تفسير سورة الإنسان

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الخميس 5 شعبان 1437هـ | عدد الزيارات: 2385 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد

سورة الإنسان مكية وآياتها 31

بسم الله الرحمن الرحيم

هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)

استفهام تقرير وتقريب فإن (هل) بمعنى (قد) ، أي قد مرَّ على الإنسان وقت طويل من الزمان قبل أن تنفخ فيه الروح لم يكن شيئا يذكر ولا يعرف له أثر،و" كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَقْرَأُ في الجُمُعَةِ في صَلاةِ الفَجْرِ (الم تَنْزِيلُ) السَّجْدَةَ ، و(هلْ أتَى علَى الإنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ)".رواه البخاري ومسلم .

إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)

قوله :إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج : مختلطة من ماء الرجل وماء المرأة (نبتليه) نختبره بالتكاليف الشرعية فيما بعد فجعلناه من أجل ذلك ذا سمع وذا بصر ليسمع الآيات ويرى الدلائل (إنا هديناه السبيل) إنا بينَّا له وعرَّفناه طريق الهدى والضلال والخير والشر ليكون (إما) مؤمنًا (شاكرًا وإما كفورًا) جاحدًا.

إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالا وَسَعِيرًا (4)

قوله :إنا أعتدنا للكافرين سلاسلا ، في نار جهنم (وأغلالا) من حديد تُشَدُّ بها أرجلهم وأغلالا تُغلُّ بها أيديهم إلى أعناقهم ويوثقون بها (وسعيراً) أي ناراً تستعر بها أجسامهم وتحرق بها أبدانهم وهذا العذاب الدائم مؤبد لهم مخلدون فيه سرمدا.لمَّا ذكر ما أعدَّه لهؤلاء الأشقياء من السعير شرع في بيان حسن حال الشاكرين أثر بيان سوء حال الكافرين وإيرادهم بعنوان البر للإشعار بما استحقوا به ما نالوه من الكرامة السنية (إِنَّ الأبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا) قوله: (إن الأبرار) جمع بر أو بار كرب وأرباب وشاهد وأشهاد، فهم الذين برت قلوبهم بما فيها من معرفة الله ومحبته والأخلاق الجميلة فبرت أعمالهم واستعملوها بأعمال البر فأخبر أنهم (يشربون من كأس) أي شراب لذيذ قد مزج بكافور أي خلط به ليبرده ويكسر حدته وهذا الكافور في غاية اللذة قد سلم من كل مكدر ومنغص موجود في كافور الدنيا .

عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا 6 يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا 7 وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا 8 إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا 9 إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا 10

هذا الشراب الذي مزج من الكافور هو عين يشرب منها عباد الله يتصرفون فيها ويُجْرونها حيث شاءوا وأين شاءوا من قصورهم ودورهم ومجالسهم ومحالهم، هؤلاء كانوا في الدنيا يوفون بما أوجبوا على أنفسهم من طاعة الله ويخافون عقاب الله في يوم القيامة الذي يكون ضرره خطيرًا وشره فاشيًا منتشرًا على الناس إلا مَن رحم الله ويُطْعِمون الطعام مع حبهم له وحاجتهم إليه وفي الصحيحين :"جَاءَ رَجُلٌ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قالَ: أَنْ تَصَدَّقَ وأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الفَقْرَ، وتَأْمُلُ الغِنَى، ولَا تُمْهِلُ حتَّى إذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ، قُلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا، ولِفُلَانٍ كَذَا وقدْ كانَ لِفُلَانٍ" ، فقدموا محبة الله على محبة نفوسهم فمنحوا فقيرًا عاجزًا عن الكسب لا يملك من حطام الدنيا شيئًا وطفلا مات أبوه قبل سن البلوغ وأسيرًا أُسر في الحرب من المشركين وغيرهم ويقولون في أنفسهم: إنما نحسن إليكم ابتغاء مرضاة الله وطلب ثوابه لا نبتغي عوضًا ولا نقصد حمدًا ولا ثناءً منكم إنا نخاف من ربنا يومًا شديدًا تَعْبِس فيه الوجوه وتتقطَّبُ الجباه مِن فظاعة أمره وشدة هوله .

فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا 11 وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا 12 مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا 13 وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا 14

قوله :(فوقاهم الله) من شدائد ذلك اليوم وأعطاهم حسنًا ونورًا في وجوههم وبهجة وفرحًا في قلوبهم وأثابهم بصبرهم في الدنيا على الطاعة جنة عظيمة يأكلون منها ما شاؤوا ويَلْبَسون فيها الحرير الناعم (متكئين فيها) على الأسرَّة المزينة بفاخر الثياب والستور لا يرون فيها حر شمس ولا شدة برد وقريبة منهم أشجار الجنة مظللة عليهم وسُهِّل لهم أَخْذُ ثمارها تسهيلا .

وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا 15 قَوَارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا 16 وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلا 17 عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلا 18

ويدور عليهم الخدم بأواني الطعام الفضيَّة وأكواب الشراب من الزجاج زجاج من فضة قدَّرها السقاة على مقدار ما يشتهي الشاربون لا تزيد ولا تنقص ويُسْقَى هؤلاء الأبرار في الجنة (كأسًا) مملوءة خمرًا مزجت بالزنجبيل يشربون مِن عينٍ في الجنة (تسمى سلسبيلا) لسلامة شرابها وسهولة مساغه وطيبه.

وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا 19

ويدور على هؤلاء الأبرار لخدمتهم غلمان دائمون على حالهم لا يتغيرون ولا يكبرون وهم في غاية الحسن إذا أبصرتهم ظننتهم- لحسنهم وصفاء ألوانهم وإشراق وجوههم اللؤلؤ المفرَّق المضيءوهذا من تمام لذة أهل الجنة أن يكون خدامهم الولدان المخلدون الذين تسر رؤيتهم ويأتونهم بما يدعون وتطلبه نفوسهم .

وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) وإذا أبصرت أيَّ مكان في الجنة رأيت فيه (نعيمًا) لا يُدْركه الوصف، ومُلْكا عظيمًا واسعًا لا غاية له عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) يعلوهم ويجمل أبدانهم ثياب بطائنها من الحرير الرقيق الأخضر وظاهرها من الحرير الغليظ ويُحَلَّون من الحليِّ بأساور من الفضة وسقاهم ربهم فوق ذلك النعيم شرابًا لا رجس فيه ولا دنس . (إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا 22) قوله :(إن هذا) أُعِدَّ لكم مقابل أعمالكم الصالحة وكان عملكم في الدنيا عند الله مرضيًا مقبولا .(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلا 23) إنا نحن نَزَّلْنا عليك - أيها الرسول- القرآن تنزيلا من عندنا لتذكر الناس بما فيه من الوعد والوعيد والثواب والعقاب .(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا 24 وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلا 25) قوله :(فاصبر لحكم ربك) القدري واقبله ولحكمه الديني فامض عليه (ولا تطع) من المشركين من كان منغمسًا في الشهوات أو مبالغًا في الكفر والضلال وداوم على ذكر اسم ربك ودعائه في أول النهار وآخره .(وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلا طَوِيلا 26) أي أكثر له من السجود وذلك متضمن لكثرة الصلاة .(إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلا 27) قوله :(إن هؤلاء) المشركين (يحبون) الدنيا وينشغلون بها ويتركون خلف ظهورهم العمل للآخرة ولما فيه نجاتهم في يوم عظيم الشدائد .(نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلا 28) نحن خلقناهم وأحكمنا خلقهم, وإذا شئنا أهلكناهم وجئنا بقوم مطيعين ممتثلين لأوامر ربهم .

(إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا 29 وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا 30 يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا 31)

قوله :(إن هذه) السورة عظة للعالمين فمن أراد الخير لنفسه في الدنيا والآخرة اتخذ بالإيمان والتقوى طريقًا يوصله إلى مغفرة الله ورضوانه وما تريدون أمرًا من الأمور إلا بتقدير الله ومشيئته إن الله كان عليمًا بأحوال خلقه حكيمًا في تدبيره وصنعه (يُدْخل مَن يشاء) مِن عباده (في رحمته) ورضوانه وهم المؤمنون وأعدَّ للظالمين المتجاوزين حدود الله عذابًا موجعًا .

تم تفسير سورة الإنسان ولله الحمد والمنة

5 - 8 - 1437هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

1 + 9 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 124 الجزء الثالث ‌‌أهمية الغطاء على وجه المرأة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 123 الجزء الثالث ‌‌حكم قيادة المرأة للسيارة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر