الدرس السابع والتسعون: التعدد

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الثلاثاء 30 محرم 1435هـ | عدد الزيارات: 2282 القسم: تهذيب فتاوى اللجنة الدائمة -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد

جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين تسع من النساء ونفع الله بهن الأمة وحملن إليها علوما نافعة وأخلاقا كريمة وآدابا صالحة وكذلك النبيان الكريمان داود وسليمان عليهما السلام فقد جمعا بين عدد كثير من النساء بإذن الله وتشريعه وجمع كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان

وقد كان التعدد معروفا في الأمم الماضية ذوات الحضارة وفي الجاهلية بين العرب قبل الإسلام فجاء الإسلام وأقر التعدد لكن بضوابط فقصر المسلمين على أربع وأباح للرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من ذلك لحكم وأسرار ومصالح اقتضت تخصيصه صلى الله عليه وسلم بالزيادة على أربع.

وفي تعدد الزوجات مع تحري العدل مصالح كثيرة وفوائد جمة منها عفة الرجل وإعفافه عددا من النساء ومنها كثرة النسل الذي يترتب عليه كثرة الأمة وقوتها وكثرة من يعبد الله منها ومنها إعالة الكثير من النساء والإنفاق عليهن ومنها مباهاة النبي صلى الله عليه وسلم بهم الأمم يوم القيامة إلى غير ذلك من المصالح الكثيرة التي يعرفها من يعظم الشريعة وينظر في محاسنها وحكمها وأسرارها وشدة حاجة العباد إليها بعين الرضا والمحبة والتعظيم والبصيرة

أما الجمع بين الآيتين "فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً"(النساء 3) وقوله تعالى "وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ" (النساء 129) فإنه ليس بين الآيتين تعارض وليس هناك نسخ لإحداهما بالأخرى وإنما العدل المأمور به هو المستطاع وهو العدل في القسمة والنفقة أما العدل في الحب وتوابعه من الجماع ونحوه فهذا غير مستطاع وهو المراد في قوله تعالى "وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ" ولهذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ويقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم

وينبغي للزوجة أن تلزم الأخلاق الفاضلة والأدب الصالح والصبر الجميل وبذلك تتغلب على جميع الصعوبات وتحمد العاقبة وإذا كان الضرر الذي تشكو منه من جهة الزوج وعدم عدله فلتطلب منه إصلاح السيرة بلطف وإحسان وصبر جميل وبذلك نرجو أن تدرك مطلوبها وبقاؤها في البيت عنده أقرب إلى العدل إن شاء الله أما إن كان الضرر من الضرة فالواجب على الزوج أن يمنع ضرر الضرة أو يسكن صاحبة المشكلة في بيت وحدها ويقوم بما يلزم لها من النفقة وإيجاد مؤنسة إذا كانت لا تستطيع البقاء في البيت وحدها

وأن يتحرى العدل ويبتعد عن جميع أنواع الضرر فإن لم يقم بذلك ولم تجد في أقاربه وأصدقائه من يحل المشكل فليس أمامها سوى رفع أمره إلى المحكمة

وينبغي لها قبل ذلك أن تضرع إلى الله سبحانه وتسأله بصدق أن يفرج كربها ويسهل أمرها ويهدي زوجها وضرتها للحق والإنصاف وعليها أيضا أن تحاسب نفسها وأن تستقيم على طاعة ربها وأن تتوب إليه سبحانه من تقصيرها في حقه وحق زوجها فإن العبد لا تصيبه مصيبة إلا بما كسبت يداه من سيئات كما قال الله سبحانه "وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ"(الشورى 30) وقال تعالى "مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ" (النساء 79) والواجب على الزوج تقوى الله وأن لا يضرب إلا عن بصيرة لأن الله تعالى يقول " وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ" والرسول صلى الله عليه وسلم يقول "استوصوا بالنساء خيرا فإنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله" أخرجه الإمام أحمد

فالواجب على الزوج أن يتقي الله ويراقب الله وأن يعاشر زوجته بالمعروف بالكلام الطيب والأسلوب الحسن لا يضرب ولا يقبح وأن يكون كلامه طيبا وفعله طيبا هذا هو الواجب عليه لكن إذا عصت الزوجة وخالفت الأوامر له ضربها ضربا غير مبرح ضربا خفيفا قال الله تعالى "وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ" (النساء 34)هذا إذا خاف نشوزها وصارت تعصي عليه الأوامر وتخالف أوامره له هجرها ووعظها والضرب يصير في الأخير يعظها أولا كأن يقول يا بنت فلان خافي الله عليك بطاعة الزوج اتقي الله راقبي الله اتركي هذا العمل أو يهجرها يوما أو يومين أو ثلاثة في المضجع لا بأس بهذا فإذا ما نفع الهجر ولا نفع الكلام له ضربها ضربا غير مبرح ضربا خفيفا لا يكسر عظما ولا يجرح بدنها إذا كان الهجر ما أجدى والموعظة ما نفعت أما كون الزوج عادته التأسد على الزوجة والاكفهرار وسوء الكلام فهذا ليس من أخلاق المؤمن والواجب أن يكون الزوج خلقه طيبا مع زوجته فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس أخلاقا مع أزواجه فالواجب على الزوج التأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم ويكون طيب الخلق مع زوجته حسن المعاشرة.

وكذا الواجب على الزوجة السمع والطاعة لزوجها في المعروف ولا يجوز لها هجره إلا لموجب شرعي وعليه هو أيضا معاشرتها بالمعروف وعدم هجرها إلا لأمر شرعي لقول الله عز وجل "وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ"(النساء:19) وقوله سبحانه "وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ" (البقرة 228)وقول النبي صلى الله عليه وسلم: استوصوا بالنساء خيرا

أما مسألة بعث الحكمين عند اختلاف الزوجين هذه المسألة قد اختلف فيها العلماء رحمهم الله فذهب بعضهم إلى أن الحكمين وكيلان عن الزوجين ليس لهما أن يفرقا إلا برضا الزوجين وهذا القول محكي عن أبي حنيفة والشافعي وهو المشهور في مذهب أحمد فعلى هذا القول ليس للحكمين ولا للقاضي التفريق بين الزوجين إلا برضا الزوج بالطلاق ورضا المرأة ببذل العوض إن رأى الحكمان الطلاق على عوض والقول الثاني أن للحكمين أن يفرقا إذا رأيا ذلك بطلاق خال من العوض أو بعوض تبذله المرأة وهذا قول علي وابن عباس رضي الله عنهما وروي عن عثمان رضي الله عنه وهو مذهب مالك ورواية عن أحمد واختاره الشيخ تقي الدين ابن تيمية وهو الأقرب من جهة الدليل لأن الله سبحانه سماهما حكمين والحاكم يجوز له أن يحكم بغير رضى المحكوم عليه ولأنه قول من ذكر من الصحابة رضي الله عنهم فعلى هذا القول إذا لم يطلق الحكمان لكونهما عاميين ويهابان من ذلك فهل يطلق القاضي إذا أخبره الحكمان أن حال الزوجين لا تتفق هذا محل نظر ولم أر من صرح من الفقهاء أنه يجوز للقاضي ذلك وأعني بذلك من وقفت على كلامه منهم بعد البحث والتفتيش وذكر ابن حزم أنه قد صح عن سعيد بن جبير أن أمر الفرقة للقاضي لا للحكمين إذا أخبره الحكمان بما يقتضي الفرقة فعلى قول سعيد المذكور يجوز للقاضي أن يفرق إذا أخبره الحكمان بما يقتضي التفريق يقول الشيخ ابن باز رحمه الله: والأحوط عندي أن يمسك القاضي عن التفريق ويجتهد في المشورة على الحكمين بالتفريق إذا رأيا ذلك فإن أبيا بالكلية أشار على الزوج بالفراق وأشار على الزوجة ببذل ما يرضي الزوج من العوض فإن تيسر ذلك وحصلت الفرقة فهو المطلوب وإن أبى الزوج الطلاق أو رضي بالطلاق بشرط العوض وأبت المرأة تسليم العوض أخرهما القاضي مدة على حسب ما يقتضيه اجتهاده فلعلهما أن يصطلحا أو يسمح الزوج بالطلاق أو تسمح المرأة ببذل العوض فإن لم ينفع ذلك ولم تحصل الفرقة وترادا إلى الحاكم في ذلك جاز للقاضي أن يجبر الزوج على الفراق بلا عوض إن ظهر له ظلمه وإن اشتبه الأمر أجبر المرأة على تسليم العوض الذي دفع إليها الزوج من دراهم وقيمة لحم وبشت ونحو هذا والصباحة تدخل في حكم الجهاز فيما يظهر لي وأعني باللحم ما يدفع للزوجة عند النكاح دون ما يأكله الزوج في بيته وقد حكمت بهذا مرتين والدليل في هذا قصة ثابت بن قيس مع زوجته وقول النبي صلى الله عليه وسلم "اقبل الحديقة وطلقها تطليقة" رواه البخاري

وإذا كرهت الزوجة زوجها ولم تطقه فمثل هذه المرأة يجب التفريق بينها وبين زوجها المشار إليه إذا دفعت إليه جهازه لقول النبي صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس لما أبغضته زوجته وطلبت فراقه وسمحت برد حديقته إليه "اقبل الحديقة وطلقها تطليقة" رواه البخاري في صحيحه

ولأن بقاءها في عصمته والحال ما ذكر يسبب عليها أضرارا كثيرة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "لا ضرر ولا ضرار" ولأن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها ولا ريب أن بقاء مثل هذه المرأة في عصمة زوجها المذكور من جملة المفاسد التي يجب تعطيلها وإزالتها والقضاء عليها وإذا امتنع الزوج عن الحضور مع المرأة المذكورة إلى المحكمة وجب على الحاكم فسخها من عصمته إذا طلبت ذلك وردت عليه جهازه للحديثين السابقين وللمعنى الذي جاءت به الشريعة واستقر من قواعدها

أما من طلق بالثلاث على عوض هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء كما لا يخفى والجمهور يرون تحريمها على المطلق حتى تنكح زوجا غيره لكونه طلقها بالثلاث ولو كان بكلمة واحدة بناء على ما رآه عمر رضي الله عنه في إمضاء الثلاث الواقعة بكلمة واحدة وذهب ابن عباس رضي الله عنه في رواية صحيحة عنه وجماعة من السلف والخلف إلى أنه لا يقع من الطلقات الثلاث التي أوقعها الزوج بكلمة واحدة إلا طلقة واحدة عملا بحديث ابن عباس الثابت في صحيح مسلم رحمه الله وبحديثه الثاني المخرج في مسند الإمام أحمد بسند جيد في قصة أبي ركانة وقد اختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وهو الذي نفتي به من نحو ثلاثين سنة لظهور دليله ولمصلحة المسلمين

وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.

هذا وبالله التوفيق

وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

1435-1-30هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

9 + 8 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر