تفسير سورة الليل

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الإثنين 27 ربيع الثاني 1436هـ | عدد الزيارات: 1949 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد

سورة الليل مكية وآياتها 21

بسم الله الرحمن الرحيم

وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ * إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ * وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَىٰ * فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّىٰ * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ * وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ * وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَىٰ * وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ

هذا قسم من الله بالزمان الذي تقع فيه أفعال العباد على تفاوت أحوالهم ولإيضاح أثر الليل والنهار على الكون وعلى أنهما آياتان عظيمتان .

وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى أي: يعم الخلق بظلامه، فيسكن كل إلى مأواه ومسكنه، ويستريح العباد من الكد والتعب .

وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى للخلق، فاستضاءوا بنوره، وانتشروا في مصالحهم .

وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى "ما " مصدرية، فهو يقسم بخلقه للذكر والأنثى، وكمال حكمته في ذلك أن خلق من كل صنف من الحيوانات التي يريد بقاءها ذكرًا وأنثى، ليبقى النوع ولا يضمحل، وقاد كلا منهما إلى الآخر بسلسلة الشهوة، وجعل كلًا منهما مناسبًا للآخر، وأصل التذكير والتأنيث أمر فوق إدراك وقوع البشر، وتذكير الجنين أو تأنيثه ليس لأبويه دخل فهو أخلاط من ماء الأب والأم، وماء الرجل من ظهره والأم من صدرها، أي من ظهر الرجل وصدر المرأة، وجعل هذا ذكراً وذاك أنثى فهو هبة من الله وإذا أراد الله الشيء هيأ له أسبابه وفي رواية عند مسلم عن ثوبان رضي الله عنه مرفوعاً :" مَاءُ الرَّجُلِ أَبْيَضُ وَمَاءُ الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ فَإِذَا اجْتَمَعَا فَعَلَا مَنِيُّ الرَّجُلِ مَنِيَّ الْمَرْأَةِ أَذْكَرَا بِإِذْنِ اللَّهِ وَإِذَا عَلَا مَنِيُّ الْمَرْأَةِ مَنِيَّ الرَّجُلِ آنَثَا بِإِذْنِ اللَّهِ

إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى هذا هو المقسم عليه أي: إن سعيكم أيها المكلفون لمتفاوت تفاوتا كثيًرا، وذلك بحسب تفاوت نفس الأعمال ومقدارها والنشاط فيها، وبحسب الغاية المقصودة بتلك الأعمال، هل هو لوجه الله الأعلى الباقي فيبقى السعي له ببقائه، وينتفع به صاحبه، أم هو غاية مضمحلة فانية، فيبطل السعي ببطلانها، ويضمحل باضمحلالها .

فصل الله تعالى العاملين، ووصف أعمالهم، فقال: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى أي ما أمر به من العبادات المالية، كالزكوات، والكفارات والنفقات، والصدقات، والإنفاق في وجوه الخير، والعبادات البدنية كالصلاة، والصوم ونحوهما .
والمركبة منهما، كالحج والعمرة ونحوهما وَاتَّقَى ما نهي عنه، من المحرمات والمعاصي، على اختلاف أجناسها .

وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى أي: صدق بـ " لا إله إلا الله " وما دلت عليه، من جميع العقائد الدينية، وما ترتب عليها من الجزاء الأخروي .

فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى أي: نسهل عليه أمره، ونجعله ميسرا له كل خير، ميسرًا له ترك كل شر، لأنه أتى بأسباب التيسير، فيسر الله له ذلك .

وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ بما أمر به، فترك الإنفاق الواجب والمستحب، ولم تسمح نفسه بأداء ما وجب لله، وَاسْتَغْنَى عن الله، فترك عبوديته جانبًا، ولم ير نفسه مفتقرة غاية الافتقار إلى ربها، الذي لا نجاة لها ولا فوز ولا فلاح، إلا بأن يكون هو محبوبها ومعبودها، الذي تقصده وتتوجه إليه .

وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى أي: بما أوجب الله على العباد التصديق به من العقائد الحسنة .

فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى أي: للحالة العسرة، والخصال الذميمة، بأن يكون ميسرًا للشر أينما كان، ومقيضًا له أفعال المعاصي، نسأل الله العافية .

وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ الذي أطغاه واستغنى به، وبخل به إذا هلك ومات، فإنه لا يصحبه إلا عمله الصالح .
وأما ماله الذي لم يخرج منه الواجب فإنه يكون وبالًا عليه، إذ لم يقدم منه لآخرته شيئًا .

إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى أي: إن الهدى المستقيم طريقه، يوصل إلى الله، ويدني من رضاه، وأما الضلال، فطرق مسدودة عن الله، لا توصل صاحبها إلا للعذاب الشديد .

وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى ملكًا وتصرفًا، ليس له فيهما مشارك، فليرغب الراغبون إليه في الطلب، ولينقطع رجاؤهم عن المخلوقين .

فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى أي: تستعر وتتوقد

لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ : بالخبر وَتَوَلَّى عن الأمر، أي الكافر فإن الفاسق لا يصلاها صليناً لازماً وقد صرح به قوله تعالى "الذي كذب وتولى" أي كذب بالحق وأعرض عن الطاعة

وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى بأن يكون قصده به تزكية نفسه، وتطهيرها من الذنوب والعيوب ، قاصدًا به وجه الله تعالى، فدل هذا على أنه إذا تضمن الإنفاق المستحب ترك واجب، كدين ونفقة ونحوهما، فإنه غير مشروع، بل تكون عطيته مردودة عند كثير من العلماء، لأنه لا يتزكى بفعل مستحب يفوت عليه الواجب .

وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى أي: ليس لأحد من الخلق على هذا الأتقى نعمة تجزى إلا وقد كافأه بها، وربما بقي له الفضل والمنة على الناس، فتمحض عبدًا لله، وأما من بقي عليه نعمة للناس لم يجزها ويكافئها، فإنه لا بد أن يترك للناس، ويفعل لهم ما ينقص إخلاصه .
وهذه الآية، وإن كانت متناولة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأنها نزلت بسببه، فإنه -رضي الله عنه- ما لأحد عنده من نعمة تجزى، إلا نعمة الرسول التي لا يمكن جزاؤها، وهي نعمة الدعوة إلى دين الإسلام، وتعليم الهدى ودين الحق، فإن لله ورسوله المنة على كل أحد، منة لا يمكن لها جزاء ولا مقابلة، فإنها متناولة لكل من اتصف بهذا الوصف الفاضل، فلم يبق لأحد عليه من الخلق نعمة تجزى، فبقيت أعماله خالصة لوجه الله تعالى، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .

إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى هذا الأتقى بما يعطيه الله من أنواع الكرامات والمثوبات، وذكر ابن كثير إجماع المفسرين أنها في أبي بكر رضي الله عنه أعلى منازل البشرى لأن هذا الوصف بعينه .

والخلاصة أن الآيات نزلت في حق أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين اشترى بلالا وجماعة كان يؤذيهم المشركون فأعتقهم ولذلك قالوا المراد بالأشقى أمية بن خلف .

وقوله تعالى "ولسوف يرضى" جواب قسم مضمر أي وبالله لسوف يرضى وهو وعد كريم بنيل جميع ما يبتغيه على أكمل الوجوه وأجملها اذ به يتحقق الرضا والحمد لله رب العالمين .

اللهم أكرمنا بكرامة من عندك واجعلنا من المكرمين ومن عبادك الصالحين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .

تم تفسير سورة الليل ولله الحمد والمنة

27 - 4 - 1436هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

6 + 6 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 124 الجزء الثالث ‌‌أهمية الغطاء على وجه المرأة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 123 الجزء الثالث ‌‌حكم قيادة المرأة للسيارة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر