الدرس السابع والثلاثون: الحديث 27 البر والإثم

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: السبت 26 جمادى الأولى 1437هـ | عدد الزيارات: 2249 القسم: شرح كتاب الأربعين النووية -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين:

" عن النواس بن سمعان رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : البرُ حسنُ الخلق ، والإثمُ ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس" أخرجه مسلم،" وعن وا بصة بن معبد رضى الله عنه، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: "جئت تسأل عن البر و الإثم، قلت : نعم ؛ قال:" استفت قلبك؛ البر ما اطمئنت إليه النفس واطمئن اليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك" أخرجه أحمد

وحديث وابصة بن معبد الأسدي رضي الله عنه مختصراً وأصله قال (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أريد أن لا أدع شيئا من البر والإثم إلا سألته عنه وحوله عِصابة من المسلمين يستفتونه فجعلت أتخطاهم قالوا إليك يا وابصةُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت دعوني فأدنو منه فإنه أحبُ الناس إلي أن أدنو منه قال دعوا وابصةُ ادنُ يا وابصة مرتين أو ثلاث قال فدنوت منه حتى قعدت بين يديه فقال يا وابصةُ أُخبرك أو تسألني قلت لا بل أخبرني فقال جئتَ تسألُني عن البر والإثم قلت نعم فجمع أناملهُ فجعل ينكت بهن في صدري ويقول: يا وابصةُ استفت قلبك واستفت نفسك ثلاث مرات البر ما اطمئنت إليه النفس واطمئن إليه القلب والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك) أخرجه أحمد.

ترجمة الراوي

النواس بن سمعان الكلابي صحب النبي وكان حريصا على طلب العلم وقد قال: اقمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة سنة ما يمنعني من الهجرة الا المسألة، سكن الشام ومات بها رضي الله عنه سنة خمسين من الهجرة.

قال ابن حجر: النواس بن سمعان بن خالد بن عمرو بن قرط بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب العامري الكلابي، له ولأبيه صحبة وحديثه عند مسلم في صحيحه

قال ابن عبد البر: يقال أبوه وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدعا له وتزوج أخته فلما دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم تعوذت منه فتركها وهي الكلابية، روى له البخاري في الأدب المفرد والباقون.

قال الذهبي: له صحبة ورواية روى عنه جبير بن نفير، وأبو إدريس الخولاني، وجماعة.

أهمية الحديث

قال ابن حجر الهيتمي: هذا الحديث من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم , بل من أوجزها إذ البر كلمة جامعة لجميع أفعال الخير وخصال المعروف , والإثم كلمة جامعة لجميع أفعال الشر والقبائح كبيرها وصغيرها، ولهذا السبب قابل النبي صلى الله عليه وسلم بينهما وجعلهما ضدين

الشرح

قوله صلى الله عليه وسلم (البر) أي الذي ذكره الله تعالى في القرآن فقال (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) المائدة: الآية2، والبرُ كلمة تدل على كثرة الخير، والبر بكسر الراء اسم جامع للخير وكل فعل مرضي

قوله صلى الله عليه وسلم (حسن الخُلُق) الخلق بضم الخاء وضم اللام وسكونها، التخلق بالأخلاق الشرعية والتأدب بآداب الله التي شرعها لعباده من امتثال أمره وتجنب نهيه، أي حسن الخلق مع الله، وحسن الخلق مع عباد الله، فأما حسن الخلق مع الله فان تتلقي أحكامه الشرعية بالرضا والتسليم، وأن لا يكون في نفسك حرج منها ولا تضيق بها ذرعا، فإذا أمرك الله بالصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها فإنك تقابل هذا بصدر منشرح

وأيضا حسن الخلق مع الله في أحكامه القدرية، فالإنسان ليس دائما مسرورا حيث يأتيه ما يحزنه في ماله أو في أهله أو في نفسه أو في مجتمعه والذي قدر ذلك هو الله عز وجل فتكون حسن الخلق مع الله، فتقوم بما أمرت به وتنزجر عما نهيت عنه

وحسن الخلق مع الناس بذل الندى وكف الأذى والصبر على الأذى، وطلاقة الوجه، وهناك بر خاص كبر الوالدين مثلا وهو الإحسان إليهما بالمال والبدن والجاه وسائر الإحسان، ويدخل ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم (حسن الخلق) فحسن الخلق أعظم خصال البر كما قال صلى الله عليه وسلم (الحج عرفة) رواه الترمذي أما البر فهو الذي يبرُ فاعله ويلحق بالأبرار وهم المطيعون لله عز وجل ويدخل في حسن الخلق الإنصاف في المعاملة والرفق في المحاولة والعدل في الأحكام والبذل في الإحسان وغير ذلك من صفات المؤمنين الذين وصفهم الله تعالى فقال (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) إلى قوله (أولئك هم المؤمنون حقا) ولا يظن ظان أن حسن الخلق عبارة عن لين الجانب وترك الفواحش والمعاصي فحسب بل حسن الخلق ما ذكره الله من صفات المؤمنين (قد أفلح المؤمنون) والتخلق بأخلاقهم، ومن حسن الخلق احتمال الأذى فقد ورد في الصحيحين: أن أعرابياً جذب بردى النبي صلى الله عليه وسلم حتى أثرت حاشيته على عاتق النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضحك وأمر له بعطاء

قوله صلى الله عليه وسلم (والإثم) هو ضد البر لأن الله تعالى قال: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) فالإثم هو ما وضحه المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم (ما حاك في نفسك) أي تردد وصرت منه في قلق، قال صلى الله عليه وسلم (وكرهت أن يطلع عليه الناس) لأنه محل عيب وذم، فتجدك مترددا فيه وتكره أن يطلع الناس عليك فهو الذنب بسائر أنواعه فهو ما تردد واختلج في النفس اضطراباً وقلقاً ونفوراً, فلم ينشرح له الصدر ولم يطمئن إليه القلب

فهو الشيء الذي يورث نفرة في القلب وهذا أصل يتمسك به لمعرفة الإثم من البر ولمعرفة الإثم من البر أن الإثم ما يحيك في الصدر ويكره صاحبه أن يطلع عليه الناس، والمراد بالناس أماثلهم ووجوههم، لا غوغاؤهم

فقوله صلى الله عليه وسلم (وكرهت أن يطلع عليه الناس) هذه الجملة إنما هي لمن كان قلبه صافيا سليما، فهذا هو الذي يحوك في نفسه ما كان إثما ويكره أن يطلع عليه الناس، أما المتمردون الخارجون عن طاعة الله الذين قست قلوبهم فهؤلاء لا يبالون، بل ربما يتبجحون بفعل المنكر والإثم، فالكلام هنا ليس عاما لكل أحد بل هو خاص لمن كان قلبه سليما طاهرا نقيا؛ فإنه إذا هم بإثم وإن لم يعلم أنه إثم من قبل الشرع تجده مترددا يكره أن يطلع الناس عليه، وهذا ضابط وليس بقاعدة، أي علامة على الإثم في قلب المؤمن

من فوائد الحديث

أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطي جوامع الكلم

ثانياً: الحث على حسن الخلق وأنك متى أحسنت خلقك فإنك في بر، وأن الغضب لله لا ينافي البر وحسن الخلق، بل هو من حسن الخلق لأن المقصود به التربية والتوجيه، ولهذا كان النبي صلي الله عليه وسلم لا ينتقم لنفسه؛ لكن إذا انتهكت محارم الله عز وجل كان أشد الناس فيها. أخرجه مسلم

ثالثا: إن المؤمن الذي قلبه صافي سليم يحوك في نفسه الإثم وإن لم يعلم أنه إثم، بل يتردد فيه، وموقف الإنسان إذا حاك في نفسه أمر هل هو إثم أو لا أن يدع هذا الشيء حتى يتبين لقوله صلى الله عليه وسلم (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح فلا تتجاسر فتقع في الشبهات ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام. رواه البخاري ومسلم

رابعاً: إن المؤمن يكره أن يطلع الناس على آثامه لقوله صلى الله عليه وسلم (وكرهت أن يطلع عليه الناس) أما الرجل الفاجر المتمرد فلا يكره أن يطلع الناس على آثامه، بل من الناس من يفتخر بالمعصية ويتحدث بها وهذا من الاستهزاء بأحكام الله مثل مفاخرته بالزنا فهذا يستتاب فإن تاب وإلا قتل

خامساً: قوله صلى الله عليه وسلم لوابصة بن معبد (جئت تسألني عن البر والإثم) هذه قضية عين يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن وابصة رضي الله عنه يسأل عن البر ويحتمل أن هذا من فراسة النبي صلى الله عليه وسلم فقضايا الأعيان يصعب جداً أن يدرك الإنسان أسبابها وهي تدل على حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم حيث يتقدم للسائل بما في نفس السائل ليستريح ويطمئن لقوله صلى الله عليه وسلم: (جئت تسألني عن البر والإثم)

سادساً: جواز حذف همزة الإستفهام إذا دل عليها الدليل، وهذا حكم لغوي، فلم يقل له صلى الله عليه وسلم أجئت تسأل بل قال جئت تسأل

سابعاً: جواز الرجوع إلى القلب والنفس بشرط أن يكون هذا الذي رجع إلى قلبه ونفسه من استقام دينه

ثامناً: أن لا يغتر الإنسان بإفتاء الناس لا سيما إذا وجد في نفسه ترددا؛ فيجب عليه أن يسأل عالما آخر إذا تردد في جواب الأول لعدم دعمه بالأدلة الشرعية

تاسعاً: أن المدار في الشرعية على الأدلة لا على ما أشتهر بين الناس لأنه قد يشتهر عندهم شيء ويفتون به وهو ليس بحق

اللهم وفقنا للعمل بما يرضيك وعلمنا ما جهلنا وذكرنا ما نسينا واجعل عملنا خالصاً لوجهك صواباً مسدداً

وبالله التوفيق

1437/5/25 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

7 + 5 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر