماوات والأرض عبثا ولا لعبا من غير فائدة بل خلقهما بالعدل والقسط ليجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته .

" لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ " (17)

قوله " لو أردنا أن نتخذ لهوا " أي الزوجة والولد " لاتخذناه من لدنا " أي من عندنا من الحور العين " إن كنا فاعلين " أي ما كنا فاعلين لأن هذا على الفرض والتقدير المحال .

" بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ " (18)

قوله " بل نقذب بالحق على الباطل " أي نبين الحق فيدحض الباطل ولهذا قال " فيدمغه فإذا هو زاهق " أي ذاهب مضمحل " ولكم الويل " أيها القائلون لله ولدا " مما تصفون " أي تقولون وتفترون .

" وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ " (19)

قوله " وله من في السماوات والأرض " تعالى وتقدس الملك العظيم الذي خضعت له الرقاب وذلت له الصعاب وخشعت له الملائكة المقربون وأذعنوا له بالعبادة الدائمة المستمرة أجمعون ولهذا قال " ومن عنده " أي الملائكة " لا يستكبرون عن عبادته " أي لا يستنكفون عنها " ولا يستحسرون " أي لا يتعبون ولا يملون .

" يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ " (20)

أي مستغرقين في العبادة والتسبيح في جميع أوقاتهم " لا يفترون " أي لا يسأمون لأن التسبيح منهم كالنفس منا لا يتعب أحدنا من التنفس ولا يشغله عنه شيء .

" أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ " (21)

لما بيَّن تعالى كل اقتداره وعظمته وخضوع كل شيء له أنكر على المشركين الذين اتخذوا من دون الله آلهة من الأرض وهم في غاية العجز وعدم القدرة " هم ينشرون " استفهام بمعنى النفي أي لا يقدرون على نشرهم وحشرهم .

" لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ " (22)

قوله تعالى " لو كان فيهما " أي في السماوات والأرض " آلهة إلا الله لفسدتا " في ذاتهما وفسد ما فيهما من المخلوقات وبيان ذلك أن العالم العلوي والسفلي على ما يُرى في أكمل ما يكون من الصلاح والانتظام الذي ما فيه خلل ولا عيب ولا ممانعة ولا معارضة فدل ذلك على أن مدبره واحد وربه واحد وإلهه واحد فلو كان له مديران وربَّان أو أكثر من ذلك لاختل نظامه وتقوضت أركانه فإنهما يتمانعان ويتعارضان وإذا أراد أحدهما تدبير شيء وأراد الآخر عدمه فإنه محال وجود مرادهما معا ، ووجود مراد أحدهما دون الآخر يدل على عجز الآخر وعدم اقتداره واتفاقهما على مراد واحد في جميع الأمور غير ممكن " فسبحان الله " أي تنزه وتقدس عن كل نقص لكماله وحده " رب العرش " الذي هو سقف المخلوقات وأوسعها وأعظمها فربوبية ما دونه من باب أولى " عما يصفون " عما يقولون أن له ولدا أو شريكا سبحانه وتعالى وتقدس وتنزه عن الذين يأفكون علوا كبيرا .

" لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ " (23)

قوله " لا يُسأل عما يفعل " لعظمته وحكمته " وهم " أي المخلوقين " يُسألون " عن أفعالهم وأقوالهم لعجزهم وفقرهم ولكونهم عبيدا .

" أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ " (24)

قوله " أم اتخذوا من دونه آلهة قل " يا محمد " هاتوا برهانكم " دليلكم على ما تقولون " هذا ذكر من معي " يعني القرآن " وذكر من قبلي " يعني الكتب المتقدمة " بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون " على اختلاف ما تقولون وتزعمون فكل كتاب أنزل على كل نبي أرسل ناطق به لا إله إلا الله ولكن أنتم أيها المشركون لا تعلمون الحق فأنتم معرضون عنه .

" وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ " (25)

فكل الرسل الذين من قبلك مع كتبهم زبدة رسالتهم وأصلها الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له وبيان أنه الإله الحق المعبود وأن عبادة من سواه باطلة .

وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ(26)

يقول تعالى ردا على من زعم أن له تعالى وتقدس ولدا من الملائكة كمن قال من العرب أن الملائكة بنات الله فقال تعالى سبحان الله " بل عباد مكرمون " أي من الملائكة عباد الله مكرمون عنده في منازل عالية ومقامات سامية وهم له في غاية الطاعة قولا وفعلا .

" لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ " (27)

أي لا يتقدمون بين يديه ولا يخالفونه فيما أمرهم به بل يبادرون إلى فعله وعلمه محيط بهم فلا يخفى عليه من خافية .

" يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ " (28)

قوله " يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم " أي أمورهم الماضية والمستقبلة فلا خروج لهم عن علمه كما لا خروج لهم عن أمره وتدبيره وأنهم لا يشفعون لأحد بدون إذنه ورضاه فإذا أذن لهم وارتضى من يشفعون فيه شفعوا فيه ولكنه تعالى لا يرضى من القول والعمل إلا ما كان خالصا لوجهه متبعا فيه الرسول ، وهذه الآية من أدلة إثبات الشفاعة وأن الملائكة يشفعون " وهم من خشيته مشفقون " أي خائفون وجلون قد خضعوا لجلاله وعنت وجوههم لعزه وجماله .

" وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ " (29)

أي من ادعى منهم أنه إله من دون الله " فذلك نجزيه جهنم " أي فذلك القائل على سبيل الفرض والتقدير نجزيه جهنم بسبب هذا القول الذي قاله كما نجزي غيره من المجرمين " كذلك نجزي الظالمين " أي مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي الظالمين ، والمراد بالظالمين المشركون .

" أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ " (30)

قوله " أولم ير الذين كفروا " أي ألم يعلم الجاحدون لإلهيته العابدون معه غيره أن الله هو المستقل بالخلق المنفرد بالتدبير فكيف يليق أن يُعبد غيره أو يُشرك به ما سواه " أن السماوات والأرض كانتا رتقا " أي كان الجميع متصلا بعضه ببعض متلاصق متراكب بعضه فوق بعض في ابتداء الأمر " ففتقناهما " أي ففتق هذه من هذه فجعل السماوات سبعا والأرض سبعا وفصل ما بين السماء الدنيا والأرض بالهواء فأمطرت السماء وأنبتت الأرض ولهذا قال " وجعلنا من الماء كل شيء حي " أي وهم يشاهدون المخلوقات تحدث شيئا فشيئا عيانا " أفلا يؤمنون " أي أفلا يؤمن هؤلاء الجاحدون فيصدقوا بما يشاهدونه ويخصوا الله بالعبادة .

" وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ " (31)

قوله " وجعلنا في الأرض رواسي " أي جبالا أرسى الأرض بها وقررها وثقلها " أن تميد بهم " لئلا تضطرب وتتحرك فلا يحصل لهم قرار عليها " وجعلنا فيها فجاجا سبلا " أي ثغرا في الجبال يسلكون فيها طرقا من قطر إلى قطر ومن إقليم إلى إقليم كما هو المشاهد في الأرض فيكون الجبل حائلا بين هذه البلاد وهذه البلاد فيجعل الله فيه فجوة أي ثغرة ليسلك الناس فيها من ها هنا إلى ها هنا ولهذا قال " لعلهم يهتدون " رجاء اهتداء الخلق إلى معايشهم وتوحيد خالقهم .

"وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ "(32)

قوله " وجعلنا السماء سقفا " أي للأرض التي أنتم عليها " محفوظا " من السقوط ومن استراق الشيطان للسمع " وهم عن آياتها معرضون " أي غافلون لاهون

" وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ " (33)

قوله " وهو الذي خلق الليل والنهار " أي هذا في ظلامه وسكونه وهذا بضيائه وأنسه يطول هذا تارة ثم يقصر آخر وعكسه الأخر ، وقوله " والشمس " أي هذه لها نور يخصها وفلك بذاته وزمان على حدة وحركة وسر خاص " والقمر " وهذا بنور آخر وفلك آخر وسير آخر وتقدير آخر " كل في فلك يسبحون " أي لكل منهما مدار يجري فيه لا يحيد عنه .

" وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ " (34)

قوله " وما جعلنا لبشر من قبلك " أي يا محمد " الخلد " أي في الدنيا " أفإن مت " أي يا محمد " فهم الخالدون " أي يؤملون أن يعيشوا بعدك لا يكون هذا بل كلٌ إلى الفناء ولهذا قال :

" كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ " (35)

قوله " كل نفس ذائقة الموت " وهذا يشمل سائر نفوس الخلائق وأن هذا كأسا لابد من شربه وإن طال بالعبد المدى وعمِّر سنين " ونبلوكم بالشر والخير فتنة " أي نختبركم بالمصائب تارة وبالنعم أخرى فننظر من يشكر ومن يكفر ومن يصبر ومن يقنط .

" وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ " (36)

يقول تعالى " وإذا رآك الذين كفروا " يعني كفار قريش كأبي جهل وأشباهه " إن يتخذونك إلا هزوا " أي يستهزئون بك وينتقصونك يقولون " أهذا الذي يذكر آلهتكم " يعنون هذا الذي يسب آلهتكم ويسفه أحلامكم وهذا من شدة كفرهم قال تعالى " وهم بذكر الرحمن هم كافرون " أي وهم كافرون بالله .

" خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ " (37)

" خلق الإنسان من عجل " أي خُلق عجولا يبادر الأشياء ويستعجل وقوعها والحكمة في ذكر حاجات الإنسان ها هنا أنه لما ذكر المستهزئين بالرسول صلى الله عليه وسلم وقع في النفوس سرعة الانتقام منهم واستعجلت فقال الله تعالى " خلق الإنسان من عجل " لأنه تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته يؤجل ثم يعجل وينظر ثم لا يؤخر ولهذا قال " سأوريكم آيتي " أي نقمي واقتداري على من عصاني " فلا تستعجلون " أي فلا تستعجلوني بالإتيان به فإنه نازل بكم لا محالة .

" وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " (38)

ويقول الكفار مستعجلين العذاب ومستهزئين متى حصول ما تعدنا به يا محمد من العذاب إن كنت أنت ومن تبعك من الصادقين .

" لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ " (39)

قوله " لو يعلم الذين كفروا " حالهم الشنيعة " حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم " وقد أحاط بهم من كل جانب وغشيهم من كل مكان فلو تيقنوا أنها واقعة بهم لا محالة لما استعجلوا به " ولا هم ينصرون " أي لا ناصر لهم .

" بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ " (40)

قوله " بل تأتيهم " أي النار " بغتة " أي فجأة " فتبهتهم " أي تدحرهم " فلا يستطيعون ردها " إذ هم أذل وأضعف من ذلك " ولا هم ينظرون " أي يمهلون فيؤخر عنهم العذاب ولما ذكر استهزائهم برسوله بقولهم " أهذا الذي يذكر آلهتكم " سلَّاه بأن هذا دأب الأمم السالفة مع رسلهم فقال :

" وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ " (41)

قوله " ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم " أي نزل بهم " ما كانوا به يستهزئون " أي من العذاب الذي كانوا يستبعدون وقوعه .

" قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ " (42)

يقول تعالى ذاكرا عجز هؤلاء الذين اتخذوا من دونه آلهة أنهم محتاجون مضطرون إلى ربهم الرحمن الذي رحمته شملت البر والفاجر في ليلهم ونهارهم فقال " قل من يكلؤكم " أي من يحرسكم ويحفظكم " بالليل والنهار " بالليل إن كنتم نائمين على فرشكم وذهبت حواسكم والنهار وقت انتشاركم وغفلتكم " من الرحمن " أي هل يحفظكم أحد غيره " بل هم عن ذكر ربهم معرضون " أي لا يقرون بنعمه عليهم وإحسانه إليهم بل يعرضون عن آياته وآلائه .

" أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ " (43)

قوله " أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا " استفهام إنكاري وتقريع وتوبيخ أي ألهم آلهة تمنعهم وتكلؤهم غيرنا ليس الأمر كما توهموا ولهذا قال " لا يستطيعون نصر أنفسهم " أي هذه الآلهة التي استندوا إليها غير الله لا يستطيعون نصر أنفسهم " ولا هم منا يصحبون " أي يجارون من عذابنا .

" بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ " (44)

قوله " بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر " أي أمددناهم بالأموال والبنين وأطلنا أعمارهم فاشتغلوا بالتمتع واللهو بها عما له خلقوا وطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وعظم طغيانهم وتغلب كفرهم فاعتقدوا أنهم على شيء ثم قال واعظا لهم " أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها " أي بموت أهلها وفنائهم شيئا فشيئا حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين لم يغتروا ويستمروا على ما هم عليه " أفهم الغالبون " الذين بوسعهم الخروج عن قدر الله وبطاقتهم الامتناع عن الموت فهل هذا وصفهم حتى يغتروا بطول البقاء أم إذا جاءهم رسول ربهم لقبض أرواحهم أذعنوا وذلوا ولم يظهر منهم أدنى ممانعة فهم المغلوبون الأسفلون الأخسرون الأرذلون .

" قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ " (45)

قوله " قل إنما أنذركم بالوحي " أي إنما أنا مبلغ عن الله ما أنذركم به من العذاب والنكال ليس ذلك إلا عما أوحاه الله إلي ولكن لا يجدي هذا عمن أعمى الله بصيرته وختم على سمعه وقلبه ولهذا قال " ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون " أي إذا أنذروا لا ينتفعون به .

" وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ " (46)

قوله " ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك " أي أدنى شيء من عذاب الله " ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين " لم يكن قولهم إلا الدعاء بالويل والثبور والندم والاعتراف بظلمهم وكفرهم واستحقاقهم العذاب .

" وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ " (47)

قوله " ونضع الموازين " الموازين جمع ميزان والمراد ميزان واحد عبر عنه بلفظ الجمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة فيه " القسط " أي العدل " ليوم القيامة " أي لأهل يوم القيامة " فلا تظلم نفس شيئا " أي لا ينقص من إحسان محسن ولا يزاد في إساءة مسيء " وإن كان مثقال حبة من خردل " مثقال الشيء ميزانه أي وإن كان في غاية الخفة والحقارة فإن حبة الخردل مثل في الصغر " أتينا بها " أي جازينا بها " وكفى بنا حاسبين " الحسب في الأصل معناه العد أي كفى بنا محصين ، وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن : سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم " ، وروى الترمزي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله عز وجل سيخلِّص رجلا من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا كل سجل مثل مد البصر ثم يقول : أتنكر من هذا شيئا ؟ أظلمك كتبتي الحافظون ؟ يقول لا يا رب ، فيقول : أفلك عذر ؟ فيقول لا يا رب ، فيقول : بلى إن لك عندنا حسنة ، وإنه لا ظلم عليك اليوم ، فيخرج بطاقة فيها : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، فيقول :أحضُر وزنك ، فيقول : يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات ، فقال : فإنك لا تظلم ، قال فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة ، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ، ولا يثقل مع اسم الله شيء" صححه الألباني .

" وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ " (48)

كثيرا ما يقرن الله بين ذكر موسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما وبين كتابيهما ولهذا قال " ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان " وهي التوراة الفارقة بين الحق والباطل والهدى والضلال وأنها ضياء أي نور يهتدي به المهتدون ويأتم به السالكون وتعرف به الأحكام ويميز به بين الحلال والحرام وينير في ظلمة الجهل والبدع والغواية " وذكرا للمتقين " يتذكرون به ما ينفعهم وما يضرهم ويتذكرون به الخير والشر وخُصَّ المتقين بالذكر لأنهم ينتفعون بذلك علما وعملا ثم وصفهم بقوله :

" الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ " (49)

قوله " الذين يخشون ربهم بالغيب " أي يخشونه في حال غيبتهم وعدم شهادة الناس لهم فمع المشاهدة أولى فيتورعون عما حرمه ويقومون بما ألزم " وهم من الساعة مشفقون " أي خائفون وجلون لكمال معرفتهم بربهم .

" وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ " (50)

قوله " وهذا " أي القرآن " ذكر مبارك أنزلناه " فوصفه بوصفين جليلين كونه ذكرا يتذكر به جميع المطالب من معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله ومن صفات الرسل والأولياء وأحوالهم ومن أحكام الجزاء والجنة والنار فيتذكر به المسائل والدلائل العقلية والنقلية وسماه ذكرا لأنه يذكر ما ركَّزه الله في العقول والفطر من التصديق بالأخبار الصادقة والأمر بالحسن عقلا والنهي عن القبيح عقلا وكونه مباركا لكثرة خيره ونمائه وزيادته ولا شيء أعظم بركة من هذا القرآن فإن كل خير ونعمة وزيادة دينية أو دنيوية أو أخروية فإنها بسببه وأثر عن العمل به فإذا كان ذكرا مباركا وجب تلقيه بالقبول والانقياد والتسليم وشكرا لله على هذه المنحة الجليلة والقيام بها واستخراج بركته بتعلم ألفاظه ومعانيه ومقابلته بضد هذه الحالة من الإعراض عنه والإضراب عنه صفحا وإنكاره وعدم الإيمان به فهذا من أعظم الكفر وأشد الجهل والظلم ولهذا أنكر تعالى على من أنكره فقال " أفأنتم له منكرون " أي أفتنكرونه وهو في غاية الجلاء والظهور .

" وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ " (51)

قوله " ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل " أي أعطيناه هداه من قبل النبوة فوفقناه للنظر والاستدلال لما جنَّ عليه الليل فرأى الشمس والقمر والنجم " وكنا به عالمين " أي وكان أهلا لذلك فهو موضع لإيتاء الرشد وأنه يصلح لذلك .

" إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ " (52)

قوله " إذ قال لأبيه " أي اذكر حين قال لأبيه آزر وقومه النمرود وغيره " ما هذه التماثيل " التماثيل هي الأصنام وأصل التمثال الشيء المصنوع مشابها لشيء من مخلوقات الله سبحانه وتعالى يقال مثلت الشيء بالشيء إذا جعلته مشابها له أنكر عليهم عبادتها بقوله " ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون " العكوف عبارة عن اللزوم والاستمرار على الشيء واللام في لها للاختصاص أي ما هذه الأصنام التي أنتم مقيمون على عبادتها .

" قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ " (53)

أي أجابوه بهذا الجواب الذي هو العصا التي يتوكأ عليها كل عاجز والحبل الذي يتشبث به كل غريق وهو التمسك بمجرد تقليد الآباء أي وجدنا آبائنا يعبدونها فعبدناها اقتداءً بهم ومشياً على طريقتهم .

" قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ " (54)

أي الكلام مع آبائكم الذين احتججتم بصنيعهم كالكلام معكم فأنتم وآباؤكم " في ضلال مبين " أي في خسران واضح ظاهر لا يخفى على أحد ولا يلتبس على ذي عقل فإن قوم إبراهيم عبدوا الأصنام التي لا تضر ولا تنفع وليس بعد هذا ضلال .

" قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ " (55)

قوله " قالوا " على وجه الاستغراب لقوله والاستفهام لما قالوا كيف بادئهم بتسفيههم وتسفيه آبائهم " أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين " أي هذا القول الذي قلته والذي جئتنا به هل هو حق وجد أم كلام كأنه كلام لاعب مازح فرد عليهم إبراهيم ردا يبين به وجه سفههم وقلة عقولهم .

" قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ " (56)

جمع لهم بين الدليل العقلي والدليل السمعي ، أما الدليل العقلي فإنه قد علم كل أحد حتى هؤلاء الذين جادلهم إبراهيم أن الله وحده الخالق لجميع المخلوقات من بني آدم والملائكة والجن والبهائم والسماوات والأرض المدبر لهن بجميع أنواع التدبير فيكون كل مخلوق مفطور مدبر متصرف فيه ودخل في ذلك جميع ما عبد من دون الله فلا يليق عند من له أدنى مسكة من عقل وتمييز أن يعبد مخلوقا متصرفا فيه لا يملكون نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ويدع عبادة الخالق الرازق المدبر أما الدليل السمعي فهو المنقول عن الرسول عليه السلام فإن ما جاء به معصوم لا يرد ولا يغلط ولا يخبر بغير الحق ومن أنواع هذا القسم شهادة أحد الرسل على هذا فلهذا قال إبراهيم " وأنا على ذلكم من الشاهدين " أي وأنا أشهد أنه لا إله غيره ولا رب سواه .

" وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ " (57)

قوله " وتالله لأكيدن أصنامكم " أقسم الخليل أمام أحدهم أن يمكر بأصنامهم وذلك بتكسيرها " بعد أن تولوا مدبرين " بعد ذهابكم عنها .

" فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ " (58)

قوله " فجعلهم جذاذا " أي حطاما كسرها كلها " إلا كبيرا لهم " يعني إلا الصنم الكبير عندهم " لعلهم إليه يرجعون " كي يرجع القوم إليه ويسألوه فيتبين عجزهم وضلالهم وتقوم الحجة عليهم .

" قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ " (59)

فحين رجعوا من عيدهم ورأوا ما حدث بآلهتهم من الإهانة والإذلال قالوا " إنه لمن الظالمين " في صنيعه هذا باجترائه على الآلهة المستحقة للتعظيم والتوقير .

" قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ " (60)

" قالوا " نقلا عن من سمع إبراهيم يحلف بأنه سيكيد أصنامهم " سمعنا فتى " أي شابا وكان له من العمر أربعين سنة حين بعثه الله نبيا رسولا " يذكرهم " أي يذكر الأصنام بسوء " يقال له إبراهيم " أي هو إبراهيم

" قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ "(61)

فلما تحققوا أنه إبراهيم " قالوا فأتوا به " قال رؤساؤهم فأتوا بإبراهيم " على أعين الناس " على رءوس الأشهاد في الملأ الأكبر بحضرة الناس " لعلهم يشهدون " كي يشهدوا على اعترافه بما قال ليكون ذلك حجة عليه .

" قَالُوا ءَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ " (62)

حين حضر الناس وأُحضر إبراهيم قالوا له " ءَأنت فعلت هذا " أي التكسير " بآلهتنا يا إبراهيم " وهذا استفهام وتقرير أي فما الذي جرأك وما الذي أوجب لك الإقدام على هذا الأمر .

" قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ " (63)

فقال إبراهيم والناس مشاهدون " بل فعله كبيرهم هذا " أي كسرها غضبا عليها لما عُبدت معه وأراد أن تكون العبادة منكم لصنمكم الكبير وحده وهذا الكلام من إبراهيم المقصود منه إلزام الخصم وإقامة الحجة عليه ولهذا قال " فاسألوهم إن كانوا ينطقون " وأراد الأصنام المكسرة اسألوها لِمَ كُسرت والصنم الذي لم يُكسر اسألوه لأي شيء كسرها إن كان عندهم نطق فسيجيبونكم إلى ذلك وأنا وأنتم وكل أحد يدري أنها لا تنطق ولا تتكلم ولا تنفع ولا تضر بل ولا تنصر نفسها ممن يريدها بأذى .

فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64)

قوله " فرجعوا إلى أنفسهم " أي فأسقط في أيديهم وبدا لهم ضلالهم كيف يعبدونها وهي عاجزة عن أن تدفع عن نفسها شيئا أو أن تجيب سائلها وأقروا على أنفسهم بالظلم والشرك وعلموا أنهم ضالون في عبادتهم " فقالوا إنكم أنتم الظالمون " أي قال بعضهم لبعض أنتم الظالمون لأنفسكم بعبادة هذه الجمادات وليس الظلم من نسبتم الظلم إليه بقولكم إنه لمن الظالمين ولكن لم يستمروا على هذه الحال .

" ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ " (65)

قوله " ثم نُكسوا على رءوسهم " أي رجعوا إلى جهلهم وعنادهم شبَّه سبحانه عودهم إلى الباطل بصيرورة أسفل الشيء أعلاه فقالوا لإبراهيم " لقد علمت ما هؤلاء ينطقون " فكيف تأمرنا أن نسألها وأنت تعلم أنها لا تنطق .

" قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ " (66)

قال إبراهيم محقرا لشأن الأصنام كيف تعبدون أصناما لا تنفع إذا عُبدت ولا تضر إذا تُركت .

" أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ "(67)

قُبحا لكم ولآلهتكم التي تعبدونها من دون الله تعالى " أفلا تعقلون " فتدركون سوء ما أنتم عليه .

" قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ " (68)

لما بطلت حجتهم وظهر الحق عدلوا إلى استعمال سلطانهم وقالوا حرقوا إبراهيم بالنار غضبا لآلهتكم إن كنتم ناصرين لها فأشعلوا نارا عظيمة وألقوه فيها فقال حسبي الله ونعم الوكيل كما رواه البخاري عن ابن عباس فانتصر الله لخليله .

" قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ " (69)

فلم ينله فيها أذى ولم يصبه منها مكروه .

" وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ " (70)

قوله " وأرادوا به كيدا " حيث حاولوا إحراقه " فجعلناهم الأخسرين " أي المغلوبين الأسفلين .

وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ(71)

قوله " ونجيناه ولوطا " أي نجينا إبراهيم وابن أخيه لوط الذي ءامن به من العراق وأوحى إليه وجعله نبيا وبعثه إلى قرية سدوم وهي الآن في منطقة تبوك شمال بلاد الحرمين وأخرجهما من أرض العراق إلى الأرض المقدسة من بلاد الشام " التي باركنا فيها للعالمين " لكثرة الخيرات وفيها أكثر الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام .

" وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ " (72)

" ووهبنا " ابنا له حين اعتزل قومه " إسحاق ويعقوب " وإسحاق أنجب يعقوب " نافلة " أي زيادة على ذلك وذلك بعد كبر سنه وزوجته سارة كانت عاقر " وكلا " من إبراهيم وإسحاق ويعقوب " جعلنا صالحين " أي قائمين بحقوقه وحقوق عباده .

وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوالَنَا عَابِدِينَ73

قوله " وجعلناهم أئمة " من صلاحهم أنه جعلهم أئمة وهذا من أكبر نعم الله على عبده أن يكون إماما " يهدون بأمرنا " أي يهدون الناس بديننا لا يأمرون بأهواء أنفسهم بل بأمر الله ودينه واتباع مرضاته ولا يكون العبد إماما حتى يدعو إلى أمر الله " وأوحينا إليهم فعل الخيرات " يفعلونها ويدعون الناس إليها وهذا شامل للخيرات كلها من حقوق الله وحقوق عباده " وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة " هذا من باب عطف الخاص على العام لشرف هاتين العبادتين وفضلهما ولأن من كملهما كما أُمر كان قائما بدينه ومن ضيعهما كان لما سواهما أضيع ولأن الصلاة أفضل الأعمال التي فيها حقه والزكاة أفضل الأعمال التي فيها الإحسان لخلقه " وكانوا لنا " أي لا لغيرنا " عابدين " أي مديمين على العبادات القلبية والقولية والبدنية في أكثر أوقاتهم فاستحقوا أن تكون العبادة وصفهم فاتصفوا بما أمر الله به الخلق وخلقهم لأجله .

وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74)

هذا امتنان من الله على رسوله لوط عليه السلام بالعلم الشرعي والحكم بين الناس بالصواب والسداد وأن الله أرسله إلى قومه يدعوهم إلى عبادة الله وينهاهم عما هم عليه من الفواحش فلبث يدعوهم فلم يستجيب له إلا ابنتيه فقلب الله عليهم ديارهم وعذبهم عن آخرهم لأنهم " كانوا قوم سوء فاسقين " أي خارجين عن طاعة الله ، والفسوق الخروج فقد كذبوا الداعي وتوعدوه بالإخراج ونجَّى الله لوطا وأهله إلا امرأته فأمره أن يسري بهم ليلا ليبعدوا عن القرية فسروا ونجوا وذلك من فضل الله عليهم ومنته .

" وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ " (75)

قوله " وأدخلناه في رحمتنا " التي من دخلها كان من الآمنين من جميع المخاوف النائلين كل خير وسعادة وبر وسرور وثناء " إنه من الصالحين " الذين صلحت أعمالهم وزكت أحوالهم وأصلح الله فاسدهم والصلاح هو السبب لدخول العبد في رحمة الله كما أن الفساد سبب لحرمانه الرحمة والخير وأعظم الناس صلاحا الأنبياء عليهم السلام ولهذا يصفهم بالصلاح .

" وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ " (76)

واذكر أيها الرسول نوحا عليه السلام حين نادى ربه " من قبل " أي من قبلك ومن قبل إبراهيم ولوط " فاستجبنا له " دعائه " فنجيناه وأهله " المؤمنين به " من الكرب العظيم " من الغم الشديد من الغرق والطوفان .

" وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ " (77)

قوله " ونصرناه " أي وخلصناه ونجيناه منتصرا " من القوم الذين كذبوا بآياتنا " الدالة على صدقه " إنهم كانوا قوم سوء " أي أهل قبح " فأغرقناهم أجمعين " أي أهلكهم الله بعامة ولم يبق على وجه الأرض منهم أحد إذ دعا عليهم نبيهم .

" وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ " (78)

واذكر هذين النبيين الكريمين " داود وسليمان " مثنيا مبجلا إذ آتاهما الله العلم الواسع والحكم بين العباد بدليل قوله " إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم " أي إذ تحاكم إليهما صاحب حرث نفشت فيه غنم قوم أخرى أي رعت ليلا فأكلت ما في أشجاره ورعت زرعه فقضى فيه داود عليه السلام بأن الغنم تكون لصاحب الحرث نظرا إلى تفريط أصحابها فعاقبهم بهذه العقوبة " وكنا لحكمهم شاهدين " أي لم يغب عنا .

" فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ " (79)

قوله " ففهمناها سليمان " أي فهمناه هذه القضية مراعاة لمصلحة الطرفين مع العدل فحكم فيها سليمان بحكم موافق للصواب بأن أصحاب الغنم يدفعون غنمهم إلى صاحب الحرث فينتفع بدرها وصوفها ويقومون على بستان صاحب الحرث حتى يعود إلى حاله الأولى فإذا عاد إلى حاله ترادا ورجع كل منهما بماله وكان هذا من كمال فهمه وفطنته عليه السلام " وكلا " من داود وسليمان " آتينا " أي أعطيناه " حكما وعلما " أي النبوة والعلم بأحكام الشرع ، وقوله " وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين " ومننا على داود بتطويع الجبال تسبح معه إذا سبَّح " والطير " معطوف على الجبال أي والطير مطوعة تسبح معه أيضا " وكنا فاعلين " لذلك التفهيم .

" وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ " (80)

قوله " وعلمناه صنعة لبوس لكم " أي علم الله داود عليه السلام صنعة الدروع والفائدة فيها " لتحصنكم من بأسكم " أي هي وقاية لكم وحفظ عند الحرب واشتداد البأس " فهل أنتم شاكرون " نعمة الله عليكم حيث أجراها على يد عبده داود .

" وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ " (81)

قوله " ولسليمان الريح " أي سخرناها " عاصفة " أي سريعة في مرورها " تجري بأمره " تمتثل أمره " إلى الأرض التي باركنا فيها " بما بعث فيها من الأنبياء وبما بسط فيها من الخيرات وهي أرض بيت المقدس بالشام فيذهب على الريح شرقا وغربا ويكون مأواها ورجوعها إلى الأرض المباركة " وكنا بكل شيء عالمين " قد أحاط علمنا بجميع الأشياء .

" وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ " (82)

قوله " ومن الشياطين من يغوصون له " أي في البحار يستخرجون اللآليء " ويعملون عملا دون ذلك " وغير ذلك من الأعمال كالمحاريب والتماثيل وأحواض المياه والقدور الكبيرة " وكنا لهم حافظين " أي لأعمالهم كالمحاريب وغيرها .

وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)

يذكر تعالى عن أيوب عليه السلام ما كان أصابه من البلاء في ماله وولده وجسده وذلك أنه كان له من الدواب والأنعام والحرث شيء كثير وأولادا كثيرة ومنازل مرضية فابتلي في ذلك كله وذهب عن آخره ثم ابتلي في جسده ولم يبق من الناس أحد يحنو عليه سوى زوجته كانت تقوم بأمره فصبر واحتسب ونادى ربه عز وجل أن قد أصابني الضر " وأنت أرحم الراحمين " فاكشفه عني وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل " رواه أحمد وصححه أحمد شاكر .

" فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ " 84

فاستجبنا له دعائه ورفعنا عنه البلاء ورددنا عليه ما فقده من أهل وولد ومال مضاعفة فعلنا به ذلك رحمة منا ليكون قدوة لكل صابر على الابتلاء راجيا رحمة ربه عابدا له .

"وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ"(85)

أي واذكر عبادنا المصطفين وأنبيائنا المرسلين بأحسن الذكر واثن عليهم أبلغ الثناء " إسماعيل" ابن إبراهيم عليهما السلام " وإدريس وذا الكفل " نبيين من أنبياء بني إسرائيل كلٌ من هؤلاء المذكورين من الصابرين والصبر هو حبس النفس ومنعها مما تميل بطبعها إليه ، وهذا يشمل أنواع الصبر الثلاثة : الصبر على طاعة الله والصبر عن معصية الله والصبر على أقدار الله المؤلمة فلا يستحق العبد اسم الصابر التام حتى يوفي هذه الثلاثة حقها فهؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد وصفهم الله بالصبر فدل أنهم وفوها حقها وقاموا بها كما ينبغي .

" وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ " (86)

قوله " وأدخلناهم في رحمتنا " أي جعلناهم أنبياء وأدخلناهم الجنة " إنهم من الصالحين " أي العمل بطاعة ربهم وصلحت سرائرهم وعلانيتهم .

" وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ " (87)

قوله " وذا النون " أي صاحب الحوت وهو يونس بن متَّى عليه السلام فقد بعثه الله إلى أهل قرية نينوى من أرض الموصل بالعراق " إذ ذهب " دون إذن من ربه غير صابر عليهم " مغاضبا " أي غاضبا عليهم لتماديهم في العصيان فخرج من بين أظهرهم " فظن أن لن نقدر عليه " وظن أن الله لن يضيق عليه ويؤاخذه بهذه المخالفة فابتلاه بشدة الضيق والحبس والتقمه الحوت في البحر فإنه قد ذهب فركب مع قوم في سفينة فلجلجت بهم وخافوا أن يغرقوا فاقترعوا على رجل يلقونه من بين أيديهم يتخففون منه فوقعت القرعة على يونس فألقى نفسه في البحر وقد أرسل إليه سبحانه حوتا فالتقم يونس حين ألقى نفسه من السفينة " فنادى في الظلمات " فناجى ربه في ظلمات الليل والبحر وبطن الحوت قائلا " أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " أي لا معبود بحق غيرك تنزهتَ وتقدستَ " إني كنت من الظالمين " تائبا معترفا بظلمه بتركه الصبر على قومه .

"فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ"(88)

قوله " فاستجبنا له ونجيناه من الغم " فأجبنا دعوته وأخرجناه من بطن الحوت وتلك الظلمات " وكذلك ننجي المؤمنين " وهذا وعد وبشارة لكل مؤمن وقع في شدة وغم أن الله تعالى سينجيه منها ويكشف عنه بإيمانه كما فعل بيونس عليه السلام وقد جاء الترغيب بالدعاء بها عن سيد الأنبياء فقد روى الإمام أحمد عن سعد بن أبي وقاص وفيه " دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فإنها لم يدع بها مسلم ربه بشيء قط إلا استجاب الله له " رواه الترمذي وصححه الألباني .

" وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ " (89)

يخبر تعالى عن عبده زكريا حين طلب أن يهبه الله ولدا يكون من بعده نبيا " إذ نادى ربه " أي خفية عن قومه " رب لا تذرني فردا " أي لا ولد لي ولا وارث يكون بعدي في الناس " وأنت خير الوارثين " هذا دعاء وثناء أي وأنت خير الباقين وخير من خلفني بخير .

" فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ " (90)

" فاستجبنا له " دعائه " ووهبنا له " على الكبر ابنه يحيى وجعلنا زوجته صالحة للحمل والولادة بعد أن كانت عاقرا لأنهم كانوا يبادرون إلى كل خير ويدعوننا راغبين فيما عندنا من الثواب خائفين من عقوبتنا وكانوا لنا خاضعين متورعين .

" وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ " (91)

واذكر أيها الرسول قصة مريم التي صانت فرجها من الزنى فأرسل الله إليها جبريل عليه السلام الذي نسبه الله إليه نسبة تشريف فنفخ في جيب قميصها فوصلت النفخة إلى رحمها فحملت بعيسى عليه السلام وكانت هي وابنها عيسى علامة للناس على قدرة الله وأنه لا يعجزه شيء حيث خلقه من غير أب .

" إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ " (92)

قوله " إن هذه أمتكم أمة واحدة " أي إن دينكم دين واحد وربكم واحد والشريعة مختلفة " وأنا ربكم فاعبدون " فأخلصوا العبادة لي وحدي .

" وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ " (93)

قوله " وتقطعوا أمرهم بينهم " أي اختلفت الأمم على رسلها فمن بين مصدق لهم ومكذب ولهذا قال " كل إلينا راجعون " أي يوم القيامة ليجازي كلا بحسب عمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر .

" فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ " (94)

قوله " فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن " أي فمن عمل منكم من الأعمال الصالحة وهو مؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر " فلا كفران لسعيه " أي فلا جحود لعمله الصالح " وإنا له كاتبون " يجده في كتاب عمله يوم يبعث فيسر به .

" وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ " (95)

أي يمتنع على القرى المهلكة المعذبة الرجوع إلى الدنيا ليستدركوا ما فرطوا فيه فلا سبيل للرجوع لمن أُهلك وعُذب .

" حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ " (96)

قوله " حتى إذا فُتحت يأجوج ومأجوج " يأجوج ومأجوج من نسل نوح عليه السلام من أولاد يافث أبي الترك والترك شرذمة منهم تُركوا من وراء السد الذي بناه ذو القرنين لما شُكِيَ إليه إفسادهم في الأرض " وهم من كل حدب ينسلون " أي يسرعون في المشي إلى الفساد والحدب هو المرتفع من الأرض وفي آخر الزمان ينفتح السد عنهم فيخرجون للناس وفي هذا دلالة على كثرتهم الباهرة وإسراعهم في الأرض ، روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليُحجنَّ البيت وليعتمرنَّ بعد خروج يأجوج ومأجوج " .

" وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ " (97)

قوله " واقترب الوعد الحق " أي يوم القيامة إذا حصلت هذه الأهوال الزلازل أزفت الساعة واقتربت " فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا " من شدة ما يشاهدونه من الأمور العظام يقولون " يا ولينا قد كنا في غفلة من هذا " أي في الدنيا " بل كنا ظالمين " يعترفون بظلمهم لأنفسهم حيث لا ينفعهم ذلك

" إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ " (98)

إنكم أيها المشركون وما تعبدونه من دون الله من الأصنام وممن يرضى بعبادتكم له من الإنس والجن وقود جهنم أنتم ومعبوداتكم لها داخلون .

لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99)

لو كان هؤلاء الذين عبدتموهم من دون الله آلهة تستحق العبادة ما دخلوا نار جهنم معكم أيها المشركون وإن كلا من العابدين والمعبودين خالدون في نار جهنم .

" لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ " (100)

قوله " لهم فيها زفير " الزفير خروج أنفاسهم والشهيق ولوج أنفاسهم فلهم فيها من شدة ما يلاقون من الآلام أنين وتنفس شديد " وهم فيها لا يسمعون " أي وهم في النار لا يسمعون الأصوات من شدة الهول المفزع الذي أصابهم .

" إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ " (101)

لما ذكر تعالى أهل النار وعذابهم بسبب شركهم بالله عطف بذكر السعداء المؤمنين بالله ورسوله وهم الذين سبقت لهم من الله السعادة وأسلفوا الأعمال الصالحة في الدنيا " أولئك عنها مبعدون " أي أولئك عن النار مبعدون فلا يدخلونها ولا يكونون قريبا منها .

" لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ " (102)

لا يصل إلى سمعهم صوت جهنم وهم في ما اشتهت أنفسهم من النعيم والملذات ماكثون لا ينقطع نعيمهم أبدا .

" لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ " (103)

لا يخيفهم الهول العظيم حين تطبق النار على أهلها وتستقبلهم الملائكة بالتهنئة قائلين " هذا يومكم الذي كنتم توعدون " به في الدنيا وتبشرون بما تلاقون فيه من النعيم .

" يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ " (104)

" يوم نطوي السماء " كما تطوى الصحيفة على ما كتب فيها ونبعث فيه الخلق على هيئة خلقنا لهم أول مرة وعدنا بذلك وعدا لا خلف فيه إنا كنا منجزين ما نعد به ، أخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال " إنكم محشورون إلى الله عز وجل حفاة عراة غرلا كما بدأنا أول خلق نعيده " .

" وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ " (105)

" ولقد كتبنا في الزبور " أي الزبر في الأصل الكتب يقال زبرت أي كتبت وعلى هذا يصح إطلاق الزبور على الكتاب الذي أنزل على داود والتوراة التي أنزلت على موسى والإنجيل الذي أنزل على عيسى والقرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم " من بعد الذكر " أي اللوح المحفوظ " أن الأرض " أي أرض الجنة " يرثها عبادي الصالحون " الذين قاموا بالمأمورات واجتنبوا المنهيات وهم الذين يورثهم الله الجنات .

" إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ " (106)

يثني الله تعالى على كتابه العزيز القرآن ويبين كفايته التامة عن كل شيء وأنه لا يُستغنى عنه فقال " إن في هذا لبلاغا " أي لمنفعة وعلما " لقوم عابدين " لربهم بما شرعه لهم فهم الذين ينتفعون به .

" وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ " (107)

ثم أثنى على رسوله الذي جاء بالقرآن فقال " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " أي وما بعثناك يا محمد رسولا إلا رحمة لجميع الخلق لما تتصف به من الرحمة على هداية الناس وإنقاذهم من عذاب الله فهو رحمته المهداة لعباده ، أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قيل يا رسول الله : ادع على المشركين ، قال : إني لم أُبعث لعَّانا وإنما بعثت رحمة .

" قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ " (108)

قوله " قل " يا محمد للمشركين " إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد " أي الذي لا يستحق العبادة إلا هو ولهذا قال " فهل أنتم مسلمون " أي منقادون لعبوديته مستسلمون لألوهيته .

" فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ " (109)

قوله " فإن تولوا " أي تركوا ما دعوتهم إليه " فقل آذنتكم على سواء " أي أعلمتكم أني حرب لكم كما أنكم حرب لي بريء منكم كما أنكم براء مني " وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون " أي هو واقع لا محالة ولكن لا علم لي بقربه أو ببعده .

" إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ " (110)

أي إن الله يعلم الغيب جميعه ويعلم ما يظهره العباد وما يسرون ويعلم الظواهر والضمائر ويعلم السر وأخفى ويعلم ما العباد عاملون في إجهارهم وإسرارهم وسيجزيهم على ذلك على القليل والجليل .

" وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ " (111)

ولست أدري هل إمهالكم بالعذاب اختبار لكم واستدراج وتمتيع لكم إلى أمد مقدر في علم الله .

" قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ " (112)

قوله " قال رب احكم بالحق " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم داعيا ربه افصل بيننا وبين قومنا المكذبين بالحق " وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون " وبربنا نستعين على ما تقولون من الكفر والتكذيب .

تم تفسير سورة الأنبياء ولله الحمد والمنة

9 - 8 - 1441هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

2 + 9 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 132 الجزء الثالث : شروط قبول الدعاء - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 131 الجزء الثالث ‌‌وجوب النهي عن المنكر على الجميع - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر