الدرس الخامس والثلاثون: دفن الميت

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الأحد 11 ذو القعدة 1434هـ | عدد الزيارات: 2111 القسم: تهذيب فتاوى اللجنة الدائمة -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

وبعد

اللحد في القبر هو أن يُحفر في الأرض الصلبة إلى أسفل طولاً ، ثم يميل الحافر بالحفر إلى جانبه الذي من جهة القبلة ليوضع الميت في الحفر الجانبي مستقبلاً القبلة ولا يتيسر ذلك إلا في الأرض الصلبة أو المتماسكة .

والشق هو أن يُحفر القبر في الأرض طولاً فقط ليوضع الميت في ذلك طولاً ، ويكون ذلك في الأرض الرخوة غير المتماسكة كالأرض الرملية ، روى أبو داود في سننه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في ذلك : " احفروا وأوسعوا وأعمقوا " ، واستحسن الشافعي وأبو الخطاب أن يكون عمقه قدر قامة ، ورأي عمر بن عبد العزيز أن يحفر إلى السرة ، واستحب أحمد أن يعمق إلى الصدر ، وهي متقاربة والسنة أن يعمق تعميقاً يمنع خروج الريح وحفر السباع له .

ومن السنة أن يجعل في القبر الذي يدفن فيه الميت لحد ، كما فعل الصحابة بقبر النبي صلى الله عليه وسلم ، ويعني ذلك أن الحافر يحفر شقاً مستطيلاً حتى إذا بلغ من العمق ما يكفي حفر فيه مما يلي القبلة مكاناً يوضع فيه الميت ، وهذا هو اللحد ، روى مسلم في صحيحه عن عامر بن سعد بن أبي وقاص " أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما قال في مرضه الذي هلك فيه : الحدوا لي لحداً ، وانصبوا علي اللبن نصباً ، كما صُنع برسول الله صلى الله عليه وسلم " ، فإن كانت الأرض رخوة جعل له من الحجارة شبه اللحد .
أما طريقة دفن الميت وتوجيهه في قبره فالمستحب أن يدخل رأسه من الجهة التي ستكون فيها رجلاه من القبر إذا تيسر ذلك ، ثم يسل سلاً حتى يتم وضعه في لحده الذي جُعل له في الحفر مما يلي القبلة على جنبه الأيمن ، ويوضع الميت في اللحد على جنبه الأيمن مستقبلاً القبلة بوجهه ، ويوضع تحت رأسه شيء مرتفع لبنة أو حجر أو تراب كما يصنع الحي ، ويدنى من الجدار القبلي من القبر لئلا ينقلب على وجهه ، ويسند بشيء من وراء ظهره لئلا ينقلب إلى خلفه ، وينصب عليه لبن من خلفه نصباً ، ويسد ما بين اللبن من خلل بالطين لئلا يصل إليه التراب لقول سعد بن أبي وقاص : " وانصبوا علي اللبن نصباً كما صُنع برسول الله صلى الله عليه وسلم " ، فإن لم يمكن لبن وضع حجر أو قصب أو حشيش ونحو ذلك بما يتيسر ، ثم يهال عليه التراب .
ويقول من تولى دفنه حين وضعه في اللحد بسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما روى الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أدخل الميت القبر قال : " بسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم " وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب .

لا يجوز أن يُدفن الكفار أياً كانت دياناتهم في مقابر المسلمين ، ولا أن تُدفن أعضاؤهم المبتورة منهم فيها ، ولا يجوز أن يُجعل لهم مقبرة خاصة في أرض الجزيرة العربية لدفن موتاهم ، أو ما بُتر منهم من أعضائهم لما يترتب على ذلك من المفاسد الدينية والدنيوية ، ولكن تسلم الجثة لوليها ويسلم العضو المبتور لصاحبه ، أو وليه لينقله إلى ما يشاء خارج أرض الجزيرة ، فإن امتنع ولي الجثة من تسلمها ، أو صاحب العضو المبتور أو وليه من تسلمه ولم يتيسر إخراجها لتدفن خارج الجزيرة دفنت في أرض مجهولة غير مملوكة لأحد تحقيقاً لوجوب مواراتها ، وحرصاً على السلامة من أذاها ، ولا يجوز تكليف بيت مال المسلمين بنقلها إلى خارج الجزيرة لعدم الدليل على ذلك .

الذي لا يُصلي ويموت وهو تارك للصلاة لا يدفن في مقابر المسلمين لأن تارك الصلاة كافر .

إذا وُجد من الكفار من يقوم بدفن موتاهم فليس للمسلمين أن يتولوا دفنهم ، ولا أن يشاركوا الكفار ويعاونوهم في دفنهم ، أو يجاملوهم في تشييع جنائزهم عملاً بالتقاليد السياسية ، فإن ذلك لم يعرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا عن الخلفاء الراشدين ، بل نهى اللهُ رسولَه صلى الله عليه وسلم أن يقوم على قبر عبد الله بن أُبَي بن سلول ، وعلل ذلك بكفره ، قال تعالى " وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰٓ أَحَدٖ مِّنهُم مَّاتَ أَبَدٗا وَلَا تَقُمۡ عَلَىٰ قَبرِهِۦٓۖ إِنَّهُمۡ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَمَاتُواْ وَهُمۡ فَٰسِقُونَ " التوبة 84 ، وأما إذا لم يوجد منهم من يدفنه دفنه المسلمون كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بقتلى بدر ، وبعمه أبي طالب لما توفي قال لعلي : " اذهب فواره " .

السنة لمن أراد أن يدعو للميت بعد دفنه وتسوية التراب عليه أن يدعو وهو قائم ، والأصل في ذلك ما رواه أبو داود بسنده عن عثمان رضي الله عنه قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال : استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل " .

هدي النبي صلى الله عليه وسلم إذا تبع الجنازة أنه لا يسمع له صوت بالتهليل أو القراءة أو نحو ذلك ، ولم يأمر بالتهليل الجماعي فيما نعلم ، بل قد رُوي عنه صلى الله عليه وسلم " أنه نهى أن يتبع الميت بصوت أو نار " رواه أبو داود ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : لا يستحب رفع الصوت مع الجنازة لا بقراءة ولا ذكر ولا غير ذلك ، هذا مذهب الأئمة الأربعة وهو المأثور عن السلف من الصحابة والتابعين ولا أعلم فيه مخالفاً .

الصدقة عن الميت مشروعة ، لكن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يقسم صدقات في المقبرة بعد دفن الميت أو قبله أو في أي وقت آخر ، مع كثرة تشييعه الجنائز .

يحرم على المسلم قتل نفسه ، قال تعالى " وَلَا تُلقُواْ بِأَيدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهلُكَةِ " البقرة 195 ، وقال تعالى " وَلَا تَقتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيماً * وَمَن يَفعَلۡ ذَٰلِكَ عُدۡوَٰناً وَظُلماً فَسَوۡفَ نُصلِيهِ نَارًاۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرًا " النساء 29 ، 30 ، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من قتل نفسه بشيء عُذِّب به يوم القيامة " رواه البخاري ومسلم ، ومن أقدم على قتل نفسه فهو مرتكب لكبيرة من الكبائر ، ومتعرض لعذاب الله ، ولكن يجوز أن يُترحم عليه ، وأن يُدعى له ، كما يجوز تعزية أهله وأقاربه لأنه لم يكفر بقتل نفسه .

الصدقة عن الميت من الأمور المشروعة ، وسواء كانت هذه الصدقة مالاً أو دعاءً ، فقد روى مسلم في الصحيح ، والبخاري في الأدب المفرد ، وأصحاب السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له " فهذا الحديث يدل بعمومه على أن ثواب الصدقة يصل إلى الميت ، وإذا تصدق في أوقات الفضائل كرمضان وعشر ذي الحجة كان ذلك أفضل وأفضل البقاع مكة المكرمة لما في ذلك من مضاعفة الأجر ، إذا وجد فيها من هو محتاج للصدقة ، وإلا فالأفضل صرفها في أشد الفقراء حاجة في أي مكان ، وفي الفقراء من الأقارب أفضل وأعظم أجراً لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " الصدقة على الفقير صدقة ، وعلى ذي الرحم اثنتان صدقة وصلة " أخرجه أحمد .

لا يجوز استئجار من يقرأ القرآن على قبر الميت أو على روحه ، ويهب ثوابه للميت لأنه لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من السلف ، ولا أمر به أحد من أئمة الدين ، ولا رخَّص فيه أحد منهم فيما نعلم ، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يزور القبور ، ويدعو للأموات بأدعية علمها أصحابه وتعلموها منه ، من ذلك : " السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، نسأل الله لنا ولكم العافية " .

ولا يجوز قراءة القرآن للميت ولا يصل إليه ثواب هذه القراءة في أصح قولي العلماء بل ذلك بدعة فإذا قرأ إنسان قرآناً ووهب ثوابه للميت فالصحيح أنه لا يصل إليه ثواب القراءة لأنها ليست من عمله وقد قال تعالى " وَأَن لَّيسَ لِلإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ " النجم 39 ، وإنما هي من عمل الحي وثواب عمله له ولا يملك أن يهب ثواب قراءة لغيره .

فالصحيح من أقوال العلماء أن فعل القرب من حي لميت مسلم لا يجوز ، إلا في حدود ما ورد الشرع بفعله مثل الدعاء له والاستغفار ، والحج والعمرة ، والصدقة عنه والضحية ، وصوم الواجب عمَّن مات وعليه صوم واجب .

تحرم الكتابة على القبر ، سواء كانت اسم المقبور وتاريخ وفاته أو غير ذلك لما رواه الترمذي والنسائي " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يكتب على القبر " ، ولا تجوز الصلاة عن الوالدين ولا غيرهما ، ولا إهداء ثواب الصلاة لهما ، وما ورد من الصدقة عنهما يقتصر فيه على موضع النص فقط وهو الصدقة ، لأن القياس لا يجوز في مثل ذلك .

ما يفعله بعض الناس من الوقوف زمناً مع الصمت تحية للشهداء أو الوجهاء ، أو تشريفاً وتكريماً لأرواحهم ، وإحداداً عليهم ، وتنكيس الأعلام من المنكرات والبدع المحدثة .

لا يجوز تعليق صور ذوات الأرواح في البيوت ، ولا غير البيوت ، سواء كانت لأحياء أو لأموات ، أو للذكرى أو لغير ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه : " لا تدع صورة إلا طمستها ، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته " رواه مسلم .

الأصل عدم سماع الأموات كلام الأحياء إلا ما ورد فيه النص لقوله سبحانه " فَإِنَّكَ لَا تُسمِعُ ٱلۡمَوۡتَىٰ " الروم 52 ، وقوله سبحانه " وَمَآ أَنتَ بِمُسمِعٖ مَّن فِي ٱلقُبُورِ " فاطر 22

لا يصح الاحتجاج ببناء الناس قبة على قبر النبي صلى الله عليه وسلم على جواز بناء قباب على قبور الأموات ، صالحين أو غيرهم لأن بناء أولئك الناس القبة على قبره صلى الله عليه وسلم حرام يأثم فاعله .

وبالله التوفيق

وصلِ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

9 - 11 - 1434هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

8 + 7 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 131 الجزء الثالث ‌‌وجوب النهي عن المنكر على الجميع - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر