الدرس الأربعون: الحج

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الثلاثاء 13 ذو القعدة 1434هـ | عدد الزيارات: 1979 القسم: تهذيب فتاوى اللجنة الدائمة -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

وبعد

قد جعلها الله مثابة للناس وأمناً ، وحرماً آمناً ، يجتمع فيها الحجاج والعلماء لأداء مناسكهم في غاية الراحة والاطمئنان ، يرجون ثواب الله سبحانه ، ويخشون عقابه ، ويتعارف فيها المسلمون ويتناصحون ، ويتشاورون فيما يهمهم من أمر دينهم ودنياهم ، وتضاعف لهم فيها الصلاة والأعمال الصالحة .

وقد أمر الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعد انتهائه من بناء البيت أن يؤذن للناس بالحج ، فقال تعالى " وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلحَجِّ يَأۡتُوكَ رِجَالاً " الحج 27 ، قال ابن كثير في تفسيرها : أن نادِ في الناس داعياً لهم إلى الحج إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه ، فذكر أنه قال : يارب كيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم ؟ فقال : نادِ وعلينا البلاغ ، فقام على مقامه ، وقيل على الحجر ، وقيل على الصفا ، وقيل على أبي قبيس ، وقال : يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتاً فحجوه ، فيقال إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض ، وأسمع من في الأرحام والأصلاب ، وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر ، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة " لبيك اللهم لبيك " ، هذا مضمون ما ورد عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف ، والله أعلم ، وأوردها ابن جرير وابن أبي حاتم مطولة ، انتهى كلام ابن كثير رحمه الله .

واختلف العلماء في السنة التي فُرض فيها الحج وأقربها إلى الصواب سنة تسع أو سنة عشر ، والله أعلم .

والحج ركن من أركان الإسلام ، فمن جحده أو أبغضه بعد البيان فهو كافر ، يُستتاب فإن تاب وإلا قُتل ، ويجب على المستطيع أن يعجل بأداء فريضة الحج ، لقول الله تعالى " وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلبَيتِ مَنِ ٱستَطَاعَ إِلَيهِ سَبِيلًاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلعَٰلَمِينَ " آل عمران 97 ، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من حجَّ فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه " ، وقال صلى الله عليه وسلم " العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة " متفق عليه .

فالحج وغيره من صالح الأعمال من أسباب تكفير السيئات، إذا أدَّاها العبد على وجهها الشرعي ، لكنَّ الكبائر لابد لها من توبة لما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان ، مكفرات ما بينهنَّ إذا اجتنبت الكبائر " ، وذهب الإمام ابن المنذر رحمه الله وجماعة من أهل العلم إلى أن الحج المبرور يكفر جميع الذنوب لظاهر الحديثين المذكورين .

ويجوز الاتجار في مواسم الحج ، أخرج الطبري في تفسيره بسنده ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى " لَيسَ عَلَيكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَبتَغُواْ فَضلًا مِّن رَّبِّكُمۡۚ " البقرة 198 ، وهو : لا حرج عليكم في الشراء والبيع قبل الإحرام وبعده .

ويجب على المسلم المبادرة إلى تأدية فريضة الحج متى كان مستطيعاً لأنه لا يدري ماذا يحدث له لو أخَّره ، فقد رُوي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " تعجَّلوا إلى الحج يعني الفريضة فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له " أخرجه أحمد .

إذا لم تحج المرأة حج الفريضة وجب عليها أن تسافر مع أحد محارمها ولو لم يأذن زوجها لأن ترك الحج مع القدرة على أدائه محرم ، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .

فحج الفريضة واجب إذا توفرت شروط الاستطاعة ، وليس منها إذن الزوج ، ولا يجوز له أن يمنعها ، بل يشرع له أن يتعاون معها في أداء هذا الواجب ، والصبي المميز الذي لم يبلغ الحلم إذا أراد وليه أن يحج به فإنه يأمره بأن يلبس ملابس الإحرام ، ويفعل بنفسه جميع مناسك الحج ابتداءً من الإحرام من الميقات إلى آخر أعمال الحج ، ويرمي عنه إن لم يستطع الرمي بنفسه ، ويأمره بأن يجتنب المحظورات في الإحرام ، وإذا لم يكن مميزاً فإنه ينوي عنه الإحرام بعمرة أو حج ، ويسعى به ويحضره معه في بقية المناسك ويرمي عنه .

من حجَّ بمال حرام فحجه صحيح وعليه التوبة إلى الله ، وكون الحج من مال حرام لا يمنع من صحة الحج ، مع الإثم بالنسبة لكسب الحرام ، وأنه ينقص أجر الحج ، ولا يبطله .

لا يُلزم الزوج شرعاً بنفقات حج زوجته وإن كان غنياً ، وإنما ذلك من باب المعروف ، وهي غير ملزمة بالحج لعجزها عن نفقته ، ولا يجوز للمرأة أن تسافر للحج بدون محرم .

لا يجزئ الحج عمن لا يستطيع الحج لأمر عارض يرجى زواله كالمرض الذي يرجى برؤه وكالعذر السياسي وكعدم أمن الطريق ونحو ذلك .

كل من الحج والعمرة نُسك مستقل ، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم كيفية أدائهما قراناً وإفراداً وتمتعاً بالعمرة إلى الحج ، فمن أراد الإحرام بالعمرة عن أمه مثلاً والإحرام بالحج بعد التحلل من العمرة عن أبيه أو العكس فله ذلك ، وإذا أحرم بأحد النسكين عن نفسه ، وبعد أن تحلل منه أحرم بالآخر عن أبيه مثلاً كان جائزاً لأن الأعمال بالنيات ، ولكل امرئٍ ما نوى .

الأفضل للإنسان أن يحج عن نفسه لأنه الأصل ويدعو لنفسه ولغيره من الأقارب وسائر المسلمين إلا إذا كان أحد والديه أو كلاهما لم يحج الفريضة فله أن يحج عنهما بعد حجه عن نفسه براً بهما وإحساناً إليهما عند العجز أو الموت على أن يحج أو يعتمر عن كل واحد على حدة وليس له جمعهما بعمرة ولا حج ، والحج عن الغير يكفي فيه النية عنه ولا يلزم فيه تسمية المحجوج عنه لا باسمه فقط ولا باسمه واسم أبيه أو أمه وإن تلفظ باسمه عند بدء الإحرام أو أثناء التلبية أو عند ذبح دم التمتع إن كان متمتعاً أو قارناً فحسن وإن تلفظ باسم شخص آخر خطئاً لا يضر .

المرأة التي لا محرم لها لا يجب عليها الحج لأن المحرم بالنسبة لها من السبيل ، واستطاعة السبيل شرط في وجوب الحج ، لقول الله تعالى " وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلبَيتِ مَنِ ٱستَطَاعَ إِلَيهِ سَبِيلًاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلعَٰلَمِينَ " آل عمران 97 ، ولا يجوز لها أن تسافر للحج أو غيره إلا ومعها زوج أو محرم لها لما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ، ولا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم ، فقام رجل فقال يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا ، قال : انطلق فحج مع امرأتك " ، فلا يجوز لها أن تسافر للحج إلا مع زوجها أو محرم لها من الرجال ، ولا يجوز لها أن تسافر مع نسوة ثقات أو رجال ثقات غير محارم ، أو مع عمتها أو خالتها أو أمها ، بل لابد من أن تكون مع زوجها أو محرم لها من الرجال ، ولا يجوز لها أن تخرج إلى الحج وهي في عدة الوفاة .

ولا يجب على الزوج لزوجته نفقات حجها مثل ما تجب عليه نفقات أكلها وكسوتها وسكناها ، ولكن بذله من باب حسن العشرة ومكارم الأخلاق ، ويجب لها عليه في سفر حجها ما يقابل نفقتها حال كونها مقيمة .

مسألة : امرأة حجت من غير محرم مع رفقة صالحة من النساء حجة الفريضة ، فهل سقطت عنها الفريضة أم لا ؟

والجواب : إذا كان الواقع كما ذُكر فحجها صحيح تسقط به فريضة الحج عنها ، لكنها آثمة في سفرها من غير محرم ، وعليها التوبة إلى الله والاستغفار .

إذا مات المسلم ولم يقض فريضة الحج وهو مستكمل لشروط وجوب الحج وجب أن يحج عنه من ماله الذي خلفه سواء أوصى بذلك أم لم يوص ، وإذا حج عنه غيره ممن يصح منه الحج وكان قد أدى فريضة الحج عن نفسه صح حجه عنه وأجزأ في سقوط الفرض عنه ، وأما تقويم حج المرء عن غيره هل هو كحجه عن نفسه أو أقل فضلاً أو أكثر فذلك راجع إلى الله سبحانه .

من مات أثناء تأدية فريضة الحج فلا تقض ما بقي عليه من أعمال الحج لما أخرج الشيخان في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال " بينما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته فمات ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اغسلوه بماء وسدر ، وكفنوه في ثوبيه ، ولا تحنطوه ، ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً " ، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يغسل ويكفن ، ولم يأمر أولياءه بقضاء بقية أعمال الحج عنه .

ويشرع للقوم إذا كانوا ثلاثة فأكثر في سفر أن يؤمروا أحدهم ، ففي سنن أبي داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم " ، وبذلك يكون أمرهم جميعاً ولا يتفرق بهم الرأي ولا يقع بينهم خلاف .

إذا حصل من الرجل بعض الجدال مع رفقائه في الحج حجته صحيحة ، وتجزئه عن الفريضة ، لكن ينقص أجره فيها بقدر ما حصل منه من جدال مذموم ، وعليه التوبة من ذلك لقول الله سبحانه " وَتُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ٱلمُؤۡمِنُونَ لَعَلَّكُمۡ تُفلِحُونَ " النور 31 .

وإذا منعك مرجعك من السماح لك بالحج فاجتهد معه في طلب الإذن في الحج ، وبيِّن له أنك لم تؤد الفريضة عسى أن يستجيب لك ، ويجد فرصة تمكنه من الإذن لك أيام الحج لتؤدي الفريضة ولو يجعل إجازتك الرسمية في موسم الحج ، وإلا فلا يجوز لك أن تسافر عن المكان الذي وُكِل إليك العمل فيه لحج أو عمرة أو غيرهما إلا بإذن مرجعك .

وبالله التوفيق

وصلِ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

11 - 11 - 1434هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

7 + 6 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 131 الجزء الثالث ‌‌وجوب النهي عن المنكر على الجميع - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر