الدرس الثالث والتسعون : حكم الغناء

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الإثنين 29 محرم 1435هـ | عدد الزيارات: 2448 القسم: تهذيب فتاوى اللجنة الدائمة -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

وبعد

قال أبو تراب " وتحقيق المسألة أن الغناء وآلاته والاستماع إليه مباح إلى أن قال الحافظ أبو محمد ابن حزم : بيع الشطرنج والمزامير والعيدان والمعازف حلال كله من كسر شيئاً من ذلك ضمنه لأنها مال من مال مالكها ... " انتهى .

يقول الشيخ ابن باز رداً على أبي تراب وابن حزم أقول : لقد أخطأ أبو محمد وأخطأ بعده أبو تراب في تحليل ما حرَّم الله من الأغاني وآلات الملاهي وفتحا على الناس أبواب شر عظيم وخالفا بذلك سبيل أهل الإيمان وحملة السنة والقرآن من الصحابة وأتباعهم بإحسان وإن ذلك لعظيم وخطره جسيم ، فنسأل الله لنا وللمسلمين العافية من زيغ القلوب ورين الذنوب وهمزات الشيطان إنه جواد كريم .

ولقد ذهب أكثر علماء الإسلام وجمهور أئمة الهدى إلى تحريم الأغاني وجميع المعازف وهي آلات اللهو كلها وأوجبوا كسر آلات المعازف وقالوا لا ضمان على متلفها وقالوا إن الغناء إذا انضم إليه آلات المعازف كالطبل والمزمار والعود وأشباه ذلك حرم بالإجماع إلا ما يستثنى من ذلك من دف النساء في العرس ونحوه على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى ، وقد حكى أبو عمرو بن الصلاح إجماع علماء المسلمين على ما ذكرنا من تحريم الأغاني والمعازف إذا اجتمعا كما سيأتي نص كلامه فيما نقله عنه العلامة ابن القيم رحمه الله ، وما ذلك إلا لما يترتب على الغناء وآلات اللهو من قسوة القلوب ومرضها وصدها عن القرآن الكريم واستماع العلوم النافعة ، ولا شك أن ذلك من مكائد الشيطان التي كاد بها الناس وصاد بها من نقص علمه ودينه حتى استحسن سماع قرآن الشيطان ومزموره بدلاً من سماع كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولقد اشتد نكير السلف على من اشتغل بالأغاني والملاهي ووصفوه بالسفه والفسق وقالوا لا تقبل شهادته كما سيأتي بعض كلامهم في ذلك إن شاء الله ، وما ذلك إلا لما ينشأ عن الاشتغال بالغناء والمعازف من ضعف الإيمان وقلة الحياء والورع والاستخفاف بأوامر الله ونواهيه ، ولما يبتلى به أرباب الغناء والمعازف من شدة الغفلة والارتياح إلى الباطل والتثاقل عن الصلاة وأفعال الخير ، والنشاط فيما يدعو إليه الغناء والمعازف من الزنا واللواط وشرب الخمور ومعاشرة النسوان والمردان إلا من عصم الله من ذلك .

ومعلوم عند ذوي الألباب ما يترتب على هذه الصفات من أنواع الشر والفساد وما في ضمنها من وسائل الضلال والإضلال ، وإليك بعض ما ورد في تحريم الأغاني والمعازف من آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم .

قال الله تعالى " وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشتَرِي لَهوَ ٱلحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيرِ عِلمٖ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًاۚ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِينٞ * وَإِذَا تُتلَىٰ عَلَيهِ ءَايَٰتُنَا وَلَّىٰ مُستَكبِرًا كَأَن لَّمۡ يَسمَعهَا كَأَنَّ فِيٓ أُذُنَيهِ وَقرًاۖ فَبَشِّرۡهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ " لقمان 6 ، 7 ، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره عند هاتين الآيتين ما نصه : لما ذكر حال السعداء وهم الذين يهتدون بكتاب الله وينتفعون بسماعه كما قال تعالى " ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحسَنَ ٱلحَدِيثِ كِتَٰبًا مُّتَشَٰبِهًا مَّثَانِيَ تَقشَعِرُّ مِنهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخشَوۡنَ رَبَّهُمۡ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمۡ وَقُلُوبُهُمۡ إِلَىٰ ذِكرِ ٱللَّهِۚ " الزمر 23 ، عطف بذكر حال الأشقياء الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله وأقبلوا على استماع المزامير والغناء والألحان وآلات الطرب كما قال ابن مسعود في قوله تعالى " وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشتَرِي لَهوَ ٱلحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ " لقمان 6 ، قال : هو والله الغناء .

وروى ابن جرير حدثني يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني يزيد بن يونس عن أبي صخر عن أبي معاوية البجلي عن سعيد بن جبير عن أبي الصهباء البكري أنه سمع عبد الله بن مسعود وهو يسأل عن هذه الآية " وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشتَرِي لَهوَ ٱلحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ " فقال عبد الله بن مسعود : الغناء والله الذي لا إله إلا هو ، يرددها ثلاث مرات ، ذكرها القرطبي في تفسيره والطبري وابن كثير في تفسيريهما .

وكذا قال ابن عباس وجابر وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ومكحول وعمرو بن شعيب وعلي بن بذيمة ، وقال الحسن البصري نزلت هذه الآية " وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشتَرِي لَهوَ ٱلحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ " في الغناء والمزامير .

وقال قتادة قوله " وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشتَرِي لَهوَ ٱلحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ " والله لعله لا ينفق فيه مالاً ولكن شراؤه استجابة بحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق وما يضر على ما ينفع ، انتهى كلامه .

وهذا الذي قاله الحافظ ابن كثير في تفسير الآية قاله غيره من أهل التفسير كابن جرير والبغوي والقرطبي وغير واحد حتى قال الواحدي في تفسيره : أكثر المفسرين على أن لهو الحديث هو الغناء ، وفسره آخرون بالشرك ، وفسره جماعة بأخبار الأعاجم وبالأحاديث الباطلة التي تصد عن الحق وكلها تفاسير صحيحة لا منافاة بينها .

وأما الأحاديث الواردة في ذم الأغاني والملاهي فكثيرة وأصحها ما رواه البخاري في صحيحه حيث قال صلى الله عليه وسلم : " ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف " ، وهو صريح في ذم مستحلي المعازف حيث قرنهم مع مستحلي الزنا والخمر والحرير ، وحجة ظاهرة في تحريم استعمال المعازف وهي آلات الملاهي ، وقد أجمع أهل اللغة على تفسير المعازف بآلات الملاهي وما ذاك إلا لما يترتب عليها من قسوة القلوب ومرضها واشتغالها عن الصلاة والقرآن وإذا انضم إليه الغناء صار الإثم أكبر والفساد أعظم كما سيأتي كلام أهل العلم في ذلك وقد تقدم لك بعضه ، وقد أخذ علماء الإسلام بهذا الحديث وتلقوه بالقبول واحتجوا به على تحريم المعازف كلها .

وهذا الحديث من جملة الأحاديث المعلقة الصحيحة ، وقال العلامة ابن القيم رحمة الله عليه في الإغاثة لما ذكر هذا الحديث ما نصه : هذا حديث صحيح أخرجه البخاري في صحيحه محتجاً به وعلقه تعليقاً مجزوماً به وبذلك بطلت شبهة ابن حزم ومقلده أبي تراب .

وروى علي بن الجعد وغيره عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : " الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع " .

قال العلامة ابن القيم رحمه الله في كتاب الإغاثة : فاعلم أن للغناء خواص لها تأثير في صبغ القلب بالنفاق ونباته فيه كنبات الزرع بالماء ، فمن خواصه أنه يلهي القلب ويصده عن فهم القرآن وتدبره والعمل بما فيه ، فإن القرآن والغناء لا يجتمعان في القلب أبداً لما بينهما من التضاد ، فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى ويأمر بالعفة ومجانبة شهوات النفوس وأسباب الغي وينهى عن اتباع خطوات الشيطان ، والغناء يأمر بضد ذلك كله ويحسنه ويهيج النفوس إلى شهوات الغي فيثير كامنها ويزعج قاطنها ويحركها إلى كل قبيح ويسوقها إلى وصل كل مليحة ومليح فهو والخمر رضيعا لبان وفي تهييجهما على القبائح فرسا رهان فإنه صنو الخمر ورضيعه ونائبه وحليفه وخدينه وصديقه عقد الشيطان بينهما شريعة الوفاء التي لا تفسخ .

وقال بعض العارفين : السماع يورث النفاق في قوم ، والعناد في قوم والكذب في قوم والفجور في قوم والرعونة في قوم ، وأكثر ما يورث عشق الصور واستحسان الفواحش وإدمانه يثقل القرآن على القلب ويكرهه إلى سماعه بالخاصية وإن لم يكن هذا نفاقاً فما للنفاق حقيقة .

وسر المسألة أنه قرآن الشيطان فلا يجتمع هو وقرآن الرحمن في قلب أبداً وصاحب الغناء بين أمرين :

إما أن يتهتك فيكون فاجراً أو يظهر النسك فيكون منافقاً ، فإنه يظهر الرغبة في الله والدار الآخرة وقلبه يغلي بالشهوات ومحبة ما يكرهه الله ورسوله من أصوات المعازف وآلات اللهو .

وهذا آخر ما تيسر إملاؤه في هذه المسألة أعني مسألة الأغاني والمعازف ، ونسأل الله لنا ولسائر المسلمين التوفيق لما يرضيه والسلامة من أسباب غضبه وموجبات نقمه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، ونصيحتي لأبي تراب وغيره من الشغوفين بالغناء والمعازف أن يراقبوا الله ويتوبوا إليه وأن ينيبوا إلى الحق لأن الرجوع إلى الحق فضيلة.

وبالله التوفيق

وصلِ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

29 - 1 - 1435هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

9 + 9 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر